جذور بلدة الخيام

هناك حكاية كان يرويها الخلف عن السلف من أبناء بلدة " الخيام " في الليالي التي كانوا يجتمعون فيها حول القنديل، فيسمرون ويتحدثون عن بلدتهم ورجالها وأخبارها في ماضيها البعيد وما كان لها من عزّ وأمجاد في ساحات الوغى والبطولة في جبل عامل.

تقول الحكاية إن أجدادهم الاقدمين كانوا يعيشون، أول الأمر، ويقيمون في المرج، مرج عيون، الذي يعد امتدادا" طبيعيا" للهضبة التي تقع فوقها " الخيام " اليوم، وتحديدا"في الموضع الذي يسمى " الخرايب " الواقع أيضا" على بعد بضع مئات الأمتار من نبع الدردارة.

وذات يوم دهمهم فيه زائر عجيب غريب لم يروا مثله أبدا". وهو نوع من النمل الطيّار ذي العيون الزجاجية الكبيرة السوداء والأنياب الحادة، ظهر في تلك البقعة فجأة بأعداد هائلة، وراح يهاجم البيوت الطينية البائسة، يتغلغل في شقوق الجدران والأبواب والشبابيك، وفي أبدان الأطفال المشدودين إلى أسرتهم الخشبية بالاقماط وعيونهم وآذانهم وأنوفهم الطّرية، يلتهم اللحم ويمزق العروق والشرايين، حتى ضجّ منه الناس رعبا" وهلعا".

وما العمل؟

لم تكن المبيدات الكيماوية قد وجدت بعد. ثم إن جميع وسائل الوقاية المعروفة والمتاحة التي لجأ إليها هؤلاء لصدّه وردّه لم تنفع في التغلب عليه والتخلص منه. وإزاء هذه المأساة التي حلّت بهم وألقتهم في امتحان عسير وأزمة خانقة وقفوا حائرين لا يدرون ماذا يفعلون وهم على أشد ما يكون من القلق والهمّ.

كان الرحيل من المكان أمرا" صعبا" ومؤلما" ولا طاقة لهم على التفكير به وتحمّل نتائجه وتبعاته...

وكيف يرحلون وهو موطنهم الذي اعتادوه جيلا" بعد جيل وارتاحوا له، لأن فيه علة وجودهم، وأرزاقهم، وأضرحة أجدادهم وأحبائهم والذكريات؟ لكن كيف يبقون والى متى وهؤلاء هن الأمهات يندبن ويولولن لرؤية فلذات أكبادهن تصارع هذا الوحش الرهيب وهي تنزف من مآقيها وتتوجع؟ وبين إصرار البعض على البقاء والتسليم بالأمر الواقع بانتظار أعجوبة ما تأتي بالفرح بعد هذه المحنة الفظيعة القاسية، ومجاهرة البعض الأخر بفكرة الرحيل على ما فيها من الحسرة والمرارة، تغلبت الشفقة على العناد، وقرروا الرحيل ولكن إلى الهضبة المذكورة. وهناك بدأوا البناء من جديد مخلفين وراءهم منازلهم الأولى التي دبّ فيها الفراغ. وجاء وقت تداعت فيه جدرانها وانهارت. ثم اكتسحتها الرياح والأمطار الغزيرة فقوضت ما بقي من معالمها وبعثرت حجارتها وغطتها بطبقة من الوحول حتى غاصت في عتمة التربة كما يغوص الميت في عتمة القبر وصار المكان " خرايب " تسكنها البوم ويلفها الغموض...

وكما نرى فالحكاية تتحدث عن مرحلة من حياة أسلاف الخياميين طوى النمل الطيّار المفترس صفحتها الأخيرة بصورة مفاجئة وعنيفة. وهي تفسر مغزى تسمية ذلك الموضع بالخرايب التي توحي بان شيئا" ما حدث هناك مثير للفضول والاهتمام لأنه ينطوي على أبعاد مأساوية لا يوجد ما يدل عليها سوى الحكاية.

وأنا طالما سمعتها وأصغيت لها وهو يرويها أبي على مسامعنا ونحن صغار لتسليتنا ودغدغة مشاعرنا وخيالنا بالغريب المثير من الحكايات. وعندما كبرت وأمعنت في العمر ظلت معي، أتذكرها أحيانا"، وتشغلني بالشكوك والأسئلة. مثلا" : متى حدث ذلك وما هو اسم الضيعة التي نشأت أصلا" في المرج ولماذا سميت " الخيام " بهذا الاسم أيضا"؟ وما هي حقيقة هذا النمل الطيّار الذي ظهر في المرج وطرد الناس من منازلهم ثم اختفى ولم يعد يروا له أثرا" إطلاقا"؟

وظلّ الأمر كذلك إلى أن جاء إلى بيتي في " الخيام " رجل من أبنائها دون موعد ودون معرفة سابقة به وكان لقاؤنا حافزا" لي للبحث عن أصل " الخيام " وفصلها والجذور.

انه " إبراهيم بصبوص ". وكان في الرابعة والثمانين من العمر والوحيد الذي بقي من جيله على ما أظن، وهو في صحة جسدية وعقلية جيدة وفي حوزته الكثير مما كنت بأمس الحاجة إليه للمضي في رحلة إلى الماضي علّني أجد ما يشبع فضولي ومعرفة متى وكيف نشأت " الخيام " ولماذا سميت بهذا الاسم وأخيرا" متابعة المراحل الأخرى من تطورها والإضاءة على الكثير من الأمور التي أصبحت الآن طيّ النسيان.

ولقد أدهشني هذا الرجل فعلا". بحيويته ووعيه وظرافته وطلاقة لسانه وذاكرته العجيبة التي تختزن أدق التفاصيل عن " الخيام " ونسيجها العائلي الشديد التنوع وأنساب العائلات خصوصا" المسيحية منها والتقاليد والعادات والقيم المشتركة بين المسلمين الشيعة والمسيحيين التي غطت عليها إلى حدّ كبير في معركة الصراع على البقاء، تقاليد وعادات جديدة جعلته كالطائر الذي يغرّد خارج سربه، وفي غير أفق، باحثا" عن برّ أو يقين ولكن هيهات... هيهات!!

ولد " إبراهيم بصبوص " وترعرع في كنف عائلة ميسورة، وتعلم في أفضل المدارس حتى نال شهادة البكالوريا في العام 1939.

ثم عمل موظفا" في الجمارك عندما كانت هذه لا تزال مشتركة بين لبنان وسوريا. وفي عمله هذا تعرّف على كبار القوم وزعماء العشائر في البلدين وخالطهم ونال احترامهم وإعجابهم به. وهو يتكلم الفرنسية ويحسن العربية جيدا" ولا يتردد عن الخوض في شؤون السياسة والدين والمجتمع. وعندما يختلي بنفسه أو يعنّ له خاطر ما ملهم ينصرف إلى قرض الشعر وتدوين قصائده بالخط الجميل كما دوّن سيرته

الذاتية التي لا تخلو من صخب الشباب والرجولة لتكون ذخرا" لأولاده وأحفاده من بعده تذكرهم به ولا ينسوا جذورهم الخيامية أبدا"...

وجاء " إبراهيم " هاشا" باشا" كما يقال، وكأنه يعرفني منذ زمن بعيد ولا حاجة بيننا للمجاملات المملة. بل سلّم بكلمات قليلة وصافحني بحرارة ودخل رأسا" إلى الصالون واخذ كرسيا" وجلس وهو يتفحصني بنظرة ثابتة وبدأ الحديث...

وطال الكلام.. ربع ساعة.. نصف ساعة وهو لا يترك قصة أو طرفة أو حكمة أو صورة من صور العمر والذكريات إلا ويتناول أخرى. ولا أنكر بأنني شعرت بشيء من الحسد تجاه هذا العجوز الذي كان يجلس قبالتي وهو لا يزال يتمتّع بروح الشباب، ولولا انه كان يحمل عصا ذات قبضة عاجية يتوكأ عليها لان أحدى ركبتيه بدأت تخونه، لقلت انه في ستينيات العمر.

طبعا" تحدث " إبراهيم " عن " الخيام " وما كان لها من عزّ وأمجاد تجهلها الأجيال الطالعة وعن شؤونها وشجونها وانتقد النزعات الغريبة الجديدة التي كان يأباها الناس في الماضي ويعتبرها انتهاكا" للقيم الدينية والأخلاقية. وعندما افرغ هذا كله من جعبته قال منهيا" حديثه وكأنه يقرر أمرا" مفروغا" منه : لم يكن اسمها " الخيام ". كانت تسمّى " عروس المرج ". ثم وقف و صافحني و مشى خارجا" و هو يردد : "خلينا نشوفك في بيروت".

لقد كانت الكلمات الأخيرة أشبه ما تكون ب " المثيرة " التي يحرص الكتّاب على وضعها في مقدمة أعمالهم لجذب الانتباه عندما يكتبون السيناريو لفيلم أو قصة تمثيلية دراماتيكية.

" عروس المرج "؟ ما هذا؟ ومن أين جاء بهذا الاسم الذي لم أسمع به ولا أعرف إذا كان أحدا" غيري سمع به؟

لكن كما يحدث أحيانا" ثمة بصيص ضوء في أخر النفق. وبالفعل فعندما كنت أسجل ما علق في ذهني من حديث " إبراهيم " تذكرت بأنه يوجد بالقرب من " الخرايب " موضع آخر يسمّى " العرايس " وكان حتى الأمس القريب مزروعا" بالتين كما كانت " الخرايب " مزروعة بالزيتون المعمّر ذي الجذور الغليظة التي لا يخلو بعضها من تجاويف تسمى ( القرقارات ) وهي كبيرة بحيث يمكن لصبي صغير أن يختبىء فيها فلا يراه احد.

وكم لعبنا " الغميضة " في تلك النواحي وطاردنا العصافير لاصطيادها بالفخ. عصافير صغيرة مسالمة بعضها غبي وبعضها ماكر كأبوالحن، والعتقية، والعضيض وغيرها من العصافير الدسمة. وتعلمنا، الصغير من الكبير، كيف نقودها من مكان إلى آخر ومن شجرة إلى أخرى وصولا" بها إلى الفخ المنصوب تحت التراب.

والصيد بالفخ رياضة مجهدة وممتعة في الآن نفسه ولا يجيدها ويبرع بها إلا من كان قوي البنية ويتحلى بالقدرة على الصبر وحسّ المناورة والمعرفة الدقيقة بطبيعة الطريدة وكيفية ترويضها عبر الأغاني والإيحاء بالإشارات تماما" كما هو الحال مع التنويم المغناطيسي...

وتذكرت أيضا" انه يوجد بالقرب من نبع الدردارة في العمق المروي من المرج موضع ثان يسمّى " سدّ عين العروس " وكلها تحيلنا كما هو واضح على العرس والعروس. وتساءلت : " إلا يكون هذا الأسم الذي سقط من جعبة ابراهيم في نهاية حديثه معي هو نفسه اسم الضيعة التي كانت في موقع " الخرايب "واذا لم يكن الأمر كذلك فما معنى وجود هذه الأسماء هناك؟

وكان أفضل ماأقوم به لتلمس جواب مقنع على هذا السؤال هو زيارة ابراهيم بصبوص والأستزادة منه. وبالفعل فقد ذهبنا أخي نعيم الذي كان يعرفه جيدا" وأنا إلى منزله في الاشرفية بعد أن أعلمناه بذلك. وبوصولنا إلى هناك رأيناه على الشرفة التي تطلّ على زقاق ضيق وهو بانتظارنا.وعندما رآنا هو أيضا أسرع الى الدرج ليفتح البوابة مرحبا بنا. ثم استقبلنا بمزيد من الترحيب والحفاوة التي شعرت معها بأنه كان سعيدا" بقدوم هذين الضيفين الخياميين إلى منزله اللذين هما بمنزلة أولاده من حيث العمر. وأول ما لفت نظري ونحن نلج البيت عبق الوحدة في الصالون المتواضع المفتوح على غرفة الطعام وكلاهما على أحسن ما يكون من النظافة والترتيب. وصورة زوجته المعلقة على الجدار بالأسود والأبيض فضلا عن صورتيهما عندما كانا عريسين في ريعان الشباب ورغم انقطاع الحبل بينهما فهو لا يزال يتذكرها ويذكرها باحترام شديد ويكن لها حبا جارفا قائلا" إن جلّ ما يتمناه اليوم هو أن يسرع ملك الموت ويأخذ وديعته ليلحق بها ويعيشا معا" في الجنة إلى الأبد.

وبعد أن استقر بنا المقام قدم لنا عصير التوت الطازج الذي صنعه بنفسه. وتبادلنا أطراف الحديث عن العمر المثقل بالسنين والزواج والعشرة والصحة قبل أن يقوم إلى غرفة جانبية ثم يعود وبيده " أجاندة " عتيقة تحتوي خلاصة سيرة حياته وقصائد عامودية كتبها في بعض المناسبات وأخرى يرثي بها زوجته ويتشبب بحنانها وجمالها وأرومتها العائلية وحدبها ورعايتها له وللعائلة.

ثم فتح " السيرة " وبدا يقرأ نتفا" من هنا وهناك. وأخيرا" أخذ ورقة كانت مطوية بعناية بين الصفحات وبسطها أمامنا وإذا هي خريطة مرسومة بخط يده وتمثل موقع " الخيام " الجغرافي ومداخلها وشبكة الطرق الرئيسية المؤدية إليها والاهم من هذا كله تلك العلامات التي تشير إلى مواقع أثرية، بعضها روماني، موجودة عند المداخل الغربية للبلدة أي على خط واحد من الخرايب-العرايس و في الجهة الشرقية البعلية من نبع الدردارة.

" ما هذا "؟ سألته. أجاب : " أظن إن هذا هو ما تبحث عنه "!

وتأملت الخريطة مليا" وأنا في ذهول. ولم يكن السبب في إن "إبراهيم" كان يخفي مفاجأة أخرى لا علم لي بها، وانه يحسن رسم الخرائط على طريقة المهندسين بل أيضا" في إننا كلانا كنا على الموجة نفسها من المشاغل والهموم مع إنني في لقائنا الأول لم انبس إلا بكلمات قليلة. سؤال من هنا وسؤال من هناك وذلك كي لا أقول بأنه أمضى نحو نصف ساعة وهو يتكلم وحده!

وسألته : " كيف تعرف بوجود مواقع أثرية عند هذه النقاط "؟ و أجاب ضاحكا" : " هذا ما سأحدثك عنه لأنني أدركت من كلامك معي وأسئلتك لي بأنك مهتم لهذا الأمر ". ثم اخذ الدفتر والخريطة ووضعهما جانبا" ومضى يقول : " كنت شابا" كثير الحركة والنشاط عندما وقعت الحرب العالمية الثانية، وعشت يوما" يوما" إحدى اكبر معاركها الطاحنة التي دارت رحاها في مثلث الخيام – مرجعيون – ابل السقي ". فقد زحف الحلفاء بقيادة الإنكليز من فلسطين باتجاه هذا المحور الذي كانت ترابط فيه قوات فرنسية تابعة لحكومة " فيشي " في باريس الموالية للألمان وهدفهم اختراقه واحتلاله وفتح الباب للوصول إلى البقاع ومن ثم إلى دمشق من جهة وبيروت من جهة أخرى.

لكن الفرنسيين ابدوا عنادا" وبسالة عظيمين في الدفاع عن مواقعهم، وفي بعض الحالات اشتبك الطرفان بالسلاح الأبيض وكبّد الفرنسيون الكتيبة الاسترالية التي كانت طليعة الهجوم خسائر فادحة بالأرواح قبل أن يتغلب الحلفاء ومعهم الفرنسيون الأحرار من الديغوليين على الطرف الأخر ويستتب الأمر لهم في المنطقة ولبنان وسوريا عموما".

في أعقاب هذه المعركة بدأ الحلفاء فورا" بإنشاء التحصينات ومرابض المدفعية والخنادق والخطوط الدفاعية تحسبا" لاحتمال تقدم الألمان في شمال أفريقيا واحتلال مصر والاندفاع باتجاه لبنان وسوريا عبر فلسطين. ومن هذه الإنشاءات العسكرية، المطار الحربي الموجود اليوم في أسفل المرج بالقرب من خط الحدود الدولية مع فلسطين على مساحة مئة ألف متر مربع. والمستشفى الميداني الموجود أيضا" والمعروف " بالمستشفى الإنكليزي " وقد انشىء على بعد عشرات الأمتار إلى الشرق من الدردارة، وبمساحة 7 ألاف متر مربع وبعمق خمسة أمتار تحت الأرض وهو أية من آيات الفن المعماري والهندسي الحربي.

وقال : " إن المهندس الذي وضع تصميم المستشفى والخرائط التنفيذية للمشروع يهودي إنكليزي اسمه " جاكوب ". ومن حسن الحظ انه استأجر غرفتين للإقامة عندنا في الخيام بحيث تسنت لي الفرصة للتعرف عليه عن كثب وملازمته فعينني مشرفا" على العدة وآلات الأشغال في المستشفى باجر ممتاز. لكن جاكوب لم يكن مهندسا" لامعا" فحسب، بل كان أيضا" عالما" بالآثار. وتأكد لي ذلك عندما طلب مني الذهاب إلى مستوطنة المطلة اليهودية الموجودة على المقلب الأخر من خط الحدود مع فلسطين أو بالاحرى بمحاذاة أسفل المرج لاستقبال زوجته التي جاءت إلى هناك ونقلها إلى الخيام. وبالفعل ذهبت الى المطلة مع بعض المرافقين في سيرة و التقيت الزوجة ونقلتها إلى الضيعة وكان معها أمتعة وحقائب كثيرة بعضها مليء بالخرائط والصور.

ومضت أيام قليلة بعدها طلب مني " جاكوب " مرافقته لأدله على التل المعروف " بتل دبين " الواقع في أعلى المرج شمالا"، وعلى الأرض التي تسمى " راس الملوك " الواقعة إلى الشرق من الدردارة على المسافة نفسها من المستشفى التي كانت فيها الأشغال على قدم وساق.

وذهبنا إلى هذه ألاماكن وتجول فيها " جاكوب " وسجل انطباعاته في ضوء الخرائط والصور التي كانت موجودة معه. غير إن أكثر ما لفت نظري وأثار انتباهي هو انه لم يلبث حتى قام بتسييج " راس الملوك " وباشر الحفر والتنقيب هناك بعد أن أمر بعدم الدخول إليه إلا بأمر منه ".

وأضاف إبراهيم : " لقد رأيت بعيني الكثير من الجرار الفخارية المختلفة الأحجام، وقطع الفخار والمعادن وأشياء أخرى كثيرة لم استطع التأكد من طبيعتها، استخرجها " جاكوب " من باطن الأرض واقفل عليها وحملها إلى بيته بتكتم شديد. وتبين لي إن " راس الملوك " و " تل دبين " من المواقع الأثرية في المنطقة التي لا احد منا كان يعرف عنها شيئا". وربما كانت مليئة بالأسرار التي تحتاج إلى من ينقب فيها ويميط اللثام عنها. والخريطة التي رسمتها هي خلاصة معرفتي وخبرتي في هذا الأمر. وبوسعك إذا أردت، أن تأخذ نسخة عنها، تحتفظ بها، وقد تفيدك في متابعة عملك ".

وتوقف عن الكلام كمن أدى دوره وانتهى الأمر. وكان ينتظر مني، وهو يرمقني بنظرة مستفسرة القيام بدوري أيضا"، فاعلّق على ما عرضه لنا من المعلومات المكتوبة والمخزونة في الذاكرة. طبعا" شكرته على الجهد الذي قام به وأثنيت، وعلى " الهدية " الثمينة بالنسبة لي التي قدمها أيضا"، واعني بها النسخة المصوّرة عن الخريطة، وعلى لطفه والمحبة الصادقة التي خصنا بها في هذا اللقاء الطويل ثم ودّعناه وخرجنا...

والعجيب هو إننا لم نأت على ذكر " عروس المرج " أبدا". فقد مر الوقت بسرعة وهو يتحدث عن " جاكوب " و " راس الملوك " والحرب العالمية الثانية وكلها استحوذت على اهتمامنا ايضا وصرفت انتباهي الغاية التي جئت من اجلها. ومع ذلك فان ما قاله ابراهيم كان مهما جدا بل أكثر أهمية من كل ما سبق.اذ هذه هي المرة الأولى التي يتبين لي بالدليل القاطع إن الناحية الشرقية القريبة من الدردارة كانت مأهولة. وهو ما عزز لدي الاعتقاد أيضا" بان الحكاية المتواترة على ألسنة الخياميين منذ أجيال بعيدة وربما منذ قرون فيها الكثير من الحقيقة وهو ما كان يجب مواصلة البحث عنه لمعرفته ومعرفة الحلقات المفقودة من هذه الحكاية.

وأول خطوة قمت بها على هذا الطريق الطويل الوعر هي أنني عدت الى السجل العقاري المتعلق بالناحية المذكورة لأجد هناك موضعا رابعا" يسمى " البرينسة ".!

ولا حاجة للقول بأن الكلمة غير عربية بالتأكيد. إنهاكماأعتقد فرنسية و تعريب باللفظ للكلمة princier ومعناها : أميري، باذخ، مترف. وقد تكون تعريبا" للكلمة principaute' ومعناها : مقام الأمير، المقاطعة، أو الإمارة الصغيرة.

ومهما كان الأمر فالمصدر الفرنسي لهذا الاسم يذكرنا بالفرنجة وبالتالي بالحروب الصليبية والملوك والأمراء الصليبيين الذين أقاموا الكثير من الممالك والإمارات في بلاد الشام إبان غزواتهم للشرق التي استمرت قرنين ( 1098 – 1291 م ) بما في ذلك مناطق صور وصيدا وعكا وقلعة الشقيف.

إذا صح ذلك، وهو صحيح باعتقادي، يمكننا القول إن " البرينسة " هي المكان الذي أقام فيه احد الأمراء الصليبيين في تلك الحقبة. وربما كانت قاعدة إمارة أو مقاطعة صليبية صغيرة كما كانت قلعة الشقيف قاعدة إمارة كبيرة وقوية وواسعة النفوذ.

والحق فقد استهوتني هذه الأفكار والتصورات وشجعتني على التفرغ لبعض الوقت ومراجعة ما يمكنني مراجعته عن الحروب الصليبية خصوصا ما يتعلق بصلاح الدين الأيوبي أو المرحلة الفاطمية الأيوبية من تلك الحقبة واذا بي أجد ما يمكن أن أسميه مفتاح الطريق الموصل كما أعتقد الى معرفة أصل الخيام وفصلها والجذور!

ولنبدأ من البداية :

في أخبار حروب صلاح الدين الأيوبي والصليبيين يفاجئنا " مرج عيون ". وهذا سهل خصب سمي بهذا الاسم لكثرة ما فيه من الينابيع ( العيون ) وهو الثاني من حيث المساحة بين السهول الداخلية في لبنان بعد سعل البقاع.

وهو يقع في الناحية الشرقية – الجنوبية من جبل عامل ( الجنوب ) على بعد مئة كيلومتر ونيف من بيروت. فيبدو للناظر ككف مبسوطة تقريبا" تحوطه وتشرف عليه من الشرق الهضبة التي تقع فوقها الخيام اليوم، ومن الغرب الهضبة التي تنتشر فوقها على خط مستقيم قرى جديدة مرجعيون والقليعة وبرج الملوك. والأخيرة كانت تسمى حتى الأمس القريب ب " الخربة " وكلها أسماء يجب أن نتذكرها جيدا" في هذا السياق لأنها توحي بوضوح بان الأولى حديثة التكوين ( جديدة ) والثانية كانت أصلا" قلعة صغيرة مقابل قلعة الشقيف والثالثة كانت مأهولة ثم صارت خرابا".

وعلى مرّ القرون كان المرج مطمعا" للغزاة وساحة حروب ومعارك لأنه محور طرق استراتيجية وحيوية لا بديل عنها تربط لبنان بسوريا وفلسطين.

بين 1180 و 1190 م خاضت خيول صلاح الدين مرتين في هذا المرج. والأولى هي عندما استفرد بقوات الملك الصليبي " بودوان الرابع " وانزل بها هزيمة ساحقة حتى كاد الأخير يقع في قبضته أسيرا". والثانية هي التي وقعت بعد معركة حطين ( 1187 م ) ومعها بدأت على الأرجح قصتنا.. أو بالاحرى حكاية الخيام.. متى نشأت وكيف كان ذلك ولماذا سميت بهذا الاسم ؟

ولنقل باختصار، إن معركة حطين التي هزم فيها صلاح الدين زهرة جيوش الصليبيين قبل أن ينتزع القدس منهم لم تقطع نهائيا" دابر هؤلاء الغزاة في بلاد الشام. بل إن فلولهم لجأت إلى مدينة صور وتحصنوا فيها بانتظار النجدات التي كانوا يتوقعون وصولها عبر البحر بعد أن وصلت أخبار هزيمتهم القاسية إلى أوروبا.

وسارع السلطان بالزحف إلى صور ثم ضرب الحصار عليها لمدة طويلة ولكن دون جدوى. وعندها قرر التوجه إلى قلعة الشقيف التي بقيت في أيديهم أيضا" للاستيلاء عليها وتطهيرها كي لا تظل كالشوكة في ظهره وتهدد طرق التموين الإمداد لجيشه الآتية من الشام وهو في قتال متقطع وعنيف مع الصليبيين على الثغور البحرية الواقعة بين طرابلس في الشمال وصور في الجنوب.

وفي الطريق إلى القلعة عرّج على مرجعيون، وعندما وصل إلى هناك توقف وأمر بنصب خيام العسكر فيه استعدادا" للعمليات الحربية.

ولا ريب فالتوقف في المرج كان عملا" حكيما" وينم عن الدراية والمعرفة الدقيقة بطبيعة مسرح المعركة وخصائصه الطبوغرافية ونقاط القوة والضعف في صفوف الأعداء.

وبالفعل فالقلعة تشبه عش النسر. وكان الصليبيون قد وضعوا فيها حامية كبيرة وقوية وأحاطوها بالأبراج والقلاع الصغيرة التي أقاموها على رؤوس الهضاب والتلال القريبة منها خصوصا" في الهضبة الغربية للمرج. وكان هذا هو أسلوبهم العسكري الذي امتازوا به واعتمدوه في كل قلاعهم الأخرى الساحلية والبرية التي انشأوها على طول الطريق الممتد من إنطاكية إلى القدس، أولا" لتعويض النقص في عديدهم بعد أن توغلوا في بيئة مترامية الإطراف غريبة عنهم وتناصبهم العداء. ثانيا" للتحكم بالممرات الطبيعية ومفاصل الطرق كما هو الحال بالنسبة للمرج، وامتلاك القدرة على الاستنفار السريع والتحرك وتطويق العدو وتدميره عند أول إشارة بالخطر تطلقها الأبراج الساهرة والمتربصة ليلا" ونهارا".

ولكل هذه الأسباب رأى صلاح الدين إن من الخطأ مهاجمة القلعة مباشرة. بل كان ينبغي مشاغلة حاميتها واستنزافها من مكان ملائم وامن وإرهاقها وفرض شروط الاستسلام عليها.

وكان المرج هو هذا المكان الملائم لأنه قريب من القلعة ولا يحجبها عنه سوى الهضبة الغربية المشار إليها سابقا". وفوق ذلك فهو مفتوح على طرق التموين والإمداد الآتية من الشام عبر الجولان إلى مرجعيون أو من الشام عبر البقاع الى مر جعيون وفيه العديد من مصادر المياه الضرورية للجيش وبكل هذه المواصفات فهو بمثابة رأس جسر وموقع ممتاز للحشد في معركة قد تكون طويلة ومكلفة.

واحتاج الأمر إلى سنتين تقريبا" من المناوشات والكرّ والفرّ بين الطرفين قبل أن يدرك صاحب القلعة " رينو " بان زمام المبادرة افلت نهائيا" من يده، وان الجنوح إلى المفاوضات وطلب الاستسلام يظل أهون من الموت في القلعة جوعا". وفي صيف 1190 م ضحك الصبر والنفس الطويل لصلاح الدين ودخل القلعة ظافرا"، وبسقوطها على هذا النحو أصبح لبنان كله في يده من جديد ما عدا صور وطرابلس..

وهنا السؤال : أين نصب العسكر خيامه في المرج وماذا كان بعد؟

في أخبار معركة الشقيف ثمة تفصيل بسيط لكنه مهم جدا" ومفاده إن صلاح الدين انزعج كثيرا" من " الوخم " في المرج ولذلك أمر الجيش بنصب خيامه في " لحف الجبل " بعيدا" عنه. ومن يدري؟ فقد يكون هذا " الوخم " هو السبب الذي أدى إلى إصابته بالمرض ووفاته عن 58 سنة من العمر وهو في ذروة نشاطه وتألقه.

و" الوخم " هو العفونة أو الهواء الفاسد الذي يحمل الأمراض أو الفيروسات المعدية القاتلة. والظاهر إن المرج كان في ذلك الوقت موبوءا" به خصوصا" في عمقه الذي يشبه باطن الكف كما سبق واشرنا، والسبب يعود إلى كثرة الينابيع التي تصب فيه وتتحول بعد هطول الأمطار إلى مستنقعات ووحول ممزوجة بالعضويات الميتة من كل الأنواع.

ولا شك عندي بان المقصود " بالجبل " الهضبة الشرقية للمرج. أما لحفه فهو الموضع الذي يسمى " الخرايب " اليوم وهو في الحقيقة بقعة جافة أو بالأحرى بعلية وبعيدة نسبيا" عن عمق المرج و على مقربة من نبع الدردارة والينابيع المجاورة لها والحشد فيها يمنح الجيش الأفضلية العسكرية في الدفاع والهجوم لأن ظهره يستند الى الجبل وفي الآن نفسه فهو يتحكم بمحورالطرق المؤدية إلى فلسطين وسوريا من الجنوب والى البقاع وسوريا من الشمال.

في هذا الموضع نصب العسكر خيامه واستمر طيلة سنتين حتى سقطت القلعة. غير أن ذلك لم يؤد إلى تفكيك الخيام والرحيل، بل إن الحشد هناك تحول إلى مرابطة دائمة في المكان لحماية ظهر القلعة التي احتلها الأيوبيون وضمان إمدادات التموين لهم بعد أن واصلوا المعارك مع الصليبيين على الثغور البحرية بين صور وطرابلس.

ثم مضت الأيام....

إن الإقامة الطويلة في هذا الموضع والاحتكاك المستمر مع البيئة والتعرف على مواردها المتاحة والمنظورة... هذا كله فتح عيون أولئك المرابطين على الإغراءات الكثيرة التي شجعتهم أخيرا" على السكن في بيوت ومزاولة الفلاحة والزراعة للحصول على القوت وتامين شروط الاستقرار في بيئة تتطلب الجهد والعمل لاستصلاحها خصوصا" المرج الذي كانت المستنقعات فيه عقبة كأداء ينبغي إزالتها للاستفادة من تربته الغنية المليئة بالفرص الواعدة.

لكن قبل أن نصل إلى المرحلة التي تغير فيها وجه المرج، وهو ما سنراه لاحقا"، دعونا نقول إن هؤلاء المرابطين أسلاف الخياميين لم يكونوا بمأمن من " الوخم " وما يدب ويهب فيه من البعوض والحشرات والقوارض وغيرها. ولذلك اضطروا للانتقال بعائلاتهم ونصب الخيام لهم في الهضبة الشرقية صيفا" والنزول إلى المرج شتاء.

وعلى مرّ الأيام وتعاقب العادة صار الاسم " الخيام " صفة للهضبة تعرف بها وتدل عليها حتى انطبعت في الأذهان وشاعت على الالسنة.ولا ندري الى متى ظل هؤلاء الفلاحون على هذا النحو من الترحال بين الهضبة والمرج صيفا" وشتاء.يصطافون في خيام فوق في الهضبة ويشتون تحت في المرج. والأرجح أن ذلك استمر وقتا طويلا إلى أن بدأوا يشعرون بالضيق والملل، و اكتشفوا بالخبرة والممارسة إن المزايا المتوفرة للسكن والإقامة الدائمة في الهضبة أفضل ألف مرة من البقاء في المرج على ما في ذلك من العناء واحتمال التعرض للأمراض نتيجة الوخم الموجود فيه. ويحتمل إن النمل الطيّار الذي يعيش عادة في أنفاق تحت سطح الأرض تكاثر إلى الدرجة التي بدأ فيها يتسرب إلى البيوت وينغصّ عليهم عيشهم واستقرارهم دون أن يكون لديهم وسائل الوقاية اللازمة للتغلب على هذه الآفة المزعجة. وهكذا فقد بدأوا بالرحيل إلى عرينهم الصيفي الذي استصلحوه واستوطنوه وأقاموا فيه. وعندما اكتمل الشمل ظهرت النواة الأولى للضيعة هناك التي كان اسمها " الخيام "، في حين هجروا منازلهم الأولى التي تقوضت وانهارت وضاعت معالمها وسماها الناس " الخرايب ".

* رئيس بلدية الخيام السابق كامل فاعور

تعليقات: