المونديال وجنازاتنا!


في حمّى المونديال تجتاح الناس، ولا سيّما الشباب منهم المهووسون بكرة القدم، حالات هستيريّة لا يمكن وصف أو فهم حدّتها! يخسر فريق فتحصل حالات انتحار في العالم نتيجة تلك الخسارة! ينتصر فريق آخر فتقوم القيامة ولا تقعد! قد نفهم هذا الشيء مع شعوب الفرق أو النخب التي تربح، أما في بلادنا فلا نستطيع فهم ردّات الفعل سوى أنها تنفيس عن كبت متعدّد الوجوه والأسباب. أمّا ظاهرة الأعلام المتعدّدة فشيء مرضيّ غير صحّي؛ تُرفع أعلام دول لا تكنّ أية محبّة للعرب، بل لا تعترف بأحقيّتهم بالوجود!

منذ أيام، كنا في الجبّانة نقوم بقراءة الفاتحة عن روح المرحومة الوالدة. صُودف حينها خسارة إحدى الفرق في دور الربع النهائي، والتي كانت مرشّحة للفوز بكأس العالم ولها أنصار كثر في وطننا وفي بلدتنا الخيام. رأينا ثمّة جنازة في بحو الجبّانة، والمذهل في الأمر أنها لم تكن جنازة إنسان متوفّ، بل لشيء آخر؛ فقد لُفّ التابوت بعلم البلد الذي تعرّض فريقه للخسارة، وقد سار وراء الجنازة مجموعة لا بأس بها من الشبّان يقومون بمراسم دفن، لمن؟ لتلك الدولة التي خسر فريقها المباراة. جرت مراسم الدفن والعزاء بهدف الشماتة بتلك الدولة وفريقها الخاسر الذي أعلن مدرّب فريقها أنه سيقوم بإهداء الكأس، في حال فوز فريقه به، إلى الدولة العدوّة إسرائيل! فأتت ردّة الفعل تلك نتيجة لموقف ذلك المدرّب ونتيجة للعداء المستشري بين الفرق ومؤيّديها. هناك فريق آخر من النخب الكبرى والأكثر شهرة بينها، والذي كان مرشّحاً للفوز بكأس العالم، تعرّض بعد خسارته وخروجه من ربع النهائي إلى أمر مشابه حيث لُفّ تابوت ذاك الفريق بعلم بلاده، وتجوّل المشيّعون الشامتون بخسارته في شوارع البلدة نعياً لهذا الفريق الخارج لتوّه من المباراة! إنها ردّات فعل تثير الأسئلة والاستغراب والاشمئزاز! إستطعت أن أستشفّ من ذلك الحدث شيئين: الأول عملاً فنيّاً "برفورمونس" إدائيّاً قبليّاً كالذي تقوم به شعوب الدول الغابرة في التاريخ والزمن. والشيء الثاني حاجة هؤلاء الشباب للآكشن وملء الفراغ القاتل في الأزمنة القاتلة، أوقد يكون ردّات فعل على السياسة وما يدور في فلكها...

أنا من أنصار كرة القدم، وأتابع مجرياتها، فمن يخسر يخسر، ومن يربح أهنئه، في قرارة نفسي، بالرغم من كلّ شيء وبالرّغم من سيّئات التحكيم الكثيرة في بعض الأحيان، وسؤ حظ بعض النخب، وأتمتع بروح رياضية أكثر من معظم اللاعبين أنفسهم الذين قد يصل الأمر بهم إلى السباب والشتائم والضرب والأمثلة كثيرة أبرزها ما حصل منذ أربع سنوات في المباراة النهائيّة أثناء المونديال الفائت حين نطح "زين الدين زيدان" اللاعب الإيطالي الذي شتمه... إنها لعبة ما بعد الحداثة، والمستفيد الأكبر فيها هي الشركات التجارية التي تبيع منتجاتها المستوحاة من المباراة إلى جانب صور اللاعبين وشعارات أخرى، ناهيك من بعض الشركات التي يكفيها وضع صورة هذا اللاعب أو ذاك لترتفع مبيعاتها بشكل مذهل، فمن يشرب من منتجاتها الباردة يتحوّل إلى بطل كرة قدم كالموجود على القنينة السمراء اللون! يستفيد هذا اللاعب النجم وغيره من أموال طائلة نتيجة الدعاية. يتخاصم الشباب في بلادنا ويتقاتلون ويقومنون بواجب العزاء والدفن المفترض، في حين يغيبون عن واجب العزاء الحقيقي في بلد دُفنت فيها الحقيقة...

د. يوسف غزاوي

تعليقات: