تحديات مهمة تواجه المصارف اللبنانية الكبرى

شارع المصارف في بيروت
شارع المصارف في بيروت


كلفة النقد وتوسيع قاعدة الرساميل والتحول الى الإقليمي... والكفايات..

عرف لبنان منذ الخمسينيات بالسوق المصرفية العربية. لم تكن الدول العربية بالنضوج الكافي لايجاد سوق مالية او مصرفية محلية، حتى تلك التي كانت تشهد بعض الحركة المصرفية تأثرت بالقرارات السياسية التي اتخذتها حكومات الثورات العربية واتجهت نحو السوق الموجهة بدلاً من السوق الحرة، مع ما يتبع ذلك من تأميم لمصارفها.

بالطبع لم يكن الخليج العربي قد عرف صناعة الصيرفة، وكان النقد يتداول بجزء كبير منه بالقطع والاوراق النقدية واختلط العمل المصرفي التجاري بمبدأ الربا الى حين نضوج السوق المصرفية الخليجية ودخول المصارف الاجنبية، اولاً بفروع وبنوك مستقلة، و ثانيا من خلال الانابة لادارة المصارف الوطنية.

ومنذ مطلع السبعينات تغيرت السوق المصرفية العربية وخسر لبنان مكانته، ومرد ذلك الى الأسباب الآتية :

1 - الطفرة المالية في دول الخليج الناتجة عن ارتفاع أسعار النفط وتوجه بيوت المال والمصارف الدولية الى هذه الأسواق اضافة الى انشاء مصارف محلية.

2 - الحرب اللبنانية وخروج معظم المصارف الدولية من لبنان الى الدول المجاورة.

3 - تحرر عدد كبير من الدول من السياسات الاقتصادية الموجهة واطلاق يد مصارفها الوطنية في العمل المصرفي الحر.

وكانت النتيجة ان تأثر لبنان سلباً في سوقه المصرفية والمالية وايجاباً من خلال افساح مساحة واسعة امام المصارف اللبنانية لسد الفراغ الحاصل وتحمل مسؤولية تمويل الاقتصاد الوطني، في ظل اوضاع غير مستقرة واخطار غير عادية.

في الحقيقة، شهدت المصارف اللبنانية نمواً كبيراً واحدثت تطوراً في الإدارة ونظم المعلوماتية. واكبت المصارف التطورات الحاصلة في الأسواق المالية الدولية، غير ان عملياتها المصرفية كانت تقتصر على أمرين:

1 - السوق المحلية في مواجهة حاجات التمويل للاقتصاد، او في امتصاص التحاويل الواردة من المواطنين اللبنانيين وأموال الحرب.

2 - ملاحقة عملائها العاملين في الخارج، لا سيما رجال الأعمال اللبنانيين، لتمويل أعمالهم التجارية وحركة رساميلهم في أفريقيا واوروبا ودول الخليج العربي.

جاء تطوير العمل المصرفي بوتيرة فاقت حركة نمو الاقتصاد الوطني، ومنذ ذلك التاريخ اصبحت الكتلة النقدية تفوق حجم الاقتصاد غير ان هذا الفائض لم يكن حتى عام 1984 عبئاً على المصارف، إذ كانت تكلفة الأموال الفائضة تغطى بعائد الايداعات بالعملات الاجنبية لدى المصارف المراسلة.

تعرضت المصارف في مسيرتها منذ عام 1984 وحتى عام 1992 الى مطبات خطيرة ما ادى الى تعثر عدد كبير منها، وكانت الاسباب في ذلك ليس اخطار الدولة فحسب بل الوهن والضعف الاداريان لهذه المصارف اذ لم يأت تطوير الكوادر الإدارية بالقدر الذي حصل فيه النمو في حجم هذه المصارف او في حجم الكتلة النقدية.

والصعوبات الاضافية التي واجهتها المصارف كانت في ذوبان رساميلها وارتفاع حجم الديون المتعثرة نتيجة تدهور سعر صرف الليرة اللبنانية، في الوقت الذي كانت المصارف مقرضة للاقتصاد بالعملات الاجنبية من دون حساب اخطار العملات او مقاربة التدفقات النقدية بالعملات الاجنبية للمدين مع حجم الديون المترتبة عليه بالعملات ذاتها.

يظن البعض ان الأسباب الكامنة وراء أزمة المصارف منذ العام 1984 هي التطورات السلبية في الاقتصاد الوطني والمالية العامة، اذ واجهت البلاد تحويل كتلة كبيرة من ودائع الى الخارج بسبب خروج المقاومة الفلسطينية وتمويل الاسلحة للدولة في تلك الحقبة. لكن، من وجهة نظر موضوعية، ان هذه الاخطار كانت منظورة من المصارف الكبيرة التي استطاعت ترقب انعكاسات هذه الاجراءات في الوقت الذي لم تستطيع المصارف الصغيرة، او بعضها، رؤية هذه الانعكاسات. وكان السبب في ذلك من وجهة نظرنا ضعف ادارات هذه المصارف.

لم تقف السلطة النقدية مكتوفة اليدين، وان لم تكن اجراءاتها قد امنت الحماية للمصارف المتعثرة، فاتخذت تدابير قيصرية من خلال اللجوء الى القضاء، وبالتحديد الى محكمة الافلاس بدعاوى التوقف عن الدفع وافلاس بعض هذه المصارف، وذلك الى حين ولوج الحاكمية الحالية في عام 1992 طريقاً مغايراً، اذ ساهمت في اقرار قانون الدمج المصرفي والتصفية الذاتية. ومنذ ذلك الوقت بات في اذهان اللبنانيين والمودعين ان افلاس المصارف وخسارة المودعين اموالهم امر غير وارد او ممنوع حصوله.

استقر العمل المصرفي، وعادت المصارف اللبنانية الى مرحلة نمو جديدة، وظهرت على الساحة تكتلات مصرفية كبيرة باتت باحجامها توازي كبار المصارف العربية، وركزت في نموها على السوق المحلية اضافة الى السوق العربية وعلى نطاق ضيق السوق الدولية.

واللافت ايضاً في هذه المرحلة هو التعاون الاستثنائي والايجابي الحاصل بين المصارف والسلطة النقدية، فقد بات العمل المصرفي عملاً متكاملاً ومواجهة اخطار العملة واخطار العمليات والائتمان مسؤولية مشتركة بين مصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف من جهة والمصارف التجارية من جهة أخرى.

هذا التكامل استطاع ان يحمي القطاع وان يحمي ايضاً العملة الوطنية، ولذلك استطاع لبنان ان يتخطى ازمات متكررة كادت ان تطيح بالليرة اللبنانية او برساميل المصارف في حالات التعثر الائتماني. وكان لحكمة مصرف لبنان الفضل الكبير في تخطي الازمة الائتمانية التي أصابت المصارف والاقتصاد منذ العام 1999 وحتى العام 2006، ولولا مبادرة مصرف لبنان وادراك المصارف لآلية معالجة الأزمة لما آلت الأمور ايجاباً الى الوضع الحالي وبالعودة قليلاً الى الوراء، نجد ان لبنان افاد من الأزمة المالية العالمية وشهدت المصارف طفرة كبيرة في ودائعها آتية من اللبنانيين في الخارج ومن بعض المستثمرين الخليجيين. ولا يصح القول هنا ان المصارف اللبنانية تعطى الأمان والضمان للودائع في العملات الأجنبية، في حين تكون الاخطار لدى المصارف الدولية الكبيرة. هذا افتراض علمي غير صحيح، ولكنه يصح في سلوك المودع واقتناعاته لحفظ الأموال، ولبنان افاد من هذا السلوك لأجل زيادة الأحجام وبات اليوم مسؤولاً عن احتواء هذه الأموال.

لذلك، ونحن امام بحبوحة الودائع واستقرار النقد وتفاقم الاحجام، لا بد من التنبيه الى النواحي الآتية:

1 - كلفة النقد:

بالرغم من تراجع معدلات الفوائد على الودائع في لبنان فان الظاهر ان حجم عمليات المصارف التجارية لا يكفي لتغطية الكلفة. فالمعلوم ان الفائدة على الوديعة بالعملة الاجنبية في لبنان تفوق تلك التي تتقاضاها المصارف من المراسلين في الخارج، وأن حجم الاقراض لا يزال دون المستوى الذي يكفل تغطية كلفة مجموع الودائع. التغطية لهذا الفارق مع هامش الارباح تأتي من مردود الايداعات لدى مصرف لبنان ومن مردود سندات الخزينة لدى الدولة اللبنانية.

هذه التغطية وان تكن مبررة لما يحتاجه الاقتصاد من مصادر تمويل او لما يحتاجه الاستقرار النقدي والمالية فإنها تكلفة يتحملها بالنتيجة الاقتصاد الوطني. وبما ان هاتين الحاجتين باقيتان لمدة طويلة وهوامش الفوائد تضيق فان المصارف مدعوة لمواجهتها بتخطيط متوسط وطويل الامد.

2 - توسيع قاعدة الرساميل:

بات من الطبيعي الانتقال بمؤسساتنا المصرفية من الحال العائلية الى الجمهور. التحكم بالقرارات من قبل العائلة او قلة أفراد لم يعد مقبولاً إذا ما كان المراد التحول الى مصارف اقليمية كبيرة. يمكن توسيع قاعدة الرأسمال من خلال توسيع قاعدة الأسهم العادية أو ولوج قاعدة اصدار اسهم تفضيلية و سندات قابلة للتحويل الى الرأسمال، وكل ذلك من أجل إعطاء مساحة واسعة لزيادات الرأسمال وتنشيط السوق المالية في لبنان.

نحن ندرك اننا نعاني في لبنان ضعفاً في السوق المالية، ولاسيما في حركة تداول الأسهم والسندات في بورصة بيروت، والسبب في ذلك خلل بنيوي في هذه البورصة. لابد من إعادة النظر في هيكلية البورصة وفي شكلها القانوني اسوة ببورصات دول العالم. يمكن ان يكون الحل في ان تتحول البورصة الى نظام القطاع الخاص مع فك ارتباطها بوزارة المال وحض المصارف على إدراج اسهمها في البورصة.

نلاحظ ان حركة اسهم سوليدير تعطي الدلالة الى نشاط البورصة وذلك ليس لقوة سوليدير بل لضعف البورصة. ان دخول المصارف بأسهم وسندات من شأنه احلال توازن حقيقي لأجل تنشيط حركة التداول وايجاد سوق مالية حقيقية. في هذا السياق، لا بد لمصارف الأعمال من ان تلعب الدور المطلوب منها.

لن تستطيع بورصة بيروت ان تنشط ولن تستطيع المصارف اللبنانية الكبرى ان تواكب المرحلة المقبلة الا من خلال توسيع قاعدة الرأسمال وفقدان التحكم من قبل عدد قليل من المساهمين.

3 - الإدارات العامة:

لم تعد المصارف بأحجام تمكن ادارتها بكوادر متوسطة الخبرة، وبات من المطلوب تعزيز الادارات العامة بأفراد ونظم واجراءات إدارية متطورة ومناسبة للمرحلة المقبلة. و إذا كانت المصارف الصغيرة او المتوسطة غير قادرة على تحمل تكاليف تطوير اداراتها فان المصارف الكبيرة قادرة وعليها ايلاء هذه الموضوع الاولوية في السنوات المقبلة.

لا يخفى على احد ان السوق المصرفية تحكمها مصارف لبنانية كبيرة الحجم قليلة العدد. تظهر المصارف الخمسة الأولى ما يوازي //80// مليار دولار في مجموع موجوداتها، وهذه المصارف، اضافة الى ما يتبعها من مصارف اقل حجماً، مدعوة الى مواجهة النقطتين المشار اليهما سالفاً.

والسبيل في ايجاد الحلول يمكن ولوجه من بابين اثنين:

أولاً: الخروج الى الأسواق الخارجية والعمل على التحول من مصارف محلية الى مصارف اقليمية، سواء بالعمل منفردة او من خلال المساهمات في المصارف الأخرى او الدمج مع مصارف اقليمية اخرى.

ثانياً: تطوير الإدارات العامة من خلال اتخاذ اجراءات جريئة تتمحور حول فصل حقيقي ما بين مجلس الإدارة والإدارة التنفيذية.

هذا هو التحدي الكبير للمصارف اللبنانية. لا يمكن الاستمرار في إدارة المصارف من خلال التحكم بالرساميل، او بمعنى آخر من خلال تولي المساهم الأكبر الإدارة التنفيذية.

ان فصل مجلس الإدارة عن الرئيس التنفيذي يضاعف من حدة الحوافز والرقابة في آن واحد، فالرئيس التنفيذي ملزم أن يحقق نمواً مستمراً في الحجم والارباح، وهو مسؤول امام مجلس الإدارة لتحقيق أهداف النمو والتطوير، ولا يمكنه التقاعس او الفشل في تحقيق الأهداف، لحماية سمعته الإدارية، ان لم يكن تفادياً لخسارة موقعه او وظيفته.

والرئيس التنفيذي الذي يعين بناء لكفاءته لا يحمل ضمانة بقائه من خلال التحكم بأكثرية الأسهم، بل يبقى جاهداً لإظهار ارقام ايجابية في نتائج المصرف لضمان استمراره.

ومجلس الإدارة الذي يقرر ويراقب يضمن سلامة العمل وعدم الخروج عن النظم وأصول العمل او تحمل اخطار غير عادية، فالرقابة تبقى أكثر حدة وفاعلية عندما تمارس من اصحاب المال على اصحاب الخبرات، في الوقت الذي تكون الحوافز لاصحاب الخبرات هي الضامنة للعمل الدؤوب والسليم.

والقصد في الفصل يعني الرئيس التنفيذي و الكوادر العليا التي يجب ان يختارها الرئيس التنفيذي بحرية ودقة لأن مساره يبقى عرضه للفشل اذا لم يشكل فريقاً متضامناً، كاملاً فاعلاً ناشطاً، لأجل حماية الفريق وحماية الفرد في آن واحد.

نحن نعلم ان ما نشير اليه ليس بالأمر اليسير، وذلك لمقاومة اصحاب الرساميل التخلي عن الإدارة، او لندرة الرؤساء التنفيذيين للمصارف الكبيرة. في هذا الاتجاه لا بد من الإشارة الى ان حال الفصل موجودة حالياً في بعض المصارف اللبنانية الكبرى، وهذه الحال ساهمت، بل كانت السبب، في اعتلاء المصرف عينه الريادة المصرفية، والفضل في ذلك كان لكفاءة الرئيس التنفيذي وربما الأهم لجرأة اصحاب الرساميل الذين قبلوا تذويب انفسهم لمصلحة المصرف واستحقوا بالتالي نمواً كبيراً في قيمة مساهمتهم.

أما إذا كان التحفظ لندرة الرؤساء التنفيذيين فلا خجل ولا عيب في الاستعانة بالخارج، سواء باللبنانيين او حتى الأجانب، لأن مرحلة التطوير والتغيير في السلوك الإداري مرحلة طويلة نبدأها بقرار وبالخطوة الأولى في مسيرة الألف ميل.

نحن لا نقترح اساليب جديدة بل نقلد او نقتبس من مصارف مماثلة عربية ودولية. كلنا يعلم ان الرؤساء التنفيذيين للمصارف الدولية او للمصارف العربية يعملون تحت رقابة مجالس إداراتها، ولكن بحرية وصلاحية يتطلبها العمل المصرفي السليم.

ان الرئيس التنفيذي الذي يحمل التسمية من دون الصلاحية لا يخدم الهدف الذي نتكلم عنه. فمجلس الإدارة الذي يحمل الاسهم من دون القدرة على الرقابة ايضاً لا يخدم الهدف نفسه. المطلوب هو الفصل في السلطة والصلاحيات مع خط التوازن والتكامل لضمان حسن التنفيذ وصحة الرقابة الذاتية.

لبنان لم يكن ابدا بعيداً من هذا النوع من الإدارة. حتى في السبعينيات كان هناك فصل، وشهدت المصارف التي اعتمدت هذا الفصل والتناغم بين الرئيس التنفيذي ومجلس الإدارة نمواً كبيراً ونجاحاً مستمراً، وهى لا تزال حتى الآن تحتل مركزاً جيداً بين المصارف العاملة.

ان التركيز على الرئيس التنفيذي يضمن صلابة الكوادر الادارية، لانه يدرك ان نجاحه مرهون بالخبرات الموجودة في مصرفه، وهو سيسعى حتما الى استقطاب الكوادر الجيدة والاهتمام بتطويرها وتدريبها وتثقيفها، ليس فقط من باب الرعاية بل من باب الحماية وضمان تحقيق اهداف ادارته.

يصعب علينا ان نلاحظ تغييرا سلبياً في سلوك الكوادر البشرية. في الماضي كان المصرفي اللبناني يعمل لمدة 7 او 10 سنوات في لبنان ليخرج الى السوق العربية او الدولية مديراً، واليوم بات علينا ان نرسل كوادرنا الى السوق العربية او الدولية لمدة 7 او 10 سنوات ليعودوا الينا مديرين.

لابد من الاهتمام بالمصرفي اللبناني، وفي رأينا يكون التحدي في اعتماد الفصل بين مجلس الإدارة والرئيس التنفيذي، يتبعه حسن اختيار الرئيس التنفيذي، فان لم يكن حاضراً في لبنان فلا خجل من استقطابه من الخارج، لبنانياً كان ام اجنبياً، فالمطلوب التهيئة للمستقبل، هذا المستقبل الذي سيكون امتداداً للحاضر، اذ بات القطاع المصرفي في سلامته ضامناً للاقتصاد الوطني ولوحدة البلاد واستمرارها وذلك من دون اي مبالغة.

سمير حمود

( نائب المدير العام لبنك البحر المتوسط سابقا رئيس مجلس ادارة تلفزيون المستقبل)

تعليقات: