قراءة في مشروع قانون لحماية النساء من العنف الأسري

ضرورة الإتجاه لوضع حد رادع لتفشّي ظاهرة العنف الأسري
ضرورة الإتجاه لوضع حد رادع لتفشّي ظاهرة العنف الأسري


تخطو العديد من الدول العربية والإسلامية خطوات متقدمة في اتجاه وضع حد رادع لتفشّي ظاهرة العنف الأسري ، وذلك من خلال سنِّ قوانين وتشريعات ملزمة تضع العنف الواقع على الأنثى في دائرة الحياة الأسرية موضع الجريمة ، بما يعني ذلك من تبعات تقع على عاتق الرجل المعنِف ،وبما يستلزم ذلك من نتائج ومسؤوليات يُفترض به مواجهتها وتحمّل أعباءها .

ومن جملة الدول التي ترجمت سعيها العملي لعلاج هذه الظاهرة اللاإنسانية الأردن ومصر والمغرب والبحرين ومؤخراً لبنان، فقد تقدّمت جمعية " كفى عنف وإستغلال(1) " بنص مشروع متكامل (2)من سبع وعشرين مادة قانونية إلى الحكومة اللبنانية التي أقرّته وأحالته على المجلس النيابي .

ويجدر بنا التعريف بالمعنى الإصطلاحي لظاهرة العنف الأسري ، فهو العنف الممارس ضد المرأة والذي يرتكب من أحد أفراد أسرتها أباً كان أو أخاً أو زوجاً أو إبنا ، بما يلحق بها أذى ومعاناة جسدية أو نفسية أو جنسية أو إقتصادية .

ومما لا شك فيه أنَّ الإسلام كتشريع سماوي يتبنى الدعوة إلى إنصاف المرأة والإعتراف بوجودها واحترام حقوقها ، إلا أنِّه ولبالغ الأسف لم يتمكن المسلمون من القضاء على الموروثات الجاهلية التي تعتبر المرأة عورة أو رجساً من عمل الشيطان ، ولم تتمكن مواعظ الخطباء المنصفين من تسجيل اختراق كلي في النظرة السوداوية للأنثى كمجلبة للعار والفقر ، ولم تفلح الكتابات الصادقة في تذويب التلازم الإفتراضي بين الشؤم والأنثى بنحو كامل ، مع الإعتراف والتقدير للمبادرات الحميدة التي أحدثت ثغرات مهمة في جدارية التخلّف المزمن .

وبالعودة إلى قانون حماية النساء من العنف الأسري ، وفي قراءة منصفة متلمّسة للواقع الذي تعيشه المرأة في مساحة واسعة من العالمين العربي والإسلامي نجد أنّه ضرورة لا بدَّ منها خصوصا إذا اخذنا بعين الإعتبار أموراً عديدة :

أولاً : إنَّ هناك بوناً شاسعاً بين التشريع الإسلامي كمفهوم وبين الممارسة الشعبية المسماة إسلامية والتي تحتكم في كثير من الأحيان إلى الغرائزية وإلى التربية الذكورية الضاربة في عمق المجتمعات العربية .

ثانياً : إنَّ الفهم الحقيقي للشريعة الإسلامية يقودنا إلى شجب واستنكار كلِّ أشكال العنف الذكوري الممارس ضد المرأة ، سواء في الدائرة الزوجية أو غيرها ، وأن ما أخذ على ظاهره بما يوحي تبني الإسلام للعنف الأسري إنّما هو من خطأ المتشرعة وليس خطأً في التشريع ، ومع هذا فإنَّ العنف أمرٌ واقعٌ ولا يمكن استئصاله ببيان توضيحي أو موعظة دينية .

ثالثاً : إنَّ إعتراض البعض على مشروع حماية المرأة من العنف الأسري يكون منطقياً فيما لو كانت مواد القانون مخالفة لأسس التشريع الإسلامي، أو معارضة له فيما يخصّ الأحوال الشخصية وما يرتبط بها ، أو في حال تضمنت مواد القانون تحريضاً على القيم والأعراف السائدة في مجتمعاتنا الإسلامية ،أو اشتملت الدعوة - تحت مسميات الحرية والحقوق المدنية - إلى هدم المؤسسة الزوجية ودفع المرأة للتمرَّد على دورها كزوجة وأمّ ، وهذا يستدعي دراسة القانون بتجرّد، ومناقشة مواده بجوّ من الإنفتاح والثقة لأنَّ الإعتراض أو الرفض المسبق دون دليل من المستقبحات العلمية .

رابعاً : لا بدَّ من الإعتراف الصريح بقصور المؤسسات الدينية عن معالجة ظاهرة العنف الأسري، وذلك لأنَّها لا تملك السلطة الرادعة التي تخوّلها مساءلة المعنِّفين ومحاسبتهم ، سيما في المجتمعات المدنية كلبنان على سبيل المثال ، فإنَّ دور المؤسسات الدينية لا يعدو كونه إرشاديّا ، كذلك فإنَّ المحاكم الدينية لا تملك سلطة مستقلة وإنما تستمدّ سلطتها من كونها تابعة للحكومة ،وعليه فلا مناص لتنفيذ الأحكام وإبرامها من الرجوع إلى السلطة الفعلية القائمة .

خامساً : لا بدِّ من النظر إلى قانون حماية النساء من العنف الأسري باعتبار أنّه يشكّل رادعاً لكل الذين تسوّل لهم أنفسهم ممارسة العنف ، أو ارتكاب جريمة القتل تحت عنوان جرائم الشرف أخذا بالظنّة والتهمة ومن يطّلع على معدلات الجرائم المسجلة بحق المرأة يستشعر الحاجة إلى قانون حماية فعلي نافذ.

سادساً : إنَّ ما يبرّر الحاجة إلى قانون حماية النساء من العنف الأسري لا يقتصر على جانب التعنيف والإيذاء الجسدي ، وإنما يشمل العنف المعنوي والنفسي والحقوقي الذي يمارسه الذكر داخل الأسرة ليس إلا لعقدة التفوّق الجندري الذي ساهمت التربية المجتمعية الشعبية في تعزيزه وتثبيته. وهنا أسأل المعترضين على قانون الحماية هل بإمكانكم أن تمنعوا زوجاً من التنكيل بزوجته لتتنازل عن مهرها وحقوقها ليطلق بعد ذلك سراحها بالطلاق !؟! هل بإمكانكم أن تحفظوا حق الإبنة بتقرير المصير ورفض الزواج الإكراهي الذي يفرضه عليها والدها أو أخوها ؟! هل بإمكانكم أن تحفظوا حق الأخت بحصتها في الإرث فيما لو أُكرهت على التنازل عنها لأخيها إمّا خوفاً أو تدليسا ؟! وهنا أسمح لنفسي ـ ومن خلال تجربتي الإجتماعية ومعرفتي اللصيقة بأمور الناس ـ القول أنَّ هناك ظلماً لا يمكن رفعه إلا بقانون حماية يحفظ الحقوق ويحقق العدالة بين أفراد الأسرة ذكوراً وإناثا .

سابعاً : يرى البعض في سن قانون حماية أسري عائقا في طريق الإقبال على الزواج ، أو مخوفاً يتهدد الحياة الزوجية ويجعلها عرضة للإنهيار ، باعتبار أنّه يحوّلها إلى علاقةٍ ندية تفتقر إلى المحبة والرحمة والسكنى . ويعتبر هذا الإعتراض صائباً فيما لم يكن لقانون الحماية ما يبرره من وجود عنف واستبداد ذكوري ممارسٍ بشكل علني وواضح ، كذلك فإنَّ الإبقاء على ظاهرة التعنيف دون مواجهتها بالسبل القانونية ، وإرغام المرأة على السكوت خوفاً من الفضيحة ،ودفعها إلى تقبّل العنف بأشكاله المختلفة من شأنه أن يفرغ الحياة الزوجية من محتواها الإنساني ويجعل منها هيكلاً خاليا من الروح والحياة ! ،كما أنّه يشكّل سبباً رئيسياً في انهيار الحياة الزوجية بما له من آثار إجتماعية سلبية ، ثم أنَّ قانون الحماية هو تشريع وقائي يُلجأ إليه في حالات إستثنائية ،وعليه لا يصح إعتباره حاكماً على الحياة الزوجية مهيمناً على كل تفاصيلها ،ولا ينبغي النظر إليه كسلاح بيد المرأة تستعمله متى شاءت لمبارزة الرجل أو الهيمنة عليه.

ثامناً : إنَّ المتأمل في مشروع حماية النساء من العنف الأسري المقترح من قبل جمعية كفى عنف وإستغلال اللبنانية يلحظ في مادته الثالثة في فقراتها 1-2-3 حرصاً على السلامة الأخلاقية والمسلكية من خلال تجريمه من يجبر إحدى الإناث في دائرة الأسرة على التسوّل ،أو يدفع بإحدى الإناث في الأسرة إلى ممارسة الرذيلة والفحشاء طوعاً أو كرهاً بغية تحصيل المعاش ، وهذه المادة بفقراتها الثلاث تشكّل قاسماً مشتركاً بين القانون المقترح والشريعة الإسلامية التي تحرّم البغاء وتشدّد العقوبة على مرتكبيه و المروّجين له ، أو الدافعين إليه عن طريق الإكراه والجبر .

وفي ختام هذه القراءة المقتضبة والعامة لمشروع قانون حماية النساء من العنف الأسري يجدر بي التذكير أنَّ علاقة الإنسان بمثيله الإنسان يجب أن تكون محكومةً لضوابط الفطرة السليمة والقيم الخلقية الرفيعة ، سواء أكانت هذه العلاقة في حدود الأسرة أو تعدّتها إلى المجتمع الرحب ، وإذا عاش الفرد منا صفاء الفطرة في أسرته و مجتمعه وعمل بمبدأ العدالة والإنصاف ، فإنِّ تشريع القوانين سيما الرادعة منها يبقى وقائياً لا يعمل به إلا عندما تدعو الحاجة إليه .

ــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) جمعية أهلية لبنانية مناهضة لكافة أشكال العنف والتمييز ضد المرأة

(2) وثيقة مشروع قانون لحماية النساء من العنف الأسري

الشيخ محمد قانصو

كاتب وباحث لبناني

Ch.m.kanso@hotmail.com

تعليقات: