القليلة: قبل الشتاء الخامس


في الذكرى الرابعة للعدوان، وقبل حلول الشتاء الخامس بعده، يستعدّ أهالي القليلة للاحتفال بإنجاز المشروع السوري لإعادة إعمار منازلهم بعد معاناة طويلة مع الحكومة وأهل البيت الواحد

صور ــ

من يُعِدِ استكشاف بلدات الجنوب، يصعب عليه العثور بين أحيائها، على أثر عدوان تموز في ذكراه الرابعة. فالتعويضات بدفعتيها الأولى والثانية صُرفت لمعظم المتضررين، والبيوت عادت «أجمل مما كانت»، وأصحاب الأموال لم يتورعوا عن بذل الغالي لتشييد القصور التي دُمرت أكثر من مرة. إذ إنّ محمد شلهوب، الذي أعاد رصف قصره وزخرفته، الذي دمر خلال مجزرة قانا الثانية، يجد في الأمر وجهاً من وجوه الحياة والمقاومة «حينما تعلو قصورنا من حول مقبرة شهداء المجزرة، فنجمع لذة الحياة والموت معاً» يقول الحاج محمد. إشارة إلى أن شلهوب وأقرانه أعادوا إعمار بيوتهم من جيوبهم الخاصة، بعد تعثر بتّ تقدير التعويضات عليهم بسبب حجم الأضرار الكبير. وكانت الصعوبة تكمن حينها لدى فرق الكشف الهندسي على الأضرار، في تقدير كم تساوي كلفة القصر، على حساب أن تعويض كل وحدة قدّرته الحكومة بستين مليون ليرة على اختلاف مساحاتها ومحتوياتها الداخلية. فلا فرق في تعويض الدولة بين قصر و«تخشيبة». الكل متساوٍ.

وإذا كانت ورش تشييد القصور التي دمّرها العدوان لم تنجز بعد بسبب ضخامتها وكثرة تفاصيلها العمرانية، فإن فئة أخرى لم تستعد بيوتها الصغيرة بسبب ربط مصير إعادة إعمارها بالدولة اللبنانية التي تهب التعويضات لمستحقيها بـ«القطّارة».

في بلدة القليلة التي نُكبت بتدمير 265 بيتاً، لا يزال أحد المتضررين يرفع لافتة كتب عليها: «هنا بيت جدي وأبي وهنا ولدت وهنا أُدفن». اللافتة التي لفها الغبار وبهت حبر كلماتها، أنهكها الوقوف على أنقاض منزله منذ اربع سنوات، فيما انتصبت معظم البيوت مجدداً من حولها. بيت احمد ابو خليل ووالده وجده، حالت دون إعماره عراقيل عدة، إحداها قرار وزير الداخلية الأسبق احمد فتفت الصادر بعد اسابيع على العدوان، بمنع اعادة إعمار البيوت المهدمة كلياً، التي كانت قائمة ضمن أراضي المشاعات مع تعويضها بالستين مليوناً، فيما سمح بترميم البيوت المتضررة جزئياً. علماً بأن القرار أُتبع بمنع رؤساء البلديات من منح تراخيص تسمح بذلك. وإلى منزل ابو خليل، هناك في القليلة 39 منزلاً مهدماً ضمن الأملاك العامة، و28 أخرى في الأملاك البلدية.

إلا أنّ «قطوع» بيوت المشاعات حُلّ بعد عامين إثر تدخل رئيس المجلس النيابي نبيه بري مع رئيس الحكومة ووزير الداخلية لاستصدار إذن استثنائي يسمح للمتضررين كلياً بإعادة الاعمار، لأنهم لا يملكون مكاناً بديلاً.

في المقابل، استفاد اصحاب 175 وحدة سكنية من الهبة السورية التي عرضت إعادة إعمارها بتنفيذ مجلس الجنوب وإدارته، على مساحة 130 متراً مهما بلغت مساحتها السابقة قبل الدمار. من هنا، وبعدما سحبت الهيئة العليا للاغاثة والحكومة يدهما من إعادة اعمار القليلة، فإن الكثيرين استجابوا لأمر الواقع السوري، بعد ترددهم في البداية. لكنهم بعد ذلك، عمدوا الى تعديل المخطط السوري لناحية المساحة ونوعية البناء والإضافة عليه، من جيوبهم الخاصة. من بينهم رئيس البلدية الحالي جمال شبلي، الذي أعاد إعمار منزله بمساحته السابقة وعلى ذوقه الخاص، بالتنسيق مع المهندسين المكلفين من جانب وزارة الإسكان السورية.

إلا أن أصحاب ستين وحدة سكنية، رفضوا قبول الهبة السورية، مفضلين إعمار بيوتهم من دون مشاركة احد في التفاصيل والكلفة، فضلاً عن أن بدء تنفيذ المشروع السوري قد تأخر أكثر من عام بعد الإعلان عنه. من بينهم عضو البلدية خضر سالم، الذي فضّل تحمّل نفقات البناء والاستدانة على الانتظار الطويل من دون مأوى. الا أن أطرافاً عديدة تدخلت لاحقاً لتعويضهم عمّا تكبدوه في ظل نأي الحكومة بنفسها عنهم، منها مؤسسة جهاد البناء، التي بادرت إلى دفع التعويض الذي أقرته الدولة عن كل وحدة، أي ستين مليوناً، على شكل سلفة يسدّدها المستفيدون بعد حين، إضافةً إلى الأموال التي كانت تعطيها المؤسسة كمساعدة للأهالي المهدمة بيوتهم تهديماً كلياً. فدفعت قبل ثمانية أشهر 40 في المئة من القيمة، ومنذ أيام بدأت بصرف ما بقي.

أما البلدية، فقد خصصت أولى لجانها المؤلّفة لملف إنجاز إعمار البلدة، وخصوصاً لتسوية أوضاع أقل من عشرة أشخاص لم يبدأوا بعد بإعادة إعمار بيوتهم لأن ملفاتهم عالقة لناحية الشؤون العقارية، إضافةً الى قرار منع منح تراخيض البناء الصادر عن وزارة الداخلية منذ اشهر.

ولدى مراجعته المعنيين بشأن سداد التعويضات غير المشمولة بالهبة السورية، أُجيب شبلي بأن مجلس الجنوب ينتظر إقرار الموازنة في المجلس النيابي والخاصة به. عندها، سوف يبت الأمر ويحوّل الملفات إلى الهيئة العليا للاغاثة التي تستصدر أمر صرف الأموال للمتضررين.

إشارة إلى أن هناك بعض الملفات التي لا تزال عالقة في بلدات اخرى، مثل زبقين، بسبب إشكالات تخللتها بعض الطلبات خلال عملية الكشف من جانب مجلس الجنوب وشركة خطيب وعلمي.

ماذا عن الزراعة والتجارة والآليات المتضررة؟

خلال زيارته الأخيرة إلى منطقة صور، نأى وزير الزراعة حسين الحاج حسن بنفسه وبوزارته عن أمر التعويض على الأضرار الزراعية التي خلّفها عدوان تموز، على اعتبار أنها «غير معنية بذلك، بل هذه مهمة الهيئة العليا للإغاثة». علماً بأنّ فرق الوزارة أجرت بعد انتهاء العدوان مباشرة مسحاً للأضرار في البلدات المتضررة ورفعها، تمهيداً لإقرار التعويض لأصحابها، الا أنّ شبلي يشير الى «غموض تعاطي الحكومة مع الملف الذي لم يلقَ تجاوباً لدى الأطراف المعنية»، كاشفاً عن نيته رفع كتاب الى الحكومة عبر وزير الداخلية لتحريك المسألة والتعويض على القليلة، التي يعيش معظم سكانها من قطاع الزراعة.

النكبة الخضراء لا تقتصر على القليلة، بل تمتد الى جميع بلدات المنطقة على طول السهل الساحلي. ويتحدث مختار الناقورة موسى طاهر ليس فقط عن كساد محصول عامي 2006 و2007، بل أيضاً عن «الآثار الطويلة للقنابل التي سمّمت التربة ولا تزال تضرب المواسم الزراعية عاماً بعد عام». في المقابل، لم يلقَ طاهر جواباً عن الأضرار في المؤسسات التجارية والصناعية والآليات».

إشارة الى أن الحكومة كانت قد حددت آلية التعويضات بمراحل ثلاث، أولاها تعويض الوحدات السكنية، وثانيتها تعويض الأضرار الزراعية، وثالثتها تعويض الأضرار التجارية والصناعية والآليات.

إنجاز الإعمار التنموي؟

كانت لمصيبة عدوان تموز عند بعض المواطنين في الجنوب، فوائد تنموية عدة. فقد تحولت البلدات المنكوبة منذ ما بعد العدوان مباشرة الى قبلة لمئات الهيئات المحلية والدولية، الى جانب مؤسسات الأمم المتحدة، ومنها وحدات اليونيفيل في إطار «مرحلة الطوارئ». وقد تفرّعت عن هذه المرحلة، بضع مراحل منها، الأولى التي استمرت أشهراً عدة، وتضمّنت دعم السكان صحياً ونفسياً وتأهيل البنى التحتية المتضررة وتأمين موارد مياه نظيفة وتوزيع أدوات زراعية وحيوانات عوضاً عمّا نفق. أما المرحلة الثانية، فقد شملت «الإنعاش الاجتماعي والاقتصادي» الذي انعكس على البلدات بمشاريع مثل إنشاء حديقة عامة أو تجهيز مكتبة أو محطة تكرير مياه ... لكن، هذه الرهجة التي حصلت في الجنوب خفتت بعض الشيء، بعدما انسحبت معظم الجهات المانحة التي تدخلت لرفع آثار الحرب من جهة، ومن جهة أخرى، تتوجه الهيئات التي لا تزال تحتفظ بدورها بصرف أموالها ومشاريعها إلى مجالات ذات تنمية استراتيجية متوسطة وبعيدة المدى. وتتجلى مظاهر التنمية حالياً في تدريب الكوادر البشرية المحلية على ابتداع وظائف ومشاريع خلّاقة قد تكون عصيّة على الدمار.

تعليقات: