السوق العقارية في لبنان تنطلق من حاجات المستثمر لا الأسواق

 المساحات الخضراء تتقلص لصالح المشاريع العقارية
المساحات الخضراء تتقلص لصالح المشاريع العقارية


خلل بين القيمة الاقتصادية والقيمة الشرائية قد ينتج مظاهر مضطربة..

تجمع الآراء و الأرقام على أن السوق العقارية في لبنان، ولا سيما في بيروت تشهد حركة استثنائية تجعلها موضوعاً يستوجب التحليل و الدراسة للاضاءة على الايجابيات وتفادي أي انعكاسات سلبية تتبع هذه الحركة الاستثنائية. ومما لا شك فيه أن السوق العقارية في لبنان ومنذ الاستقلال تتمتع بالحيوية، ويتخذ العقار أهمية لأنه يمثل الضمان الحقيقي في العملية الائتمانية المصرفية وعنصر الأمان للمستثمر في الداخل و من الخارج. اتخذت الحركة العقارية في لبنان منحى تصاعدياً تمثل بارتفاع مستمر في الأسعار، يتخلله ثبات أسعار لفترات قصيرة. ولم تتأثر السوق العقارية بأزمة حادة الا خلال الاعوام من 1999 و2005 عندما صار من الصعب تسييل العقارات لسد حاجات اصحابها من السيولة او لسداد ديونهم تجاه المصارف الدائنة. وخلال هذه الحقبة، ابدت المصارف مرونة خاصة معززة بتعميم مصرف لبنان فتملكت عقارات كثيرة استناداً الى المادة 154 من قانون النقد والتسليف بهدف سداد الديون المتعثرة، على ان تصفيها لاحقاً عملاً بمضمون المادة عينها.

حصل التحول الكبير في السوق العقارية في لبنان في العام 2006 وامتد الى عامي 2008 و 2009 وكان مرد ذلك الى الأسباب الآتية:

1 - ارتفاع حجم المداخيل والايرادات لدى العاملين اللبنانيين في الخارج، ولا سيما في منطقة الخليج العربي.

2 - الطفرة النقدية والمالية الحاصلة في منطقة دول الخليج نتيجة ارتفاع اسعار النفط ورغبة المستثمرين في ايجاد فرص استثمار متوسطة او طويلة الأمد الى جانب الاستثمارات السريعة في الأدوات المالية في اسواق الدول الغربية.

3 - الأزمة الاقتصادية العالمية وتحول عدد كبير من المودعين اللبنانيين او العرب الى الأسواق اللبنانية، سواء في السوق المصرفية او في السوق العقارية.

4 - ارتفاع السيولة لدى المصارف اللبنانية التي رغبت في توظيف اموالها في اسواق تحقق لها الربح والضمان الائتماني في آن واحد.

5 - الدعم المقدم من مصرف لبنان لخفض كلفة الاقراض السكني من خلال تحرير جزء من الاحتياطات القانونية.

6 - ضيق السوق المالية اللبنانية وعدم وجود تنوع كبير في الأدوات المالية في السوق اللبنانية دفع نحو الاستثمار المباشر في القطاعات الأكثر استقطاباً ولاسيما المصارف والسياحة والعقار.

وايا تكن الأسباب فنحن نعيش حاليا في بحبوحة نقدية وسيولة فائضة وتبقى العقارية السوق الأهم لامتصاص الفائض في السيولة وتحقيق العائد الصحيح للمصارف. وتمثل الحركة الائتمانية في هذه السوق عنصراً ضرورياً لتغطية كلفة الودائع المرتفعة نسبياً بالمقارنة مع معدلات الأساس في الخارج وضماناَ لاستمرار قبول هذه الودائع واستقطابها من الخارج لحاجة لبنان ليس الى زيادة حجم الودائع فحسب، بل لتعزيز ثقة المودع في الخارج في السوق المصرفية المحلية في ظل اسواق عالمية متأزمة.

قواعد ومعايير

لسنا من أصحاب الرأي في أن ما حدث في السوق العقارية في الولايات المتحدة وأوروبا يمكن أن يحدث في السوق اللبنانية، لأن المعطيات والأساليب تختلف، غير أننا نريد أن نذكر بالقواعد والمعايير الائتمانية السليمة التي تضمن الاقراض الصحيح وتبعدنا من الانزلاق في اخطار غير عادية.

واذا كانت السوق العقارية تفيد في الوقت الحاضر من عناصر ايجابية فاننا نرى انها لا يمكن ان تستمر طويلاً وهي تتمثل بالآتي :

1 - معدلات فوائد دائنة ومدينة في ادنى مستوياتها.

2 - فائض سيولة يتطلع الى فرص استثمار في اسواق محلية ودولية ضعيفة.

3 - ارتفاع كبير في اسعار العقارات.

هذه العناصر جعلت السوق العقارية مضطربة، وفي رأينا انها خسرت عناصر الثبات في التقييم بحيث صارت القيمة الاقتصادية للعقار ادنى بكثير من القيمة النقدية أو المالية. ويعود ذلك الى ان الاستثمار العقاري لم يأت تلبية لحاجات السوق، بل لحاجات المستثمرين، فالطلب على العقار لم يتقيد برغبة المستثمر في الاشغال او لأجل التأجير، بل نتج من رغبته في تحويل مدخراته موجودات حقيقة هرباً من أزمة مالية لم يفهم تفاصيلها او لولوج طريق التجارة في العقارات في ظل فوائد دائنة متدنية وغياب سوق مالية مزدهرة.

ويمكن تلخيص مظاهر الاضطراب بعناصر الفائدة والايجار والسعر، وذلك على الشكل الآتي:

أ - القواعد المالية تفترض قدرة العقار على سداد قيمته اصلاً و فائدة من خلال ايرادات التأجير ولمدة تراوح بين 15 و 20 سنة.

ب - الفوائد المدينة المتحركة تفترض اخطارا اضافية خلال مدة السداد الطويلة ولاسيما انها في ادنى مستوياتها.

ج - السعر الحالي يحدده توازن العرض و الطلب الهامشي Marginal supply and demand. وليس العرض والطلب الكلي، حيث يتجاوز الطلب أضعافا حجم العرض.

وعلى رغم الجهد الذي يبذله مصرف لبنان لتشجيع القروض الاسكانية بدعم الفوائد، فان اخطار الفائدة لا تزال قائمة، ويتحملها المدين الذي ربما يعجز عن سداد الاقساط اذا ارتفعت مجدداً. كما ان عدم قدرة مالك العقار على تأجيره بمبالغ تتجاوز معدلات الفوائد على القيمة السوقية يدل الى ضعف القدرة الشرائية وتنذر بضعف السوق وتدني الاسعار. اضافة الى ان استمرار العمل بالعرض والطلب الهامشي من دون الكلي يمكن ان يزيد فقط العرض من مخزون العقارات دون زيادة الطلب لعدم تناسب الأسعار مع الطلب الكلي.

واذا كنا نرى ان عام 2010 يبشر باستمرار الانتعاش الاقتصادي وتدفق الأموال، فنحن نعتقد ان تتخذ المصارف خطوات جادة من شأنها تحديد سياساتها الائتمانية في السوق العقارية وذلك من خلال التركيز على مصادر السداد الذاتية وعدم الاستناد كلياً الى مفهوم الضمانات العقارية، وفي هذا الاطار يمكن توزيع التسهيلات الائتمانية العقارية على اربع فئات:

1 - تمويل البناء – Construction Loan

هذا النوع يتميز بتمويل الانشاءات حتى الانجاز الكامل. ويشبه تمويل المقاولين ويشترط توافر امكان السداد من المالك. وحتى في حال توحيد المالك و المقاول في شخص واحد يجب ان يبقى التمويل محدداً بفترة الانجاز والتسليم.

تفترض المعايير الائتمانية الدولية سداد المالك قرض البناء اذا كان ممنوحا للمقاول، وتفترض وجود مشتر او مشترين ( Out-taker) اذا كان المالك والمقاول شخصاً واحداً.

تعتمد المصارف الدولية آلية لإسداء قروض البناء من خلال اشتراط وجود مسبق لمن يشتري كامل البناء فور انجازه، وهذا المشتري يقدم تعهداً مصرفياً بسداد القيمة فور تسليم البناء، وعند التسليم يتحول القرض الى مدين آخر بتصنيف جديد ووفقاً لما سيـأتي ذكره لاحقاّ.

المالك والمقاول

أما في لبنان فالحال تكون عادة بتوحيد المالك و المقاول من دون وجود مشتر مسبق ولذلك يكون تمويل البناء مشروطاً بتوافر توازن مصادر التمويل التي يجب ان تتوزع على الشكل الآتي:

أ - مصادر تمويل ذاتية من المالك

ب - مقبوضات البيوعات المسبقة

ج - الديون المصرفية.

في هذه الحال يجب ان تعتمد المصارف نوعين من التسهيلات على الشكل الآتي:

اولاَ - حساب مدين يمثل نسبة ضئيلة من حاجات التمويل ولا تتجاوز بأي شكل من الأشكال النسبة التي يمولها المالك في تكلفة البناء من دون كلفة الارض.

ثانياً - قروض تمثل نسبة من المقبوضات المتوقعة من البيوعات المسبقة والمثبتة بعقود بيع محررة أصولاَ من مشترين يتمتعون بالوضع الائتماني الصحيح.

تحتفظ المصارف في هذه الحالة - بنسبة وافية من المقبوضات على البيوعات او من قيمة الأقسام غير المباعة لتأمين سداد الحساب المدين المشار اليه في "أولاً" أعلاه.

يكون الضمان هو العقار موضوع التمويل لضمان السداد ومراقبة حركة التمويل. يمكن في هذه الحال الدخول في صورة فرعية مع المشترين بتمويل اسكاني او استثماري للأقسام المشتراة دون ان يحدث ذلك ازدواجية، لان القرض الممنوح للمشتري يستعمل لسداد القرض الممنوح أصلاً للمالك المدين مع ابقاء الضمان نافذ المفعول.

تكون مهلة هذه القروض محددة بمهلة انجاز وتسليم البناء الى المشترين، وفي حال عدم سداده خلال مدة قصيرة من التسليم تظهر ملامح الصعوبات في السداد التي يجب متابعتها دون ابطاء.

2 - تمويل تجارة العقارات Real Estate Trading Loan

يطبق هذا النوع على التسهيلات التي تمنح مقابل اقسام او عقارات جاهزة ومعدة للبيع.

هذا النوع من التسهيلات وان يكن مضمونا عقارياً فانه ليس تمويلا عقارياً بل تمويل تجاري شبيه بالتمويل التجاري لأي منشأة اقتصادية. الأقسام أو العقارات غير المباعة هي مخزون البضاعة الذي يملكه المدين ويعتمد في سداد الدين على تسييل هذا المخزون وتحصيل الذمم الناتجة منه. وهذا النوع من التمويل يشبه تمويل الرأسمال العامل ويشترط السداد خلال مهلة قصيرة جداً وفي غياب القدرة على السداد في المهلة القصيرة ترتفع مخاوف جمود الدين واحتمال التعسر.

3 - تمويل الاستثمار العقاري Real Estate Investment Loan

يقسم الاستثمار العقاري الى جزءين:

أ - الاستثمار الخاص، وهو يتمثل باشغال المالك للعقار، مثل المحل التجاري، وصالة العرض والمستودع والمكتب والمصنع.

ب - الاستثمار بغرض التأجير، وهو يتمثل بتأجير المالك للعقار من الغير.

النوع الأول يرتكز على قدرة المالك على سداد الأقساط، وتكون مهلة السداد طويلة، غير ان الاخطار الأساسية تكمن في تقدير التدفقات النقدية للمالك والتي تضمن سداد الدين وفقاً للجدول المتفق عليه. هذا النوع من التمويل يشترط وضعاً مالياً صحيحاً للمدين ولا يفترض ان يؤدي الى اخلال في ميزانية المدين او ارتفاع في مديونيته في شكل يؤدي الى إحداث صعوبات مالية ومشكلات سيولة. ان التوازن المالي للمدين شرط أساسي لهذا النوع من التمويل.

النوع الثاني هو استثمار عقاري يهدف الى تحقيق ايراد للمالك. هذا النوع من التمويل يكشف صحة السوق العقارية وتوازنها او الخلل فيها.

في تحليل دقيق لهذا النوع من التمويل نجد ان هناك خللاً واضحاً من شأنه ان يلفت رجال الاقتصاد والمال ويحدد مكامن الضعف في السوق العقارية اللبنانية.

من المتعارف عليه دولياً ان الاستثمار في العقار يجب ان يحقق تدفقاً نقدياً ايجابياً. اي ان ايجار العقار يجب ان يكفل سداد قيمة العقار أصلاً وفائدة خلال مدة تمتد من 15 الى 20 سنة.

وبمعنى ادق ان الدين المترتب على العقار المؤجر للغير يفترض سداده من ايجار العقار خلال مهلة 15 سنة، وعلى افتراض ان الدين لا يتجاوز الـ 80% من القيمة الشرائية للعقار.

هذا الأمر غير قائم في الأسواق اللبنانية. فهناك خلل واضح بين القيمة الاقتصادية و القيمة الشرائية للعقار. فالعقار المشترى من أجل تأجيره لا يمكن سداده من ايجاره. وبما ان ايراد الايجار هو القياس الذي تعتمده الاسواق في تحديد قيمته، نرى في لبنان ان القيمة الشرائية تتجاوز القيمة الاقتصادية، وبمعنى آخر فان قيمة السوق للعقارات في لبنان تفوق القيمة الاقتصادية لهذه العقارات.

4 - التمويل الإسكاني

يتمتع هذا النوع من التمويل بقيمة اقتصادية واجتماعية على حد سواء. الحاجة الاسكانية في البلاد كبيرة جداً تقدر بمعدل 20 الف وحدة سكنية سنوياً لمدة 10 سنوات على الأقل.

التمويل الاسكاني هو قرض طويل الأمد يستند الى حاجة الفرد الى السكن، والى قدرة هذا الفرد على شراء المسكن. تحدد قدرة الفرد على الشراء بقدرته على الاستدانة وتتحدد قدرة الاستدانة بقدرته على سداد القسط الذي بدوره يستند الى معدل الأجور والدخل الفردي.

في هذا النوع من القروض نجد ايضاُ خللاَ واضحاً. فالحد الأدنى للأجور ومعدل الدخل الفردي لا يسمح بالاستدانة بمبالغ تمكن الفرد من شراء المسكن. ومن المتفاهم عليه ان قيمة القسط يجب ان لا تتجاوز ثلث الدخل، وان مهلة السداد يمكن ان تصل الى 30 عاماً بشرط عدم تجاوز المدين سن التقاعد. واذا ما اعتمدنا هذه المبادئ فان استدانة مبالغ توازي 70 او 80 % من قيمة السكن تتطلب دخلا يتجاوز بأضعاف المعدل القائم في لبنان.

لذلك، نرى ان الطلب على القروض الاسكانية هو دون الحاجة الاسكانية وان قدرة اللبنانيين على الاستدانة محدودة، وبذلك تبقى السوق العقارية للأغراض الاسكانية محصورة بفئة من اللبنانيين، الأمر الذي ينذر بتضاؤل فرص النمو في هذه السوق في ظل استمرار ارتفاع الأسعار وزيادة حجم العرض في المساكن الجاهزة.

خلاصة الأمر، ان التدابير التي تتخذها من السلطات النقدية والانفلاش الحاصل في الائتمان المصرفي تساعد على مواجهة العرض من خلال زيادة الطلب على العقارات، لكن ذلك يبقى محصوراً في جزء من اللبنانيين لوجود الخلل البنيوي في توزيع الدخل الوطني.

ولذلك، لا بد للمصارف من الحذر في التمويل العقاري والتمسك بالأصول في العمل الائتماني الذي يستند الى التحقق من التدفقات النقدية الايجابية في كل نوع من انواع القروض العقارية السالف ذكرها، وان لا تعتمد على الضمانات العقارية، لأن الاخلال بالسداد لا يمكن ان يعوض بتسييل الضمانات، سواء تم ذلك بطريقة حبية او قضائية.

المبدأ الثابت ان القروض تسدد من ايرادات المدين، وأن الاخلال بالسداد يواجه بالضمانات ونحن نصبو الى تفادي انتفاخ عقاري يدفع الى تصفيات قضائية، لأن ذلك لا يؤذي المدين فحسب، بل يمكن ان يصيب القطاع والاقتصاد بعواقب جسيمة.

ولعل أهم ما نحذر منه ان عوامل السوق النقدية الحالية غير متوقع لها الاستمرار طيلة مدة السداد للقروض الاسكانية. فالفوائد المصرفية هى في ادنى مستوياتها سواء كانت مدعومة او غير مدعومة والأسعار في ارتفاع والحركة العقارية نشطة وامكان التسييل متوافر، ولكن التغيير في الاتجاه، ولو من باب التصحيح، يبقى امراً حتمياً. فالعرض مستمر و الفوائد المدينة يمكن ان ترتفع، الأمر الذي سينعكس حتماً على قدرة المدين على السداد، وهذان العنصران اي زيادة العرض وارتفاع الفوائد سيؤثران سلباً على مسار السوق العقارية وعلى حركة الائتمان المصرفي للأغراض

العقارية.

خلاصة، تبقى القواعد الائتمانية هى الضمان. القدرة على السداد هى الأساس والتحقق منها يجب ان لا يقبل التسويات، وتبقى الضمانات لتغطية الاخلال وليس قاعدة للاسداء.

سمير سليم حمود

( رئيس مجلس الادارة – المدير العام لتلفزيون "المستقبل" ونائب المدير العام / بنك البحر المتوسط )

تعليقات: