الخيام تستعيد ملامحها برغم خشيتها الدائمة من عدوان جديد

إحدى الورش في الخيام  (الصور لـ علي لمع)
إحدى الورش في الخيام  (الصور لـ علي لمع)


الخيام:

قرقعة الحديد على ما تبقى من سقف المقهى المجاور لمعتقل الخيام. صوتٌ يملأ صداه البلدة.

إيقاع لم تكتمه شمس آب ولا حرارة الركام وغباره بعدما تبددت معالم الخيام بأكملها، أو كادت. لون بني يطغى على المكان الخالي إلا من بعض الأهالي المتفقدين لما تبقى من منازلهم، وكلاب شاردة بعضها مجروح، تئن باحثة عما تقتات منه.

كان ذلك بعد مرور أربعة أيام على إعلان وقف الأعمال الحربية في 14 آب .2006 لقد مرت سنة على العدوان الإسرائيلي الأخير.

يتسلل نور الصيف عبر الحجارة التي كانت قد سوّيت بالأرض، وباتت اليوم تحيط بنوافذ وأبواب، وترسم معالم بلدة الخيام التي ما زالت تعيش ورشة لإعادة إعمار ما تهدّم. وما تهدّم هو كثير.

ها هي البلدة تعود للنهوض من جديد ولو أن الألوان ما زالت غائبة عنها، تصارع الوقت لاستعادة ملامح شوّهها العدو بشراسة. أما الصوت الخافت فبقي هو نفسه كما في العام الماضي، قرقعة حديد وحجارة بين الأيدي التي اعتادت إعادة البناء، وقد شققتها وأشقتها حروب كثيرة سابقة.

بيوت تنتظر الهبات القطرية

عودة أهل الخيام الى بلدتهم مرهونة برقم صغير كتب على جدران المنازل والأبنية: «C40» أو «A21» أو سواها. هو ما يحدّد عدد الأيام التي ستبقي أهل الخيام بعيدين عنها. وُضعت هذه الأرقام لتسهيل عملية إعادة البناء التي تكفلت بها الدولة القطرية وقد شارفت المرحلة الثانية منها (مرحلة إستكمال البناء بالحجر) على الانتهاء.

ارتفع معظم الأبنية طابقين، والحركة فيها تبدو خفيفة، تكاد تنعدم. هدوء تام يلفّ القرية بإستثناء عدد قليل جداً من «الورش» التي يستكملها أصحابها، وهم يواجهون معضلتين: قلّة العمال، وتأخر الهبة القطرية للمرحلة الثانية.

هنا، في هذه الورشة، ممنوع التصوير. ففيها، يساعد رجال من «حزب الله» في عملية البناء.

في ورشة أخرى، مواجهة لها، يركض «المعلم» مسرعاً يريد أن يتحدث عن شؤون وشجون «المصلحة» في مثل تلك الأوقات، أي في طوارئ العمل: «نحن نعاني من نقص في العمال بسبب العلاقات اللبنانية ـ السورية المتوترة التي أدّت الى سحب العمال السوريين، والعمل كثير جداً هذه الأيام»، يقولها وهو فرح بالموسم المزدهر مردداً: «مصائب قوم عند قوم فوائد».

يعمل «المعلم» الفَرِح في ورشة يعاد بناؤها للمرة الثالثة. ويؤكد حسين صادق، صاحب الورشة: «كان منزلاً من طابقين وفي أسفله متجر ألعاب وأدوات منزلية، ولقد دمّرته إسرائيل مرتين قبل العام الماضي، في سنتي 1976 و1980».

بين الدمار الذي أحدثته إسرائيل في العام الماضي وبين عملية إعادة البناء التي وصلت مرحلتها الثانية بالمفهوم القطري، يقضي صادق وعائلته أيامهم في منزل مؤجر يقع عند مدخل الخيام. هكذا كانت العشرة آلاف دولار التي قدمها له «حزب الله» بدل بيته المهدّم «خميرة» اعتاش منها منذ آب الماضي وحتى اليوم: «حاولت أن أستفيد من هذا المبلغ في حياتي اليومية كما في عملية إعادة بناء منزلي، لا سيما أن القطريين لا يدفعون بدل إعادة الإعمار إلا عند انتهاء كل مرحلة. دفعوا لنا بدل المرحلة الأولى من البناء وهي مرحلة بناء الأساسات، ونحن ننتظر أن يدفعوا ثمن المرحلة الثانية ولقد تأخروا. هم ربما يخافون من الوضع الأمني أو ربما هو الروتين لا أكثر»، يقول.

لكنه يثمّن الطريقة التي تعتمدها الدولة القطرية في تقديم هباتها: «هكذا، لا يمكن لأي من أبناء الخيام أن يستثمر الأموال المقدمة إليه إلا في إعادة إعمار بلدته.. النتيجة تكون إلزام الناس بأرضهم».

انفجار «اليونيفيل».. في النفوس

ليست الخطة القطرية في إعادة الإعمار هي كل ما أبقى أهل الخيام في بلدتهم. هناك أساسا تشبث الناس بالأرض. حالة مشتركة بين الخياميين وراسخة، ولو أن فرح العودة الذي سكن وجوه الأهالي منذ عام، عند وقف إطلاق النار، تبدد وتحوّل إلى خوف حالي تؤججه معلومات أكّدها أهل الخيام لأنفسهم عن «ضربة إسرائيلية» جديدة ومرتقبة.

وجاء الاعتداء الذي وقع في حزيران الماضي والذي أودى بحياة ستة من عناصر قوات الطوارئ الدولية «اليونيفيل» الأسبان ليعزز الإيمان الذي جمع أهل البلدة على قناعة: «المنطقة قنبلة موقوتة قد تنفجر في أي وقت. وما انفجار الخيام إلا رسالة موجهة إلى «يونيفيل» وإلى أهل البلدة على حد سواء، تفيد بعدم الاستقرار».

هكذا تعيش الخيام اليوم. على إيقاع الخوف والترقب والانتظار. مبانٍ ومنازل شيّدت حجارتها، وأهلها غائبون في مكان آخر ينتظرون الهبات لاستعادة بيوتهم. ومتاجر بعضها مقفل وبعضها الآخر مفتوح لزبائن الطوارئ. و«الاستفتاح» سينتظر أياماً أو أسبوعاً، لا سيما عند الحديث عن متجر للثياب أو سواها من الكماليات... فالحالة كانت أفضل قبل يوم الانفجار.

تعرض سميرة عواضة، وهي صاحبة متجر ثياب، الوضع الاقتصادي في البلدة على النحو التالي: «لم يعوّض علينا أحد خسارتنا، تكلّفت 800 دولار لإعادة تأهيل متجري وخسرت بضاعة بقيمة أربعة آلاف دولار ولا حركة بيع على الإطلاق، لا سيما بعد خروج أهل البلدة منها إثر الانفجار. همّ الناس محصور هنا بشراء الطعام وإعادة إعمار المنازل، وكل شيء آخر يعتبر من الكماليات. إنه اليوم الثالث الذي لم «أستفتح» به ويكفي أن يكون متجري وبيتي بالإيجار لكي أنعى وضعنا الاقتصادي».

مع ذلك، تبدو سميرة متماسكة وهي تتحدث عن تخوف أهل البلدة من «ضربة» جديدة: «يقال إنها ستتم في آب المقبل».

«في 19 آب»، يحدّد مواطن ثان موعد الضربة الإسرائيلية المرتقبة، بينما يصرّ آخر على أنها «لن تأتي قبل أيلول». آب أو أيلول أو أول الخريف المقبل، التاريخ يبقى رهن التكهنات لكن الحديث عن عدوان جديد لا يقاربه أهل الخيام إلا بوصفه واقعاً محتماً: «هل يمكن لإسرائيل أن تغضّ النظر عن الصفعة التي وجهها الحزب لها؟»، يسأل أحدهم.

أمام الرفوف المرصوفة بترتيب، يجلس عبد الأمير عيسى في «ميني ماركت» يملكها، وقد أعاد تأهيلها بعد تعرضها ومنزله الواقع فوقها، في الطابق الثاني، للقصف. يبدو الرجل الستيني منهك القوى، يبدو متعباً. يحاول جاهداً الابتسام للزبائن من دون أن يتحرك عن كرسيّه. هو لا يخبر عن عدوان جديد، ولا يتحدث عن انتظار الهبات القطرية. يشير بصوت متقطع إلى أنه حالياً يعيد ترميم منزله، قبل أن يجهش بالبكاء: «دمّر منزلي هنا ومنزلي الآخر في الضاحية الجنوبية. قضيت العمر وأنا أعيد بناء ما بنيت. الناس تشقى مرّة واحدة لبناء حياة كريمة ونحن نشقى مرّات ومرّات...».

يعتذر العمّ عبد الأمير عن دموعه، يخرج محرمة من جيبه، يمسح الدمع ثم يلقي برأسه الى الخلف كالمستسلم لمشيئة الله، لاعناً السياسة والسياسيين. هي لحظةٌ هدمت شقاء السنوات ولحظةٌ خسرت فيها عائلة مأواها لتشقى بين جدران لا تنتمي إليها ولا تحمل ذكرياتها.

يقول أحمد، ابن الســــنوات الثماني: «في بيتــــنا الجديد لا أرتاح. فقدت ألعابي والمصطبة حيث كنت ألعب مع جيراني. هنا، انقطاع مستـــمر للكهرباء. وسمعــــت والدي يقول ان لا مولدات تكـــفي لكل الخيام وأن الإيجـــار غال ويصعب معه دفع أجرة مولـــد الكـهرباء».

إلى اللعب، يفتقد أحمد مدرسته ورفاقه: «تبدلت حياتي»، يقول وكأنه رجل في الأربعين من عمره.

بلدية متفائلة

تشاؤم أهل الخيام يقابله تفاؤل بلديتها. ودواعي تفاؤل البلدية كثيرة بالنسبة إلى رئيسها علي زريق: «أهل الخيام عادوا إليها وهناك أكثر من سبعين في المئة أعادوا إعمار منازلهم، ومنهم من زاد طوابقه أو وسّع داره. أما الحركة السياحية والتجارية فقد عادت الى سابق عهدها من دون أن تتأثر كثيراً بالانفجار الذي طال قوات «اليونيفيل» علماً أنه يهددّ أمنــنا كما يهدد أمن «اليونيفيل» الذين نتواصل معهم باستمرار»، مشيراً إلى مجموعة من الجنود الإيطاليين الذين لبوا دعوته للغداء يوماً.

وهو إذ يعتبر نفسه راضياً عن حركة إعادة الإعمار، يشير الى بطء دراسة الطلبات لدى الجهة القطرية المانحة: «ربما هي طريقتهم في دراسة الملفات لكنهم على الأقل يلتزمون ببناء المنازل كما وعدوا، بالإضافة إلى المساجد والمدارس»، لافتاً إلى تسهيلات قدمتها البلدية لجهة تصاريح البناء. وهو ينتظر ما يمكن أن تقدمه الدولة من تعويضات لأصحاب المؤسسات التجارية: «وإلا فسنلجأ إلى مجلس الجنوب».

سوق الخميس ومعتقل الخيام

عند الوصول إلى الخيام، لا مفر من زيارة معلمها الشاهد على تاريخ هذه الأرض. لكن، على الطريق في اتجاه معتقل الخيام، وعند مرتفع في البلدة، تستوقف عابر السبيل عادة تجارية تجري على سابق عهدها في البلدة: إنه «سوق الخميس» الذي من المفترض أن يقصده أهل المنطقة عموماً وجنود «اليونيفيل» مؤخراً. تجار يبسطون ما عندهم من ثياب وأوان مطبخية. لكن، ما من زبون يلبي نداء الأسعار المنخفضة اليوم. لماذا؟ «أهل المنطقة لا يشترون إلا حاجاتهم الملحة، وحركة جنود «اليونيفيل» خفّت بعد الانفجار الأخير»، يشرح أحد التجار.

الهدوء نفسه ينسحب على معتقل الخيام، ويلفّه تحت الشمس الحارقة. غرف السجن ما زالت مهدمة، تتقدمها مجموعة صور تذكّر بأيام الاعتقال. خلفها، تستكين قاعدة نصبٍ جديد يكرّم جنود «اليونيفيل» الأربعة الذين سقطوا خلال الحرب الأخيرة على لبنان. أما على سطح غرف السجّانين فيحضر مجسم لصاروخ «خيبر» بانتظار أعين زوارٍ انكفأوا عن زيارة المعتقل بعد سقوط الجنود الإسبان الستة في السهل.

تخفت شمس النهار والخيام تتحضر للنوم على وقع قرقعة الإسمنت والباطون. لقد بدأت البلدة تستعيد بعضاً من ملامحها. بعد أشهر من اليوم، ستختفي الأرقام عن جدرانها وسينطلق أهلها في حياة لا يشوبها الانتظار. هذا أملٌ، لكن يكدّره قلق: خلف الجدران، هناك آثار أشهرٍ مضت بشقاها والتعب.. يرافقها خوف من مستقبل قد يعيد ما بني ساحةً من ركام.

في معتقل الخيام
في معتقل الخيام


تعليقات: