أنسنة الجنس في التصور الإسلامي


إعتُبر الكلام عن الجنس أو في الجنس حتى زمن قريب كلاماً في الممنوع أو خوضاً في المحذور، والمؤسف أنَّ البعض إعتبر البحث في هذا الجانب اللصيق بالتكوين البشري خدشاً للحياء ومنافاةً للعفة، وبقي الوضع على حاله إلى أن غزانا الغرب بالتكنولوجيا الحديثة ووسائل العرض التي حملت لنا إباحية مبتذلة لم تشهد لها مجتمعاتنا مثيلاً فيما مضى، وأصبحنا نشهد المعرفة الجنسية بمتناول الجميع صغاراً وكباراً وبأيسر الطرق وأقلّ الإمكانات، فمع انتشار الفضائيات والإنترنت وغيرها لم يعد متعسّراً أن نعرف كلّ شيء عن الجنس سواء ما صح منه أو فسد، وفي المحصّلة وصلنا جميعاً إلى اقتناع أنّ الحديث عن الجنس لم يعد محرَماً أو ممنوعاً ـ إن لم نقل واجباً وضرورياً ـ في زمن سقطت فيه المحرمات والممنوعات.

لم يهمل الإسلام الجنس ولم ينظر إليه نظرةً دونية، ولم يرَ فيه تدنيساً للجسد، أو حائلاً في طريق السير والسلوك الى الله، ولم يعتبر الحديث عنه إثماً، كيف؟ وقد سمى العلاقة الزوجية التي هي كلٌّ باسم النكاح الذي هو خصوص العلاقة الجنسية الحميمة بين الزوجين، ولم يدع القرآن الكريم في آياته إلى الرهبانية وتجاهل حاجات الجسد، بل على العكس من ذلك فإننا نجد في آياته تنديداً بالرهبانية من جهة، ودعوةً إلى الإستجابة لنداءات الجسد بالطرق المشروعة من جهة أخرى: " ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ }الحديد27، وبالنظر إلى السنن الإسلامية فإننا نجد حثّاً على التزاوج والتكاثر فقد ورد في الحديث عن النبي (ص): "تزوجوا تكاثروا فإني مباهٍ بكم الأمم يوم القيامة ".

ولم يقف الإسلام عند حدِّ التبنّي والتشجيع على إشباع غريزة الجنس كحاجة فطرية جبل عليها الإنسان وهي لازمة كغيرها من الحاجات كالطعام والشراب وو..، وإنما قدّم رؤيته المتقدمة لهذه الغريزة فدعا إلى أنسنتها وإبعادها عن المادّية التي تنحدر بها إلى البهيمية الرخيصة .

لقد إعتبر الإسلام مشاعة الجنس إحتقاراً له، ومن هنا نراه يحرّم العلاقات الجنسية خارج الدائرة المحكومة لضوابط والتزامات أخلاقية، كذلك فقد دعا إلى احترام خصوصية الجسد وحرّم انتهاكه والإعتداء عليه، وقد سنَّ لهذه الغاية التشريعات القضائية الرادعة، كما نبّه إلى ضرورة التعاطي مع الإنسان باعتباره قيمة معنوية مع ما يمتلكه من جمال بنيوي، ولم يجعل الأصالة للجسد وإنما جعلها للروح، حتى لا يكون الجسد هو الغاية التي تنتهي إليها المقاصد وتختصر امامها المسافات .

ولو أمعنا النظر فيما تبنّاه الإسلام في هذا الخصوص لأدركنا البعد الإنساني الذي ينطلق منه، فهو يعتبر الجنس حقّاً مشتركا بين الرجل والمرأة يجب على كلا الطرفين إحترامه إلا في الحالات التي تتعذرعندها الاستجابة، لعذر مرضيّ أو نفسيّ ملحّ، كما أكّد على أهمية صباغة هذه العلاقة بصبغة المشاعر الرقيقة التي تجعل منه مصداقاً حقيقياً للتسمية الشائعة: " ممارسة الحب "، فتجريد الجنس من مشاعر المحبة والطهارة الروحية والإقبال العاطفي اتجاه الأخر يفرغ العلاقة الجنسية من محتواها الانساني .

وقد حذّر الإسلام من الأنانية التي ينطلق من خلالها أحد الطرفين في إشباع حاجاته دون الإلتفات للشريك، والتجاهل التام لحقّه في الإشباع المماثل، ما يعقّد العلاقة ويصيبها بالفتور والفشل، ويجعل منها سببا للبغضاء والتباعد ومبعثا للكراهية والنفور .

وربما يسأل البعض عن موقف الإسلام من المحدثات الدخيلة على العلاقة الجنسية والتي فرضها تغيّر العصور، ويظن البعض أنها تساهم في استمرارية العلاقة والإبتعاد بها عن الروتينية والفتور، وبكلمة مختصرة فإنَّ الإسلام لا يرفض أيَّ وسيلة أو أسلوب يهدف إلى إستمرارية اللقاء الحميم ونجاحه، ويجعل منه أكثر إنسانية وجمالية، إلا أنَّه في الوقت عينه يرفض رفضاً قاطعاً كل ما من شأنه أن يحوّل هذه الرغبة النظيفة إلى شذوذٍ قبيحٍ والتقاء حيواني مفرغ من القيمة السامية، ولهذا فإنّ الابتذال القذر والعنف الجنسي الذي يمكن أن نسميه إغتصاباً زوجياً، ومشاهدة الأفلام الرخيصة وغيرها محرّمة من جانب التشريع الفقهي الإسلامي .

إنّ الحاجة إلى ثقافة جنسية أمر ضروري لا يقل أهمية عن غيره من الجوانب التي تضمن إستمرارية الحياة الزوجية، ولا يجوز النظر إليه بازدراء، خصوصاً عندما نعرف أن عدم التوافق المؤدي إلى الطلاق وهدم الكيان الأسري مردّه أحياناً الى الفشل في فهم ضوابط وأسس العلاقات الجنسية .

من هنا ينبغي تعميم ثقافة المعرفة لتدخل إلى هذه الدائرة علّها تبعث فيها روحاً جديدة ولا يتأتّى ذلك إلا بالإعتماد على الكتب والمراجع العلمية واستشارة المتخصصين في هذا المجال، وحذار من اعتماد المصادر اللاعلمية التي لا تنسجم مع تعاليمنا الدينية وثقافتنا المجتمعية وأعرافنا المحافظة ..

الشيخ محمد قانصو

كاتب وباحث لبناني

Ch.m.kanso@hotmail.com

تعليقات: