محضر تحقيق: أبو عدس قال إنه سيقتل الحريري متى أمكنه ذلك

خبراء متفجرات في حفرة عين المريسة
خبراء متفجرات في حفرة عين المريسة


بعد سنوات من التحقيق في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، ظهرت بعض نتائج عمل لجنة التحقيق الدولية. وما توصّل إليه المحققون الدوليون مبني في معظمه على ما أنجزته سلطات التحقيق اللبناني. كذلك هي التحقيقات في طريقة التفجير ومحاولة تحديد الانتحاري

يوم 12 تموز 2007، أصدر الرئيس الثاني للجنة التحقيق الدولية، سيرج براميرتس، التقرير الثامن الذي يلخّص أعمال اللجنة خلال الأشهر الثلاثة السابقة لتاريخ إصداره. وفي الفقرة الـ21 من التقرير، أعلنت اللجنة أن تحليلاتها أكدت استنتاجاتها الأولية بشأن طبيعة الانفجار الذي أدى إلى مقتل الرئيس رفيق الحريري يوم 14 شباط 2005. وبحسب هذه التحليلات، فإن انفجاراً وحيداً وقع يوم الجريمة، وهو ناجم عن عبوة ناسفة تقدر زنتها بنحو 1800 كلغ، كانت موجودة فوق الأرض. في اليوم التالي لصدور التقرير المذكور، كان أحد القضاة اللبنانيين يتصفح نسخة عنه. وصل إلى الفقرة الـ21، فكاد يغشى عليه من الضحك. لم يكن رجل القانون مسروراً بقدر ما كان يعبّر عن مرارة: «عندما قلنا قبل عامين وستة أشهر إن الانفجار وقع فوق الأرض، اتهمنا بالعمل لحساب الاستخبارات السورية وبالتواطؤ مع القتلة».

القاضي المذكور كان أحد الذين أشرفوا على التحقيق في اغتيال الحريري. وفي الأيام التي تلت الجريمة، ناله ما أصاب غيره من المشرفين على التحقيق، من اتهامات بالتضليل ومحاولة حرف التحقيق. لكنه هو وغيره ممن شاركوا في التحقيقات، خلال الأشهر الثلاثة الأولى التي أعقبت الجريمة، مقتنعون بأن ما أنجز في تلك الفترة هو ما يمكن الاستناد إليه للوصول إلى معطيات جدية. ويتحدث أمنيون وقضاة معنيون بالتحقيق في تلك الفترة عن ثلاثة مسارات تحقيقية جدية، هي تقارير خبراء المتفجرات والفحوص المخبرية للأشلاء، وسيارة الميتسوبيشي، وتحليل الاتصالات. وبحسب هؤلاء، فإن لجنة التحقيق الدولية لم تفتح بنفسها أياً من تلك المسارات، بل إنها استندت إلى ما أنجزته السلطات اللبنانية، من دون أي إضافات في بعض الأحيان.

كيف بدأ التحقيق في الجريمة؟

من اللحظة الأولى لاغتيال الحريري، ظهر إلى العلن مطلب وضع التحقيق في أيدي جهة دولية. معارضو «النظام الأمني اللبناني ـــــ السوري» اجتمعوا في منزل الحريري في قريطم يوم الجريمة، مطالبين بتأليف لجنة دولية للتحقيق. وصدرت دعوات مشابهة، يوم 14 شباط 2005 وفي اليوم الذي تلاه، من السعودية وأوروبا والولايات المتحدة الأميركية.

تلاحقت المطالبات بالتحقيق الدولي، لتصل إلى ذروتها مع اجتماع البريستول الذي شهد انطلاقة ما سمّي «انتفاضة الاستقلال»، يوم 18 شباط 2005، وهو اليوم الذي أعلن فيه الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان تأليف لجنة لتقصّي الحقائق، برئاسة المحقق الإيرلندي بيتر فيتزجيرالد. كان ذلك قبل أن يبدأ التحقيق الفعلي بالجريمة، وقبل أن تظهر أخطاء الأجهزة الأمنية اللبنانية.

كان الارتباك واضحاً في التحقيق اللبناني، و«في اليوم الأول، لم يكن بين المحققين من يجرؤ على تحمل مسؤولية أي خطوة يجب عليه القيام بها»، بحسب أحد الذين شاركوا في التحقيقات. ظهر الارتباك بعد أقل من 12 ساعة على وقوع الجريمة، وبالتحديد عندما صدر أمر نقل سيارات موكب الحريري من مسرح الجريمة إلى ثكنة الحلو، بإشارة من قاضي التحقيق العسكري الأول الرئيس رشيد مزهر، لـ«الحفاظ عليها»، بحسب أحد المعنيين بالقضية. في ذلك الحين، جرى تقاذف المسؤولية بين القاضي رشيد مزهر الذي كان لا يزال مشرفاً على التحقيق إلى حين تعيين القاضي ميشال أبو عراج محققاً عدلياً، والمدير العام لقوى الأمن الداخلي اللواء علي الحاج، وقائد شرطة بيروت بالوكالة العميد ناجي ملاعب، وقائد لواء الحرس الجمهوري العميد مصطفى حمدان والمدير العام لوزارة الأشغال فادي النمار. فالأمر لم يقتصر على نقل السيارات بعد تصويرها في مكانها، بل تعدّاه إلى محاولة فتح الطريق، قبل أن يتدخل وزير الداخلية حينذاك سليمان فرنجية، والمدير العام للأمن العام اللواء جميل السيد، لمنع فتح الطريق.

لكنّ المحافظة على مسرح الجريمة لم تعنِ أن العمل كان على أتمّ ما يرام. ففي مسرح الجريمة، بقي زاهي أبو رجيلي ينزف أكثر من 10 ساعات، ولم يُعثَر على جثته إلا في اليوم التالي. وأبرز فضيحة سُجّلت حينذاك تمثّلت في عثور عائلة الراحل عبد الحميد غلاييني على جثته داخل مسرح الجريمة في اليوم الأول من آذار 2005!

يقول أحد العاملين في التحقيق إن المستوى الأمني الأرفع في البلاد كان يعيش ارتباكاً غير مسبوق. وتحت الضغط السياسي الذي بدأ يتعرض له منذ اللحظة الأولى للانفجار، خشي عدد من المسؤولين المعنيين تحمّل المسؤولية عن التحقيقات. أضف إلى ذلك، يقول أحد الأمنيين المقرّبين من قوى 14 آذار، كانت بنية الأجهزة اللبنانية تستند في حالات مماثلة إلى القرار الأمني السوري. وعندما ارتبك الأخير بفعل الجريمة، تخلخلت البنية الأمنية اللبنانية. وبين الأمنيين المفصليين في ذلك الحين، يضيف الأمني نفسه، من كان يشك في أن تكون الاستخبارات السورية ضالعة في تنفيذ الجريمة، وبناءً على ذلك، لم يجرؤ البعض على الغوص في التحقيقات، خشية الوصول إلى ما لا يجب معرفته! إلا أن هذا القول يناقض توجّه وزير الداخلية سليمان فرنجية، الذي أمر بفتح تحقيق في المفتشية العامة لقوى الأمن الداخلي لتحديد مكامن التقصير في التحقيقات. ولزيادة الاطمئنان عند آل الحريري، عهد فرنجية بهذا التحقيق إلى العميد أشرف ريفي.

لكنّ الفوضى التي حكمت إدارة مسرح الجريمة في الأيام الأولى التي تلت وقوعها (كان مسرح الجريمة في عهدة فصيلة البرج التابعة للسرية الإقليمية الثانية في شرطة بيروت)، لم تمنع نشوء مسارات تحقيقية يصفها أمنيّو الزمن الحالي بأنها كانت جدية.

فمنذ اليوم الأول، التقطت بعض الأجهزة الأمنية أنفاسها لتباشر تحقيقاتها. وأبرز من نشط في هذا المجال القطعات الأمنية الآتية:

ـــــ قسم المباحث الجنائية العلمية في الشرطة القضائية في قوى الأمن الداخلي (كان يرأسه العميد هشام الأعور).

ـــــ قسم المتفجرات واقتفاء الأثر في الشرطة القضائية (كان يرأسه العميد عبد البديع السوسي).

ـــــ فرع المعلومات في قوى الأمن الداخلي الذي كان يرأسه العقيد فؤاد عثمان.

ـــــ فرع التحقيق في مديرية استخبارات الجيش (كان يرأسه العقيد عماد القعقور).

ـــــ الفرع التقني في مديرية استخبارات الجيش (كان يرأسه العقيد غسان الطفيلي).

أبو عدس: تكفير الحريري

مسارات التحقيق في اليوم الأول بدأت تتركز على أحمد أبو عدس الذي ظهر في شريط مصوّر على قناة الجزيرة الفضائية ليتبنّى عملية التفجير بعد نحو 5 ساعات على وقوعها. دُهم منزل عائلته في منطقة الطريق الجديدة، وأُوقف والده ووالدته وشقيقته للتحقيق معهم، قبل أن يتوفى والد أحمد، تيسير أبو عدس، يوم 7 آذار 2005، إثر استدعائه للمثول أمام قاضي التحقيق.

من اللحظة الأولى، تبيّن أن والد أبو عدس كان قد تقدم ببلاغ في فصيلة الطريق الجديدة يوم 19/1/2005 عن اختفاء ولده أحمد الذي كان قد خرج من المنزل يوم 16/1/2005، ولم يعد بعد ذلك. وتبين أن شخصاً مجهولاً اتصل بمنزل العائلة في اليوم التالي (17/1/2005) ليقول إن أحمد غادر إلى العراق ولن يعود.

خلاصة التحقيقات التي أُجريت مع عائلته ومع أكثر من أربعين شخصاً آخرين أظهرت أن أبو عدس يتبنّى فكر السلفية الجهادية، وأنه اتجه نحو التدين منذ عام 2003. وبين من استُجوبوا أحد معارف أحمد أبو عدس، زياد رمضان، الذي غادر لبنان إلى سوريا بعد أيام على التحقيق معه. وفي دمشق، أوقفته السلطات السورية (لا يزال موقوفاً حتى اليوم) قبل أن تستمع لجنة التحقيق الدولية إليه أكثر من مرة. وفي إفادات عدد ممّن استجوبتهم مديرية استخبارات الجيش، ورد نقلاً عن أبو عدس قوله إن زياد رمضان خبير بالمتفجرات بسبب دراسته للكيمياء.

عدد من أصدقاء أبو عدس أكدوا خلال التحقيق معهم أنه كان يكفّر النظام السعودي والرئيس رفيق الحريري، لأنهما «لا يحكمان بما أنزل الله». وخلال التحقيق مع أصدقاء أبو عدس، ظهر اسم خالد طه، الذي قال أحد المقرّبين اللصيقين من أبو عدس إنه (طه) مسؤول إعلامي في تنظيم القاعدة، قبل أن يظهر بعد عشرة أشهر شخصاً محورياً في التحقيقات التي أجراها فرع المعلومات مع أفراد مجموعة الـ13. وتبيّن أن طه حضر من سوريا إلى لبنان قبل يوم من اختفاء أبو عدس، ثم عاد إلى سوريا في اليوم التالي.

وأكد بعض معارف أبو عدس أنه كان يعمل على «إنشاء خلية أمنية» في لبنان. وفي محضر التحقيق مع أحدهم، تحدّث عن حوارات دارت بينه وبين أحمد أبو عدس بشأن «الحكام المسلمين» الذين كان الأخير يشكو ظلمهم. وبين هؤلاء الحكام، كان أبو عدس يشير دوماً إلى الرئيس الحريري، متهماً إياه بالكفر، لأنه «يشرّع الماسونية التي تحارب الإسلام». وفي إفادته لدى مديرية استخبارات الجيش، قال الشاهد أ. ك.: «أعتقد أن أحمد أبو عدس قال لي حينها إنه إذا استطاع قتل الحريري فإنه سيفعل ذلك».

في المحصّلة، كان استنتاج محقّقي استخبارات الجيش أن أبو عدس يعمل في مجموعة تتصل بتنظيم القاعدة، وأنه يحمل فكراً تكفيرياً، ولا يُكنّ غير البغض للرئيس الحريري.

ومن جملة ما صودر من منزل أبو عدس، كتبٌ دينية وجهاز كمبيوتر استُرجعت مئات الملفات الممحاة منه، بينها ما يتعلق بالمجاهدين في العراق وأفغانستان والأسلحة والمتفجرات. وأكثر ما يلفت النظر بين المضبوطات، لائحة بمؤسسات الحريري.

وبعيداً عن أبو عدس، كانت الأجهزة الأمنية قبل تاريخ 15 آذار 2005 قد أجرت كشفاً كاملاً للمنطقة الممتدة من وسط بيروت إلى منطقة المنارة، فاستجوب المحققون مئات الشهود، وتفحّصوا عدداً كبيراً من كاميرات المراقبة في أبنية ومؤسسات خاصة (المحضران 127/302 و128/302 على وجه التحديد). وتبيّن أن بعض هذه الكاميرات لم يصل المحققون إليها بالسرعة المطلوبة، إذ أجري الكشف على تسجيلات بعضها بعد مرور نحو أسبوعين على وقوع الجريمة، علماً بأنها مبرمجة لحفظ التسجيلات مدة لا تتجاوز يومين في بعض الأحيان.

فوق الأرض وتحت الأرض

منذ اللحظة الأولى لوقوع الانفجار، خرج من يطلق نظرية أنه وقع من تحت الأرض. كانت تلك النظرية تُسهم في تأكيد الاتهام السياسي لسوريا واستخباراتها والأجهزة الأمنية اللبنانية. وقبل أن يخرج النائب محمد قباني ليتحدث عن نفق بين فندق السان جورج والمبنى الذي يقابله، وقبل أن يُدلي «خبراء المتفجرات» بدلوهم في وسائل الإعلام، مؤكدين هذه النظرية، نشرت صحيفة «النهار» في عنوانها الرئيسي صبيحة اليوم التالي للجريمة السؤال الآتي: «هل زُرعت (المتفجرات) تحت الزفت؟».

لاقى هذا السؤال أجوبة في وسائل الإعلام، قبل أن تؤكد بتقرير نظّمه أحد ضباط سلاح الهندسة في الجيش، العقيد رولان أبو جودة.

قسم المباحث العلمية في الشرطة القضائية بدأ منذ اليوم الأول بجمع أشلاء الضحايا، وإعداد خريطة توضح مكان العثور على كل واحدة منها، قبل إرسالها إلى مختبرات الجامعة اليسوعية ومختبرات جامعة AUST، حيث أشرف على المهمة البروفسور فؤاد أيوب. ونتيجة لنتائج الفحوص، تبين أن 26 عيّنة (أشلاء جُمعت من مسرح الجريمة، بموجب عدد من المحاضر كان آخرها يوم 10/3/2005 تحت الرقم 190/302) تعود إلى شخص مجهول. وبينها جزء من إصبع (إبهام) فيه جزء من بصمة. ولم تتطابق هذه العينات، من خلال فحوص الحمض النووي (DNA)، مع أي ضحية، ولا مع عينات الحمض النووي التي أُخذت من والدَي أحمد أبو عدس. وقد عثر على جميع هذه العينات في الجهة الغربية من مسرح الجريمة (أمام الموكب)، قبل أن يعثر يوم 6 آذار 2005 (المحضر الرقم 176/302) على سن تبيّن لاحقاً أنها عائدة للشخص المجهول نفسه. وقد عثر على السن مصادفة داخل مسرح الجريمة، لكن من الجهة الشرقية (قبل مكان الانفجار). وهذه السن هي غير تلك التي أعلنت لجنة التحقيق الدولية في تقريرها الخامس (أيلول 2006) أنها عثرت عليها في حزيران 2006.

وبحسب فحوص الحمض النووي الأولية، رجّح الخبراء أن يكون هذا الشخص ذكراً يبلغ من العمر بين 20 و25 عاماً.

ورغم أن المحققين يرجّحون أن تكون الأشلاء التي عُثر عليها غرب مسرح الجريمة (بعد الحفرة) عائدة للانتحاري الذي يعتقد أنه فجر نفسه (يستخدمون تعبير «الشخص الأقرب إلى مركز الانفجار، من الجهة الغربية»)، وبالتالي، يجب منطقياً أن تكون جميع أشلائه موجودة أمام الحفرة، إلا أنهم يعتقدون أن السن التي عثر عليها خلف الحفرة دُفعت بالأقدام، نتيجة العدد الكبير من رجال الإسعاف والمحققين والمواطنين الذين دخلوا مسرح الجريمة يوم وقوعها وبعده.

وكانت نتائج هذه الفحوص الإشارة الأولى إلى غياب أي دليل على وجود أحمد أبو عدس في مكان الانفجار، رغم أن لجنة التحقيق الدولية، في الفقرة 189 من تقريرها الأول، تشير إلى إمكان «عدم العثور على أثر للحمض النووي لمفجر انتحاري يفجّر عبوة ضخمة».

وأخذ خبراء مكتب المتفجرات عيّنة من الأتربة الموجودة في الحفرة التي خلّفها الانفجار (محضر رقم 16/302)، قبل أن يرسموا خريطة تظهر جميع البنى التحتية الموجودة في منطقة الانفجار (محضر رقم 172/204). وعثروا داخل الحفرة، في عمق وصل إلى نحو ثلاثين سنتيمتراً تحت التراب، على قطع مهشّمة لسيارة، بينها جزء من محور علبة تغيير السرعة. ولفتَ الخبراءَ حينذاك وجود شظايا تعود لقذائف هاون من عيار 120 ملم (تقرير خبراء مكتب المتفجرات في الشرطة القضائية، المسجل تحت الرقم 32/207 يوم 2 آذار 2005)، وقد اخترقت هياكل بعض سيارات الموكب وبعض حجارة الرصيف قرب فندق السان جورج. وتبين لخبراء المتفجرات أن الوعاء الأسمنتي الذي تصبّ فيه مياه الأمطار (ريغار) وصل إلى الطبقة الأولى من فندق سان جورج، فيما كان غطاء الريغار موجوداً في الطبقة الثالثة.

شكْل الحفرة و«انبعاج» الأعمدة الأسمنتية في الأبنية المحيطة بمكان الانفجار والمساحة التي وقعت فيها الأضرار، إضافة إلى انغراز قطع سيارة داخل قعر الحفرة، سمحت للمحققين باستنتاج أن المتفجرة كانت موجودة فوق الأرض، وأنها على الأرجح كانت محمّلة على سيارة، قد تكون القطع الميكانيكية عائدة لها. أما شكل الحفرة وارتفاع ألواح الاسفلت على جوانبها، فيردّه خبراء المتفجرات في قوى الأمن الداخلي إلى «أداء» عصف الانفجار.

هذه النتيجة لم ترُق قوى 14 آذار، رغم تقاطعها مع تقرير الخبراء السويسريين الذين طلبت حكومة الرئيس عمر كرامي مساعدتهم. وكان العميد هشام الأعور هو «المتهم» بالوقوف خلف هذا التقرير. وقد وصلته، عبر أحد الأصدقاء المشتركين، رسالة شديدة اللهجة من أحد الأمنيين المقرّبين من آل الحريري، يطلب منه فيها «عدم التلاعب بالتحقيق».

لكنّ تقرير المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي وجد من يناقضه. العقيد في الجيش رولان أبو جودة وضع تقريراً آخر يقول فيه إن ثمة احتمالين: الأول أن يكون الانفجار تحت الأرض، والثاني أن يكون الانفجار فوق الأرض. وفي اجتماع عقد في مكتب المدّعية العامة التمييزية القاضية ربيعة عماش قدورة، حصل نقاش بين العقيد أبو جودة والعميد الأعور. أصرّ أبو جودة على القول إن الاحتمالين واردان، فسأله الأعور عن المكان الذي يرجّح أن تكون المتفجرات قد وُضعت فيه، فأجابه بأنها ربما كانت قد وضعت داخل «الريغار». فردّ الأعور بالقول إن احتمال وجود المتفجرات داخل «الريغار» يعني أن هذا الوعاء سيتفتّت، فيما لو كان يحوي 400 كلغ من مادة الـTNT، إلا أن هذا الوعاء الأسمنتي موجود في الطبقة الأولى من فندق السان جورج، وبالتالي، فإن عصف الانفجار رفعه.

لم يقتنع أي من المحققَين بوجهة نظر زميله، فيما استخدمت قوى 14 آذار تقرير أبو جودة لتحاول إثبات وجهة نظرها السياسية. وعندما يُسأل المقرّبون من أبو جودة عن سبب وضعه للتقرير المذكور، يجيبون بأنه لم يقم بأكثر من عرض وجهات النظر التي لا يجزم بصحة أي منها. لكنّ أحد المحققين البارزين الذين تولّوا التحقيقات في اغتيال الحريري في الفترة الأولى، يتحدث عن تأثير العميد غسان بلعة، المقرّب من آل الحريري، على العقيد أبو جودة. ويقول المصدر إنه شاهد بأم عينيه بلعة برفقة أبو جودة في مسرح الجريمة بعد نحو يومين على وقوعها. ويعطي الضابط شاهداً على ذلك بالقول إن بلعة كان يخدم حينذاك في المفتشية العامة للمؤسسة العسكرية، ولم تكن له صفة تحقيقية. ثم يضيف: «عندما رأيت بلعة مع أبو جودة، سألت أحد المسؤولين المباشرين عن بلعة في الجيش عمّا إذا كان الأخير مكلّفاً بالحضور إلى مسرح الجريمة، فنفى المسؤول في المفتشية ذلك».

ويؤكد عدد ممّن تولّوا التحقيق في اغتيال الحريري، في الأشهر الأولى، أن ثمة عراقيل كانت توضع أمامهم، غير الهجوم الإعلامي والسياسي الذي كانوا يتعرضون له. ومن تلك العراقيل ما واجهه محقّقو فرع المعلومات عندما كانوا يتابعون قضية شريط أحمد أبو عدس. فالشريط المذكور كان قد وُضِع على شجرة قرب مبنى الاسكوا في وسط بيروت، ثم اتصل واضعوه بقناة الجزيرة لإبلاغها بمكانه. ويوم 14/3/2005، بعثت المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي بكتاب إلى قاضي التحقيق العدلي ميشال أبو عراج (يحمل الرقم 616/205 ف م 1) تطلب موافقته للحصول على نسخ من تسجيلات كاميرات المراقبة في الاسكوا. لكنّ المحضر (الرقم 128/302) الذي نظّمه فرع المعلومات في التحقيق في الجريمة يظهر في الصفحة 102 منه (النسخة المطبوعة بواسطة الكمبيوتر) أنه «بعد التنسيق مع العميد المتقاعد إلياس داوود، مسؤول الأمن في مبنى الاسكوا، أفادنا هاتفياً بأن الكاميرات المثبتة على مبنى الاسكوا لا تلتقط سوى مدخل المبنى وأطرافه وداخل المبنى، وأن المَشاهد تُمحى تلقائياً بعد مدة وجيزة. وأضاف أنه سيزوّدنا كتاباً خطّياً للغاية نفسها». لكنّ ما يُنسَب إلى داوود في المحضر الرسمي يتناقض مع ما ورد في التقرير الأول الصادر عن لجنة التحقيق الدولية يوم 20 تشرين الأول 2005، وبالتحديد في الفقرة 197 منه، حيث أوردت اللجنة أنها حصلت «من الاسكوا على أشرطة المراقبة التلفزيونية ليوم 14 شباط 2005، وشاهدتها بهدف محاولة التعرّف إلى أي أفراد أو مركبات يمكن أن يكون لها علاقة بترك شريط الفيديو ذاك أو بالاتصالات الهاتفية بالجزيرة».

شيئاً فشيئاً، بدأت الهوية اللبنانية للتحقيق اللبناني تتراجع، مع وصول لجنة تقصّي الحقائق (يوم 25 شباط 2005) إلى لبنان، إذ بات بيتر فيتزجيرالد يتصرّف كوصيّ على التحقيقات. أضف إلى ذلك، يقول أمني أدى دوراً محورياً في تلك الفترة، «صرنا على يقين بأن ثمة لجنة تحقيق دولية آتية قريباً لتولّي التحقيقات، وبالتالي صار معظمنا يخشى ارتكاب أيّ خطأ، وخاصة في ظل الهجمة الشرسة التي كنا نتعرّض لها. كنا، قضاةً وأمنيين، نحاول إنهاء ما بدأنا به، من دون الخوض في تحقيقات جديدة».

أحد أوجه تلك الهجمة كان اتهام المحققين اللبنانين بوضع أجزاء من سيارة الميتسوبيشي داخل حفرة السان جورج، والمطالبة اليومية بإقالة القائمين بالتحقيق وقادة الأجهزة الأمنية. ويروي المعنيون بهذا الجانب أن القاضي أبو عراج، بصفته محققاً عدلياً في الجريمة، طلب من القائمين بالتحقيق في قوى الأمن الداخلي النزول إلى مسرح الجريمة لتحديد الأماكن التي استُخرجت قطع المتسوبيشي منها. وبناءً على أمر أبو عراج، أخذ محقّقو الشرطة القضائية معهم أجزاء السيارة، وصاروا يضعون كل واحدة منها في مكان العثور عليها. وفي الوقت عينه، كان ثمة مصوّرون يلتقطون صوراً لما يجري، فاستُخدمت هذه الصور للقول إن المحققين يتلاعبون بالتحقيق، وهو ما استند إليه رئيس بعثة تقصّي الحقائق في تقريره (24 آذار 2005) لزيادة التشكيك في عمل الأجهزة اللبنانية.

الجوانب التحقيقية المذكورة لم تُستكمَل. فسريعاً بدأت التغييرات الأمنية في لبنان، ونقلت مركزية العمل إلى فرع المعلومات بإدارته الجديدة (ابتداءً من نيسان 2005). وما تحقق خلال الشهرين الأوّلين لم يكن أكثر من خطوات أولية ينبغي استكمالها. وأبرز تلك الخطوات ما أُنجز على صعيد المسارين اللذين لا تزال المحكمة الدولية تتابعهما حتى اليوم، أي شاحنة الميتسوبيشي والاتصالات الهاتفية.

وثائق من التحقيق الأولي منشورة على الموقع الإلكتروني لـ«لأخبار»

(غداً: كيف أخفت لجنة التحقيق الدولية نتائج التحقيق عن شاحنة الميتسوبيشي)

«تحقيق» حزب الله

ليل 20 شباط 2005، زار الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله منزل الرئيس رفيق الحريري في قريطم، للتعزية برحيل الرئيس السابق للحكومة. حضر اللقاء أرملة الحريري وأبناؤه، وشقيقته النائبة بهية الحريري. ساد اللقاء حديث وجداني، روى خلاله نصر الله بعض وقائع لقاءاته بالرئيس الحريري.

طلبت السيدة نازك الحريري من الأمين العام لحزب الله أن يتولى أمنيون من الحزب التحقيق بالجريمة، فردّ السيد بالقول إن هذا الأمر غير ممكن، لأسباب عديدة منها أن الحزب غير قادر على إجراء تحقيقات عدلية واستدعاء الشهود أو المتهمين، فضلاً عن عدم وجود صفة رسمية تمكنه من دخول الملفات الرسمية في الدوائر الحكومية والأمنية والقضائية. وعرض نصر الله أن يقصد عدد من خبراء المتفجرات في المقاومة مسرح الجريمة، لوضع تصور أولي عن تقديرهم لكيفية حصول الجريمة.

لاحقاً، نزل أفراد من المقاومة، برفقة دورية من مديرية استخبارات الجيش، وجالوا في مسرح الجريمة وتفحّصوا عدداً من موجوداتها، وأجروا نقاشات مع عدد من خبراء المتفجرات العاملين في القوى الأمنية الرسمية. وبناءً على ذلك، وضعوا تقريراً أولياً يتضمن تصورهم لكيفية وقوع التفجير. ولفت أحد المعنيين بالقضية إلى أن التقرير كان دقيقاً جداً، ومطابقاً، في بعض أوجهه لما توصل إليه لاحقاً المحققون اللبنانيون، ولا سيما لناحية أن التفجير وقع من فوق الأرض وأن العبوة الناسفة كانت محملة على شاحنة وأنها كانت تحوي قذائف.

وقد سلّم مسؤولون من الحزب التقرير إلى العقيد وسام الحسن. وبعد أكثر من عام على ذلك، صار بعض المقرّبين من رئيس الحكومة سعد الحريري، يلمّحون إلى أن التقرير يتضمن معلومات لا يعرفها سوى مرتكبي الجريمة!

تعليقات: