التخطيط الأسري في المجتمع الإسلامي

التخطيط الأسري في المجتمع أمرٌ ضروري
التخطيط الأسري في المجتمع أمرٌ ضروري


يعتبر التخطيط أمرا ضرورياً وشرطاً أساسياً، وذلك بغية تحقيق المقاصد المرسومة والنتائج المطلوبة التي تضمن لنا السعادة والنجاح في حياتنا اليومية والمستقبلية ، وقد وضعت لعملية التخطيط تعريفات عدة، فقد اعتبر بعضهم أن التخطيط هو رسم صورة مستقبلية لما ستكون عليه الأعمال ورسم السياسات والإجراءات المناسبة للوصول إلى الأهداف والغايات المرجوة فى أقل جهد وتكلفة ممكنة. فيما اعتبر آخر أن التخطيط هو أسلوب أو منهج يهدف إلى حصر الإمكانيات و الموارد المتوفرة ودراستها و تحديد إجراءات استغلالها لتحقيق أهداف مرجوة خلال فترة زمنية معينة.

وتنبغي الإشارة إلى أن مفهوم التخطيط ليس دخيلاً على الإسلام مفهوماً ومصداقا، فالمتتبع لآيات القرآن الكريم يلحظ التبني الكامل لمنهج التخطيط من خلال دعوة المؤمنين إلى الإلتزام به في كافة شؤون حياتهم :"( قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)" سورة يوسف )، ويبدو واضحاً من خلال هذه الآيات التخطيط للمستقبل المرتقب والإستعداد لمواجهات الصعاب المفترضة فيه .

وبناء على شمولية مبدأ التخطيط ، فإن الكيان الأسري الذي هو المكوّن الأساسي للمجتمع الإسلامي، لا بد أن يكون محكوماً لهذا المبدأ بدرجة كبيرة ، وذلك نظراً للنتائج والآثار المترتبة إجتماعياً على تماسك هذا الكيان أو انهياره .

من هنا فإن الكلام عن التخطيط الأسري يقودنا إلى دراسة جوانب عديدة تتعلق بتكوين الأسرة وحاجاتها المادية والمعنوية ، وضرورة التوقف عند المعوقات والإعتراف بها كأمر واقع لا يجوز التعاطي معه بمنطق التواكل والامبالاة . وتأتي في أعلى قائمة هذه الجوانب الحَرية بالإهتمام مسألة الإعداد التربوي الموّجه لكل من الزوج والزوجة ليتحملا مسؤوليتهما كأبّ وأمّ في دائرة الأسرة ، وهذا الأمر على درجة كبيرة من الأهمية ، لأنَّ الأبوة أو الأمومة بمعناها الحقيقي ليست صفة تكوينية أو برنامجاً وظيفياً يمكن أداؤه بأي حال ، بل لا بد من التخطيط الواعي في عملية الإعداد والتدريب لكي يصبح الزوج متمكناً من الناحية المعرفية والعملانية من أداء دور الأب ، كذلك لتصبح الزوجة جديرة ثقافياً وتربوياً بدورها كأم .

وفي سلم الأولوية ذاته لا بد أن يراعي التخطيط الأسري مسألة الأنجاب وأن يتناولها بموضوعية وواقعية ، سيما أن اللغط والإلتباس أحاط بهذه المسألة جراء التداخل بين مفهومي التحديد والتنظيم للنسل ، بيد أن التمايز بينهما واضح للمتأمل ، ففي حين اختلف علماء المسلمين في مسألة تحديد النسل بين معارض على نحو الإطلاق ، و مؤيد على نحو التقييد ، وتعددت الكتابات والآراء حول هذه المسألة وما يتصل بها من عناوين أولية وثانوية ،غير أن مواقفهم من تنظيم النسل التقت على القبول والموافقة .

ولعل هذا التباين حول المفهومين يلزمنا بيان الفرق بين تحديد النسل وتنظيمه كمقدمة لمدخلية تنظيم النسل في عملية التخطيط الأسري .

ـ أولا: تحديد النسل : وينظر إليه من ناحيتين الأولى شخصية وهي تتعلق بالزوج والزوجة بحيث يتخذان قراراً نهائيا بالإمتناع عن الإنجاب وإزالة الأسباب الطبيعية الممكنة من عملية الحمل ، وهذا محرم من الناحية الدينية لإنه خلاف الحكمة الإلهية من التناسل البشري واستمرار الوجود الإنساني على وجه الأرض . ويدخل في هذا الجانب من باب الإستثناء الإمتناع عن الإنجاب بشكل نهائي فيما لو أدى إلى وفاة الزوجة . الناحية الثانية وهي إجتماعية عامة كما لو اتخذت الحكومة في بلد ما قراراً بتحديد النسل وحصر الإنجاب بولد أو ولدين ، وهذا الأمر مرفوض من قبل فقهاء المسلمين وعلمائهم لأنه تدخل في حق شخصي من جهة ، ومخالفة لسنة الله ورسوله من جهة ثانية . غير أن اللافت في الأمر أن جدلاً فقهياً إستدلالياً يطرح في أواسط الفقهاء والمحققين حول أهلية الحكومة اتخاذ قرار بضرورة تحديد النسل مراعاة للظروف والعوامل الاقتصادية والإجتماعية وغيرها والتي تشكل الكثافة السكانية عندها عبئاً اجتماعياً عاماً ،وإن لم يكن كذلك على صاحب العيال نفسه ، وقد أشار إلى هذا الأمر الدكتور حبيب الله طاهري عضو الهيئة العلمية لجامعة طهران في نهاية بحثه المعنون ب :" تحديد النسل في الشريعة الإسلامية قراءة فقهية وحقوقية " إلى أنه إذا كانت كثرة الأولاد في العائلة مبعث فخر واعتزاز، وكثرة السكّان في المجتمع سبب عزّته وشوكته وقدرته وعظمته، فإنّ زيادة النسل تغدو أمراً راجحاً ومستحبّاً، وفي صدر الإسلام كانت الحال على هذا المنوال، والمسلمون لقلّة عددهم كانوا ضِعافاً وكانت كثرة نفوسهم مبعث شوكتهم واقتدارهم، أي في ذلك العهد كانت الكمية فعّالة، أمّا إذا لم تكن الكثرة كذلك بل كانت سبباً للذلّة، والحقارة، والخسّة، والفقر، والجهل، والبطالة، والمرض، والجريمة، وفي آخر المطاف التبعية للإستكبار العالمي.. فلن تكون زيادة النسل مطلوبةً ولا مستحبة.

وللعلّة هذه، جوّز كثير من فقهائنا العظام كالإمام الخميني، وآية الله الخامنئي، وآية الله فاضل اللنكراني وآية الله مكارم الشيرازي و.. تحديد النسل بشكل مشروط، فأيّدوا منع الحمل وفق الشرائط المذكورة ولم يعتبروه مخالفاً للشرع، كما يظهر ذلك بمراجعة كتب استفتاءاتهم المطبوعة مثل جامع المسائل ومجمع المسائل، والإستفتاءات الجديدة وغير ذلك."

ثانياً : تنظيم النسل : وهو إجراء يتخذه كلا الزوجين في دائرة حياتهما الزوجية الأسرية ، دون أن يتخذ صفة الكلية أو التعميم أو الإلزام ، بمعنى أنه لا يكون صادراً عن جهة خارجية كالحكومة أو أي سلطة أخرى ، ويقضي هذا الإجراء بمراعاة كافة الظروف التي تجعل من الإنجاب العشوائي مشكلة وثقلاً تنسحب آثاره السلبية عليهما وعلى أطفالهما ، ويكون هذا الإجراء منسجماً مع طبيعة الظروف المحيطة فهو يتغير ويتبدل تبعاً لتغيرها وتبدلها ، وعليه فإنَّ تنظيم النسل لا يعني الإمتناع الكلي والنهائي عن الإنجاب ، ولا يبيح إستعمال الطرق والوسائل التي تجعل من القدرة عليه أمراً مستحيلا .

وبعد بيان الفرق بين تحديد النسل وتنظيمه ، يقودنا التخطيط الأسري الناجح إلى تبنّي الخيار الثاني وهو تنظيم النسل بإعتباره ضرورة ، سيما وأن الدعوات الإسلامية للتكاثر والتناسل مقيدة بضرورة الإعداد والتنشئة القويمة ومراعاة الإحتياجات التي تتغير وتتطور بتطور الأحوال والأزمان ، فليس منطقياً أن نربط عملية الإنجاب بالعامل الإقتصادي على أهميته وأرجحيته ، ونغض الطرف عن العوامل الأخرى ، فقد يكون ممكناً في بعض المجتمعات أن يلبي ربُّ الأسرة الإحتياجات المادية لعشرة أبناء مثلاً ، وفي بعضها الأخر يكون ذلك مستحيلا ، وفي كلا الحالين لا بدَّ من مراعاة جوانب أخرى تفوق العامل الإقتصادي أهمية ، كإحاطة الولد بالرعاية والإهتمام، ومنحه الوقت المستحق من المتابعة ، والتفرغ لتربيته على القيم والأخلاق الفاضلة ، ومواكبة نموه وتطوره التكويني والذهني ، بما يفرض مواكبته والإقبال عليه للتعرّف على مشاكله وهواجسه ،والإستماع إلى آرائه واحترام تطلعاته ووجهات نظره .

إن التخطيط الأسري يأخذ بعين الإعتبار النتائج السلبية الناجمة عن العددية المفتقرة إلى التوجيه والإرشاد ، لذا فإن العمل بمبدأ التخطيط يشكل ضماناً إجتماعياً يحول دون رفد المجتمع بعددية مستهلكة لا قدرة لديها على الإنتاج والإبداع في مختلف أشكاله ، أو عددية أميّة قد تجد لها إلى الإنحراف والسقوط سبيلا، وهذا ليس مجرد تخمين خصوصاً عندما نقرأ أن مئة مليون في العالم العربي من الأمييّن والأميّات ، وأن معدل البطالة يشير إلى أن عدد العاطلين عن العمل في نهاية عام 2009 يصل إلى 59 مليون نسمة في المجتمعات العربية .

أمام هذا الواقع المرشّح إلى ما هو أسوأ يطرح التخطيط والوعي الأسري كحاجة أساسية تستمد شرعيتها من روح الإسلام ، ولا تصطدم بثوابت الإيمان المبني على الثقة بالله تعالى باعتباره المصدر الأول والآخر للخير والعطاء ..

* كاتب وباحث لبناني

Ch.m.kanso@hotmail.com

تعليقات: