«عشتُ الحرب... ونجحت في التجربة»

بشير يدلّ إلى السيارة التي خربت الدنيا (وائل اللادقي)
بشير يدلّ إلى السيارة التي خربت الدنيا (وائل اللادقي)


يتذكّر بشير السلمان (26 عاماً) جيداً كيف تبلّغ خبر وقوع مجزرة مروّحين.

كان جالساً في مركز الدفاع المدني في شارع الآثار في صور عندما تلقى مدير المركز اتصالاً وسأل وهو يقفل الخط: «من يريد منكم الذهاب إلى مروّحين؟ وقعت مجزرة هناك».

رفع بشير يده، وكذلك فعل ثلاثة من زملائه: سلام ضاهر، عباس جعفر، ومحمود نجيّه. استقلّ الشباب سيارة الإسعاف الوحيدة التابعة للدفاع المدني في صور وانطلقوا باتجاه البلدة.

يروي بشير: «عندما وصلنا إلى طير حرفا ـــــ البياضة التقينا بسيارة إسعاف تابعة للهيئة الصحية الإسلامية وهي عائدة، قالوا لنا إنهم استطاعوا نقل ثلاثة جرحى فقط «ويمكن ما تلحقوا حدا عايش بعد».

رغم ذلك أصرّ الفريق على إكمال سيره «وعندما وصلنا إلى آخر بيت في البياضة بدأ الطيران الإسرائيلي يقصفنا، نزلنا من الإسعاف مسرعين قبل أن نطفئ محرّكها واختبأنا في البستان القريب». يبتسم بشير وهو يروي أنه وجد نفسه قرب زريبة بقر «كان صاحبها قد أقفل على الحيوانات الباب، فدخلت وفتحت لها... لماذا تبقى مسجونة إذا كانت معرّضة للموت؟»

في البستان الذي نزل فيه الشباب لم يكن ثمّة شيء يحتمون به إلّا التبن «صنعنا متاريس من التبن وكأننا نعتقد أنها ستردّ عنّا، وبقينا نتواصل على الأجهزة إلى أن خفّت حركة الطيران فعدنا إلى السيارة».

بقي الشباب على هذه الحالة نحو نصف ساعة، وعندما خفّت حركة الطيران عادوا إلى السيارة التي لم تكن قد أصيبت بأذى بعدما ارتطمت بعمود أوقفها. في هذا الوقت تلقى زميله سلام اتصالاً ينصح بالعودة «لكنني أصررت على أن نكمل» وهذا ما كان. قبل 200 متر من مكان المجزرة عند طريق شمع البياضة، لاحظ بشير وجود «بيك أب» وسيارة متوقفَين في الطريق. لم يخطر له أن المجزرة وقعت هناك، لكنه عندما اقترب كان أول ما لفت نظره جسد طفلة لا تتجاوز العامين وهي تحترق، وبدأ العمل.

خمس دقائق فقط كانت كافية لتمتلئ سيارة الإسعاف بتسع جثث «عدنا إلى صور وفي نيّتنا التوجه مجدداً إلى المكان، لكننا تلقينا اتصالاً بأن قوات الطوارئ الدولية تولت هي مهمة إجلاء الضحايا».

لم تكن مجزرة مروحين الأولى التي يتولى بشير عملية الإنقاذ فيها، فهو منذ اندلاع الحرب كان جاهزاً للعمل. يتذكر أنه كان نائماً في منزله في عدلون صباح 12 تموز عندما اتصل به صديقه من بيروت وأبلغه أن جسر القاسمية يتعرض للقصف «وعليك أن تكون في صور». لم يصدّق بداية وعاد إلى النوم. عاود صديقه الاتصال وأكد له الخبر، وطلب منه أن يشاهد التلفزيون، وهذا ما فعله.

في الوقت نفسه تلقّى اتصالاً من زميله سلام ضاهر «كان في بيروت واتفقنا على أن نلتقي عند أوتوستراد أبو الأسود ونذهب معاً إلى صور». كانت الطريق مقطوعة عند جسر القاسمية «كان الحاج سلام يقود سيارة إسعاف من نوع بيجو، دخلنا في البساتين لنختصر الطرقات التي كانت قد بدأت تشهد ازدحام سير».

فور الوصول إلى المركز حضّر الشباب أنفسهم تحسّباً لأي طارئ، لكن لم يخطر لهم أن يكون حرباً طويلة «يخبرني أبي وكبار السن ممن أعرفهم أنها الأقسى».

العمل الأول الذي قام به بشير في الحرب كان نقل ثلاثة جرحى أصيبوا في قصف لسيارة تاكسي عند مفرق بلدة برج رحال، عاد بعدها إلى المركز وجلس ينتظر. «لم أنم تلك الليلة، بقيت وحدي مستيقظاً، كان شيئاً مثل الحلم. تلقيت اتصالاً من طيردبا يبلغني أن بيتاً وقع على سكانه في البلدة، ثوان قليلة وتلقّيت اتصالاً آخر يبلغني بسقوط بيت من ثلاث طبقات على سكانه في بلدة البازورية. طلبت ممن يتصل أن يتأكد. (يفصل واد بين بلدتي طير دبا والبازورية).

دقائق معدودة وتلقى اتصالاً من بلدة معروب «سقطت بناية»، ثم من دير قانون رأس العين «سقط مبنى على عمّال سوريين».

أيقظ بشير الشباب، كما أجرى اتصالات بمراكز الدفاع المدني في القرى «وفي وقت لاحق صرت أتعامل مع المدنيين الذين يتصلون بنا كأنهم مسعفون، أسأل عن تفاصيل ميدانية لكي أحدّد ما هي الآليات التي يجب أن تتوجه إلى هذا المكان أو إلى آخر لأن هناك فرقاً بين الإسعاف والإنقاذ».

عند الساعة الثامنة صباح 13 تموز، وكان دوام بشير قد بدأ، تلقى اتصالاً عن تدمير منزل في زبقين سقط فيه 18 شهيداً. «كانت هذه المجزرة الأولى التي أذهب إليها، وكان معي عباس جعفر وحسين مكنّى وعلي قطيش».

لم ينجُ من تلك المجزرة إلا شخص واحد حسب ما يذكر «رأيت شخصاً وقد بدا نصف جسده، عملت على رفع الأنقاض علّني أنقذه فتبيّن لي أن هذا النصف كان مفصولاً عن بقية جسده الذي تطاير» يقول بشير من دون تأثر «ليس لأني لا أتأثر لكن في لحظات مماثلة ينبغي عدم التفكير في العاطفة، أعرف أني سأتأثر لاحقاً بما أراه كما كلّ زملائي».

والدليل، أنه إلى اليوم لا يستطيع أن يطرد من باله مشهداً رآه في زبقين: جثة طفلة تيّبست يداها على أذنيها، وقربها ثلاث فتيات يحتضنّ بعضهن بعضاً «أي إن هؤلاء الصغيرات كنّ قد سمعن صوت الصاروخ الذي سقط عليهن، فخفن منه قبل أن يمُتن. غيرهن من الضحايا قد يعتقد أن الصاروخ يستهدف مكاناً آخر» يشرح.

«ماذا أقول بعد؟» يسأل ويجيب «هكذا كرّت السبحة... من مجزرة إلى مجزرة» بما فيها تلك التي تعرّض لها مركز الدفاع المدني في اليوم الخامس للحرب. لم يتعب كل ذلك الوقت ويشعر اليوم بأنه قدّم شيئاً إلى وطنه «قليلون قد يعيشون تجربة مماثلة ويتجاوزونها. أنا لا أدّعي الشجاعة لكنني أشعر بأني استطعت أن أخدم الناس من خلال عملي وأخرج ناجحاً من هذه التجربة الصعبة».

كانت والدته تشجعه على عمله، فيما كان والده يطلب منه العودة للراحة قليلاً ثم المتابعة «لم أعد إلى البيت إلا في الأسبوع الأخير من الحرب. كانت الحركة قد صارت شبه معدومة في المدينة، نجلس كلّ النهار من دون القيام بأي عمل».

يحب بشير عمله، كان يهرب من خدمته في الجيش ليلتحق به لكن أكثر ما يحزّ في نفسه الإهمال الذي يعانيه مركز الدفاع المدني في صور. يدعونا إلى معاينة سيارة الإسعاف التابعة للمركز، يدلّ إلى مكان ارتطامها بالعمود في الطريق إلى مروّحين ويقول «من كان يتابع الحرب على شاشة التلفزيون قد يعتقد أن هناك عشرات السيارات في حوزتنا، لكن الحقيقة أن هذه السيارة وحدها خربت الدنيا». يستطرد: «رغم كل المساعدات التي وصلت إلى لبنان لم يحظ مركزنا بسيارة إسعاف واحدة من المعنيين... تلقينا تبرّعات من مواطنين من المدينة، بمن فيهم آل تاج الدين الذين أعارونا هذا المركز المؤقت (في شارع الثانوية) بعدما دُمّر مركزنا». متسائلاً عما فعلته الدولة بعشرات السيارات والآليات التي تلقتها كهبات من الجمعيات الإنسانية «حتى بلدية صور لم تقدّم إلينا مركزاً أو تساعدنا على إيجاد بديل».

تعليقات: