محمود مطر: «الجنرال» الذي خسر كل معاركه.. ولم يستسلم

 العميد مطر (فادي أبو غليوم)
العميد مطر (فادي أبو غليوم)


يقاوم محمود مطر فكرة العمر والتقاعد. يقاوم التجاعيد، ويريد بحيويته وابتسامته وقامته وكبريائه أن يقول إنه ما زال شاباً في العشرين!

الدخول الى اجواء محمود مطر هو تحليق في امبراطورية مترامية الاطراف من الاسرار، صاغ مفرداتها العميد الطيار على مدى رحلة امتدت ستة وثلاثين عاماً توجها قائداً لسلاح الجو في الجيش اللبناني.

البداية في رأس بيروت. في هذه المنطقة، تفاعل محمود مع الايديولوجيات. صفق طويلاً للخطباء والمنظرين ومشى في المسيرات هاتفاً لفلسطين وثورة الجزائر ومنادياً بسقوط «حلف بغداد».

لم يخرج الخلاف على رئاسة مجلس اتحاد طلبة لبنان بين البعثيين والقوميين العرب من عنق الزجاجة الا بعد ان ارخى التوافق بظلاله على أسم محمود مطر. ليس فقط لأنه من خارج هذه القطبية الحزبية بل لأنه وبالرغم من صغر سنه، شكل مشروع تسوية وتجربة مفتوحة على كل الاحتمالات. ومن مفارقات تلك المرحلة، أنه خرج في يوم من الأيام على رأس تظاهرة طلابية محمولاً على أكتاف رفاقه، فيما كان والده محمد مطر يتصدى من موقعه الأول في دائرة التحري في بيروت للمتظاهرين أمام مخفر البسطة، فبادر رفاق محمود الى إنزال رئيس اتحادهم وأخفوه في الصفوف الخلفية بعيداً عن انظار والده العسكري.

لم يقتنع محمود بأن رفضه في المدرسة الحربية أسبابه صحية. رجح فرضية التآمر. أسباب الاستبعاد سياسية لأنه ينتمي الى نزعة محظور تمددها داخل المؤسسة العسكرية. لذلك قرر إعادة رمي شباكه ثانية في أحضان اللجان الفاحصة ولم يتمكن من تعديل النتيجة، فكان أن استعان والده بمفوض بيروت في الأمن العام نديم مطرجي لإنتاج قراءة جديدة لواقع محمود تتيح الجلوس في مقاعد المدرسة الحربية... وهكذا كان.

سنتان امضاهما محمود مطر في الفياضية انتقل بعدهما الى بريطانيا لمتابعة دورة تدريبية في علوم الطيران الحربي، متطلعاً الى يوم يكون فيه الطيار اللبناني منخرطاً في حرب تحرير فلسطين، ولكنه وجد نفسه يستقيظ متألماً في حفرة الواقع بعد تلاشي الأحلام.

فالثقة التي كانت تغمر الملازم مطر ورفاقه وهم يقومون يومياً بألعاب بهلوانية بطائراتهم فوق مطار المطلة في فلسطين المحتلة تبين لهم بعد نكسة 1967 انها لم تكن انعكاساً لقدرات متفوقة يمتلكها سلاح الجو اللبناني إنما نتاج أنبوب تخدير دسته اسرائيل في الوعي العربي، فإسرائيل في ذلك الحين كانت تعمل على إخفاء محركات القوة لديها حتى قامت بإطلاقها دفعة واحدة باتجاه المطارات العربية، في يوم دارماتيكي انتج تسريحاً جماعياً للكرامة العربية.

وقد كاد مشروع القيادة العربية الموحدة عام 1966 لنقل لبنان من دولة مساندة الى دولة مواجهة يكتمل لو لم يسقط في حلبة الصراعات السياسية الداخلية وتدخل البلاد في أزمة سياسية على خلفية اتهام رئيس الحكومة صائب سلام لقائد الجيش اميل بستاني بتقاضي عمولات من الشركات المحدثة لنظام الدفاع الجوي اللبناني، وقيامه بعد ذلك بإلغاء صفقة صوراريخ «كروتال» الشهيرة المعقودة مع فرنسا.

صار اسم محمود مطر مرتبطاً في ذاكرة جيل بالعملية الاستخباراتية السوفياتية للحصول على طائرة «ميراج» تابعة لسلاح الجو اللبناني عام 1968. والحقيقة التي لم تكشف قبلاً ان السوفيات لم يكن هدفهم تفكيك اسرار «ميراج» كطائرة بحد ذاتها، بل كان هدفهم رادار الطائرة المعروف بأسم «سيرانو» والمتفوق على تقنيات رادار «الميغ 21» السوفياتيه في حينه.

عندما عرض ضابط لبناني سابق جندته المخابرات السوفياتيه، على محمود مطر خطف «الميراج» من قاعدة بيروت الجوية الى قاعدة في مدينة باكو في أذربيجيان لقاء مبلغ ثلاثة ملايين دولار اميركي، لم يتردد الملازم أول في ابلاغ قيادة الجيش، التي طلبت منه ان يمضي في عملية استخباراتيه معقدة في مواجهة اعتى جهاز استخباراتي في العالم وهو جهاز المخابرات السوفياتي (ك.ج.ب) برع خلالها الملازم الشاب في «إقناع» المخابرات السوفياتيه انه منخرط معها في الخطة الى ان أينعت ثمار العملية وأصبح القطاف جاهزاً.

وبالفعل، تم إلقاء القبض على كل المتورطين الذين كان من بينهم مسؤول المخابرات السوفياتيه في الشرق الاوسط الجنرال «كومياكوف». ويقول العميد مطر إنه عندما كانت المخابرات اللبنانية تراقب مكان اجتماعه مع مندوبي المخابرات الروسية، عجزت عن التقاط اي صورة لكومياكوف الذي كان يدخل الى الاجتماعات ويخرج منها بطريقة غريبه الى ان تم العثور على صورة له عن طريق الصدفة في احد أستديوهات التصوير في ساحة البرج في بيروت.

كان الحصار داخل قاعدة رياق الجوية المشهد الافتتاحي الذي قارع به الرائد محمود مطر الحرب الأهلية المندلعة عام 1975. اشتدت الضغوط على الثكنات العسكرية وراحت تتهاوى تدريجياً بيد المليشيات المتناحرة. قرر ضباط وعناصر القاعدة بقيادة قائد القاعدة المقدم فهيم الحاج الامتناع عن الانضمام الى قاطرة الانقسامات في المؤسسة العسكرية، فكان الثمن العيش في قلب الجحيم في القاعدة المحاصرة من المنظمات الفلسطينية و«جيش لبنان العربي»، بعدما تمت تصفية عدد من العسكريين المسيحيين بعد خروجهم من القاعدة.

تسلل الرائد مطر من الثكنة والتقى الإمام السيد موسى الصدر في بارك أوتيل في شتورة وطلب منه المساعدة في إنقاذ المعنى الذي تمثله قاعدة رياق الجوية. حمّل الصدر مطر رسالة الى القيادة السورية يطلب منها المساعدة في اخراج قاعدة رياق من الوضع القائم، نقلها الضابط اللبناني الى اللواء حكمت الشهابي الذي رفعها الى الرئيس حافظ الأسد. بعد ذلك بأيام، قامت فرقة من «جيش التحريرالفلسطيني» بأمر من قيادتها في دمشق بحماية قاعدة رياق من التعديات.

بعد دخول القوات السورية الى لبنان تحول عناصر قاعدة رياق الى ماعرف في حينه «جيش الطلائع» بقيادة المقدم فهيم الحاج، وكان محمود مطر رئيس جهاز المخابرات فيه، وراحت قيادة هذا الجيش تعقد مع الفرق العسكرية المنشقة عن الجيش اللبناني اجتماعات لإعادة توحيد أجنحة الجيش المتناثرة وأثمر ذلك صيغة توحيدية نسفتها «الجبهة اللبنانية» بإصرارها على ماروني لقيادة الجيش، خلافاً للاتفاق الذي كان قد تم على أسم العميد احمد الحاج قائداً للجيش.

كانت فكرة توحيد الجيش اللبناني بعد انتخاب الرئيس الياس سركيس تبدو وكأنها صراع المستحيل بعد التقارير التي رفعها اليه قائد الجيش في حينه العماد حنا سعيد الذي دعا الى تشطير الجيش الى جيشين: مسلم ومسيحيي، قبل أن تطرح تجربة «جيش الطلائع» مع سركيس، فبادر الى قاعدة رياق وخرج بانطباع أن هذه النواة مؤهلة لأن تعبّد الطريق امام توحيد الجيش، وعندما قرر إلقاء مشروع توحيد الجيش على أكتاف العميد حبيب فارس كقائد للجيش، تعرض منزل وزير الدفاع فؤاد بطرس في الأشرفية للنسف وحلّ العماد فيكتور خوري مكان فارس قائداً للجيش.

استقر الرائد محمود مطر رئيساً لشعبة العلاقات العامة والاعلام في الجيش بعد توحيده، بعدما سدت كل الابواب امام تعيينه رئيساً لشعبة المخابرات التي ذهبت للرائد جوني عبده، وذلك على قاعدة إبقاء القديم على قدمه ثم ليصبح بعد صدور قانون الدفاع عام 1979 اول مدير لمديرية التوجيه في الجيش اللبناني.

ويروي محمود مطر حكاية اصطحابه موفداً من قبل الرئيس كميل شمعون الى دمشق طالباً الحصول من القيادة السورية على مبلغ خمسة ملايين ليرة لبنانية لتوزيعها على بعض النواب لضمان عدم حضورهم جلسة انتخاب بشير الجميل رئيساً للجمهورية وتعطيل النصاب، في صيف عام 1982، ولما رفضت القيادة السورية تلبية هذا المطلب عاد الموفد ثانية الى دمشق ليطلب قصف الطريق المؤدية الى مكان انعقاد الجلسة في ثكنة الفياضية بغية تعطيلها ولكن الجواب ايضاً كان الرفض مما حطم آمال شمعون بولاية رئاسية ثانية. كما يعود العميد مطر بالذاكرة الى قصة اصطحابه الرئيس كامل الأسعد الى دمشق واجتماعه بالرئيس حافظ الاسد الذي فشل بإقناعه بتأجيل انتخاب بشير الجميل رئيساً للجمهورية بغية إعطاء فرصة للاتصال بالعميد ريمون إده وإقناعه بالترشح.

يكشف «أبو عامر» الستار عن حادثة اختطافه من قبل «القوات اللبنانية» عام 1982 بأمر صادرمن بشير الجميل واقتياده مع عائلته الى المجلس الحربي، حيث اوقف لساعات قبل اقتياده الى مكتب مسؤول قواتي بحضور ضابط من «الموساد»، كان ينوي اقتياده الى إسرائيل، ولكن سرعان ما تدخل الياس سركيس واتصل بقائد «القوات» قائلاً له «هل يعقل ان تبدأ معركتك الرئاسية باختطاف ضابط مسلم».. وكان أن أطلق سراحه.

ستة عشر عاماً مضت على التقاعد من المؤسسة العسكرية (قائد القوات الجوية) وهو اليوم ما يزال سعيداً بدوره الذي لا يكلفه به إلا محمود مطر نفسه وبصمت. يرفض ان يعتبر نفسه مجرد ناقل ميكانيكي للرسائل السياسية. ومع كل ذلك الإحباط الذي يعتمل في داخله، ازاء الواقع السياسي والطائفي والاجتماعي، يظل واحداً من صائدي الاوهام في الرهان المستحيل على قيام دولة علمانية لاطائفية.. ولكنه مع ذلك ما يزال يأمل من صديقه الرئيس ميشال سليمان أن يسعى لاستيلاد المعجزة.

تعليقات: