«باعوا ولديّ للخليج حين كنت سجيناً في سوريا»

محمود الناموسي خسر موطنه يوم ولد عام 1948، وطاف من بلد إلى آخر حتى استقرّ في بيروت حيث رزق طفلين. عام 1982، رحل مع المقاومة الفلسطينية وقبضت عليه المخابرات لاحقاً وسجنته لسنين في مكان معزول عن العالم... وخلال عزلته أضاع محمود أغلى ما بقي له: ولديه. محمود يفتّش عن إيهاب وهيفاء... هل من يساعد؟

«كل ما أريده هو لقاء ولديّ: إيهاب وهيفاء اللذين لم أرهما منذ 25 سنة!». زار «الأخبار» أمس محمود مصطفى الناموسي، وهو أب لطفلين فقدهما بعد قضائه 16 عاماً في السجن في سوريا. وأفرج السوريون عنه عام 2002 بعدما اعتقلوه عام 1986 بسبب خلافات فلسطينية ـــ سورية، إذ كان محمود ينتمي الى حركة «فتح». وقال إنه كلّف أصدقاء من عائلة بيروتية معروفة العناية بطفليه (وهما من مواليد 1975 و1976) خلال فترة غيابه وذلك عندما سافر إلى قبرص مع أفواج المقاومة الفلسطينية إبان الاجتياح الإسرائيلي لبيروت عام 1982. كان محمود يقيم في منطقة الحمرا، وهو مطلّق من زوجته اللبنانية فاطمة منذ 1979. وبما أن الطفلين لم يكونا قد بلغا السابعة، كان من حقّه القانوني حضانتهما. وخلال عام 1986، عندما عاد الى لبنان عن طريق سوريا، اعتقلته السلطات الأمنية السورية وسجن 16 عاماً دون أن يعرف عنه أحد شيئاً طوال تلك الفترة. فأصدقاؤه وزملاؤه في «فتح» اعتبروه ميتاً، بينما اعتقدت زوجته السابقة أنه مع الطفلين في أحد بلدان اللجوء، ولم تكتشف حقيقة الأمر إلا عام 2002 عندما أطلق سراحه. وخلال غياب محمود تزوجّت فاطمة وأنجبت خمسة أطفال، وتابعت حياتها من دون أن تدري أن محمود كان حيّاً يرزق في السجن، لا بل من دون أن تدري أن العائلة البيروتية التي كان محمود قد كلّفها العناية بطفليه خلال غيابه «رحّلت الولدين بجوازين مزوّرين الى دولة خليجية وسلّمتهما إلى عائلة ثرية لقاء مبلغ من المال».

كيف علم محمود بالأمر؟

كان معتقلاً في سجن في ريف دمشق، معزولاً عن العاصمة السورية وعن أي اتصال بالخارج. خلال 16 عاماً ممّا يشبه الحياة في ظلام سجن يتخلّله التعذيب الجسدي والنفسي، كان محمود قلقاً على مصير ولديه. وقال إن الصمت كان وسيلة التعذيب الأكثر إيلاماً التي تعرّض لها في سنوات سجنه. عاماً بعد عام في غياهب السجن لم يزره أحد، وخلال عشر سنين «زرب» في زنزانة إفرادية ضيّقة، مساحتها لم تسمح له حتى بالتمدّد.

بعد الإفراج عن محمود عام 2002 وتركه في البقاع (منطقة الصويري)، بدأ رحلة البحث عن ولديه، فزار منزله القديم المهجور. وفي مطلع 2003 جمعته الصدفة في زحلة بشخص يدعى ربيع، هو أحد أقارب العائلة البيروتية التي كان قد كلّفها العناية بطفليه في غيابه. وروى له ربيع أن ولديه بخير وأنهما موجودان في أحد البلدان الخليجية (وسمّاه له). فطلب محمود لقاء سامية، وهي السيدة البيروتية التي قال إنّها سفّرت الولدين الى الخليج. وتمّ اللقاء بعد أسبوع. ويقول محمود إن سامية روت له أنها كانت تعتقد أنه توفي لعدم توافر أي اتصال به، فبحثت عن مكان أو جهة تحضن الولدين، وساعدتها في هذه المهمّة شقيقتها ثريا. وبحسب محمود، كانت ثريا تعمل لحساب عائلة خليجية ثرية. فتمّ ترتيب تبنّي تلك العائلة إيهاب وهيفاء عام 1982 وسفّرا إلى الخليج «بجوازين مزوّرين». وغيّرت العائلة الخليجية اسمَي الولدين من إيهاب وهيفاء الى محمد ومنى. وطلب محمود الاتصال بطفليه اللذين يبلغان اليوم 31 و32 سنة ووعدته سامية بأنها ستزوّده في غضون شهر بعنوانهما وطريقة الاتصال بهما.

الطريق إلى المحكمة

مرّ شهر ولم تفِ سامية بوعدها، فذهب الأب الباحث عن ولديه الى سفارة إحدى الدول الخليجية وطلب مقابلة السفير، وقدّم له مستندات تثبت أنه والد الطفلين. وخلال ستة أشهر بقي على اتصال بالسفارة التي عرضت عليه في نهاية الأمر «مبلغاً من المال قدره 50 ألف دولار أميركي لقاء وقفه البحث عن ولديه». وقال محمود إن السفير «حاول بمساعدة معاونيه إقناعي بأن أنسى الأمر بحجّة أن ولديّ بخير وهما يعيشان حياة رفاهية ومقتنعان بأن والدهما توفي منذ سنين» وأن لقاءهما به سيؤثّر سلباً عليهما.

رفض محمود «عرض» السفير الخليجي. وقرّر اللجوء الى القضاء اللبناني. وفي تشرين الاول 2003 حضر الى مخفر زقاق البلاط في بيروت وقدّم شكوى ضد العائلة البيروتية التي رحّلت طفليه الى الخليج. ودوّن في محضر الشكوى أن كلّ ما يبتغيه محمود هو لقاء ولديه. استدعى المخفر سامية وزوجها توفيق وشقيقتها ثريا للاستماع إليهم في هذه القضية. وتبيّن لاحقاً أن إفاداتهم التي دوّنت في محاضر الشرطة تنطوي على تناقض واضح. ففي إحدى الإفادات تنكر سامية وثريا معرفتهما بمحمود وبولديه، بينما تقولان في محضر آخر إنهما تعرفانهم. فقرّرت الضابطة العدلية بإشراف القضاء المختصّ توقيف ثريا وسامية وتوفيق لمدة يومين. ويقول محمود إنه في تلك الفترة دخلت صبحية، وهي ابنة ثريا على الخطّ. فزارت السفارة الخليجية «وهدّدت السفير بأنها ستقدّم الى القضاء نسخة عن شيك مصرفي مسحوب من حساب أحد الأثرياء الخليجيين بقيمة 100 ألف دولار قبضته سامية لقاء ترحيل الطفلين الى الخليج» (وهو شيك مسحوب من أحد المصارف الغربية في لبنان بحسب معلومات محمود). وقال محمود إن مسؤول الأمن في السفارة كُلّف متابعة الموضوع في المخفر للحؤول دون إقدام صبحية على فضح مسألة الشيك المصرفي. واستدعي في اليوم نفسه محمود الى المخفر حيث أبلغه معاون أول أن مذكرة توقيف بحقّه كانت قد صدرت عن المحكمة العسكرية بتهمة الاتجار بالسلاح. فاعتُقل محمود في 28/9/2004 وسجن وقضى ثلاثة أشهر وراء القضبان بناءً على حكم صدر وجاهياً بحقّه عن المحكمة العسكرية يوم 10/12/2004.

خلال مدّة سجنه، زاره المعاون الأول التابع لمخفر زقاق البلاط برفقة سامية وطلبا منه التوقيع على تنازل عن الشكوى بحقّ سامية وثريا مقابل تعهّد بإعلامه عن مكان ولديه ووسيلة الاتصال بهما، وتزويده أموالاً وضعت في الأمانات لشراء حاجاته. فقبل محمود العرض لأن غايته لقاء ولديه لا إلحاق الضرر بأحد. ولكن عند خروجه من السجن في 29/12/2004 زار مخفر زقاق البلاط مجدداً ولم يُعلمه المعاون الأول بعنوان ولديه، وقال له إن سامية لم تترك أي خبر عن ذلك العنوان.

فقرّر محمود الادّعاء على المعاون الأول في المحكمة العسكرية بقضية رشوة. فأوقف القضاء العسكري المعاون الأول وصبحية، ثمّ أطلق سراحهما على أن يصدر الحكم في هذه القضية في 5/5/2007 المقبل.

وتقدّم محمود أيضاً بشكوى أمام النيابة العامة في قصر العدل ضدّ سامية وثريا لبيعهما ولديه إلى عائلة خليجية عام 1982. وعقدت جلسات تحقيق في قصر العدل، تغيّبت عنها ثريا وسامية. وصدر قرار ظني بحقهما كما صدرت مذكرات توقيف. لكن الضابطة العدلية لم تقبض على ثريا وسامية لأسباب بقيت مجهولة.

وطلبت وكيلة ثريا وسامية وقف تنفيذ مذكّرة التوقيف الغيابية بحقّهما يوم الثلاثاء الماضي، فوافق القاضي المنفرد الجزائي على الطلب لقاء كفالة مالية قدرها ثلاثة ملايين ليرة لبنانية لكلّ منهما. وطلبت المحامية خفض المبلغ، فوافق القاضي أيضاً، وتمّ تحديد المبلغ بمليون ليرة. وعيّن القاضي موعد جلسة النظر في القضية في 21 حزيران المقبل.

كل ما يريده محمود هو لقاء ولديه: إيهاب وهيفاء، اللذين لم يرهما منذ 25 عاماً... ألا يحقّ له ذلك؟

«الأخبار» ستلاحق هذه القضية

تعليقات: