موازنة 2011: إهانة مجلس النوّاب وخرق الدستور


رفعت وزيرة المال ريّا الحسن مشروع قانون موازنة 2011 إلى رئاسة مجلس الوزراء. وهذه من المرّات النادرة التي تُحتَرَم فيها المهل الدستورية، إلا أن ذلك لم يأت تعبيراً عن رغبة في تغيير بعض الممارسات المتّبعة منذ سنوات، بل نتيجة الحاجة إلى تغطية «الإهانة» التي سيتلقّاها المجلس النيابي عبر إحالة مشروع قانون عليه يرمي إلى إعفاء الحكومة من واجب دستوري يتمثّل بإنجاز قطع حسابات الأعوام من 2006 إلى 2009، وإبراء ذمّة الحكومات السابقة التي أنفقت أكثر من 56 ألفاً و590 مليار ليرة من دون أي إجازة قانونية، من ضمنها نحو 16 ألفاً و500 مليار ليرة أُنفقت وفق القاعدة الاثني عشرية

فجأة، أعلنت وزيرة المال ريا الحسن إنجاز مشروع موازنة 2011. وسارعت أول من أمس إلى تسليم ثلاثين نسخة منه إلى الأمانة العامّة لمجلس الوزراء، فأصدر رئيس الحكومة سعد الحريري أوامره بتوزيعها فوراً على الوزراء، تمهيداً لتحديد جلسة للبدء بمناقشة هذا المشروع بعد عطلة العيد!

كان يمكن أن تعدّ هذه الخطوة انتصاراً للمطالبين باحترام المهل الدستورية في مجال إعداد الموازنة وتقديمها، إلّا أن توقيت إعلان المشروع ومضمونه، وما سبقه من زيارات لدمشق وتصريحات في شأن شهود الزور، وما ترافق معه من نقاشات في جلسة مجلس الوزراء الأخيرة في شأن ديون البلديات، وما أُرفق به من مشاريع قوانين لإبراء ذمة الحكومة الحالية والحكومات السابقة ومنع المساءلة في شأن إنفاق أكثر من 56 ألفاً و590 مليار ليرة في السنوات الأربع الماضية من دون إجازة قانونية... كلّها عناصر زرعت الشكوك في النفوس، وأوحت بوجود محاولة جديدة لاستغلال شروط «التهدئة» السياسية لتحقيق أهداف عدّة غير قابلة للتحقق في ظروف عادّية، منها:

* الضغط على لجنة المال والموازنة النيابية لإقرار مشروع موازنة 2010 بسرعة وتسرّع، وإمرار كل ما فيه من فخاخ وألغام، بذريعة أن النقاشات هي «لزوم ما لا يلزم»، إذ إن السنة المعنية تكاد تنتهي، وبالتالي يجب أن تكون الأولوية لمناقشة مشروع موازنة 2011، علماً بأن المشروع الجديد قفز فوق تعديلات عدّة طالب بها النوّاب، وأعاد طرح بنود مثيرة للجدل سبق أن سقطت في مجلس الوزراء.

* الذهاب إلى تسوية سياسية غير دستورية لمسألة الحسابات المالية للسنوات الماضية تحت شعار «فؤاد السنيورة خط أحمر»، وبالتالي وجوب «تصفير العدّاد»، وهو ما طرحته وزيرة المال وعدد من نوّاب «المستقبل» علناً، بمعنى أن يقبل مجلس النوّاب بإبراء ذمّة المسؤولين عن إنفاق مليارات الدولارات من دون قوانين تجيز لهم ذلك، وإلّا فإن الإصرار على إنجاز قطع الحساب، بحسب ما ينص عليه الدستور، سيؤدّي إلى تعطيل إقرار مشروعي موازنتي 2010 و2011، ونشوء أزمة جديدة تتعارض مع رغبات الجميع بالتهدئة، وتطيح المسار الجديد الذي يسعى الحريري إلى إيهام القيادة السورية بأنه يسير عليه لإقفال ملفات الماضي العالقة، والحدّ من المخاطر الداخلية!

* القيام بمحاولة جديدة لإمرار بنود في مشروع الموازنة تنطوي على هدايا لفئات من المكلفين عبر خفض الضريبة على إعادة تخمين العقارات لدى الشركات، ومنها شركة سوليدير مثلاً، مع بعض التعديلات الشكلية التي لا تمسّ الجوهر بقدر ما تحاول أن تخدع الوزراء والنوّاب لكي يقبلوا بها بعدما سقطت في مشروع موازنة 2010. ولا يقتصر الأمر على هذا البند، بل يتعدّاه إلى إعفاءات ضريبية هائلة لشركات «الأوف شور» وحوافز جمّة للمتهربين من الضريبة عبر إلغاء 95% من الغرامات على اختلافها، فضلاً عن تسوية مخالفات البناء على نحو سافر لا يؤدّي إلا إلى التشجيع على المزيد من الاستهتار بحقوق المواطنين والدولة...

إهانة النوّاب

انطلاقاً من ذلك، أُرفق مشروع موازنة 2011 بمشاريع قوانين قطع حسابات الموازنة العامّة عن السنوات الماضية، بما فيها عاما 2004 و2005، إلا أن المفاجأة كانت بإحالة مشروع قانون «خفيف» يرمي إلى تسوية الحسابات المالية للأعوام من 2006 ولغاية 2009 ضمناً، إذ تضمّن مادّة وحيدة تنص على ما يأتي:

المادة الأولى: يُعَدّ جدول النفقات المرفق (انظر الجدول)، العائدة للأعوام الممتدة من عام 2006 ولغاية 2009 ضمناً، بمثابة قانون قطع حساب لتلك السنوات، من دون أن يؤدي ذلك إلى إعفاء وزارة المال من إعداد حساب المهمة لهذه السنوات.

تسوية غير دستورية للحسابات المالية للسنوات الماضية تحت شعار «فؤاد السنيورة خط أحمر»

وجاء في الأسباب الموجبة أن «قطع حساب الموازنة العامة والموازنات الملحقة يظهر الاعتمادات الملحوظة في الموازنة إضافة إلى الاعتمادات المدوّرة وتلك المعقودة والمصروفة من هذه الاعتمادات. ولما كانت الظروف الاستثنائية التي مرت بها البلاد حالت دون إقرار الموازنات للأعوام الممتدة من 2006 إلى 2009، تؤدي حتماً إلى عدم إمكان قطع حساب لتلك الأعوام، ولما كانت الظروف أملت الاستمرار بعقد وتصفية النفقات لاستمرار الدولة بتأدية واجباتها والتزاماتها تجاه الموظفين والمجتمع عامة، جاء مشروع هذا القانون لإطلاع مجلس النواب ـــــ ومن خلاله الرأي العام ـــــ على ما اتُّفق عليه من دون أن يعفي ذلك وزارة المال من إعداد حساب المهمة لهذه السنوات ونشره».

لم تقتصر الإهانة لمجلس النواب على نوعية هذا النص وتبريراته الواهية، بل تعدّى ذلك إلى مضمون الجدول المرفق الذي اكتفى بعرض رقميّ شديد الإيجاز لإنفاق أكثر من 56590 مليار ليرة (أي ما يعادل 37.5 مليار دولار)، إذ إن هذا الجدول لم يوضح بنود الإنفاق التفصيلية، ولا أتى على ذكر الاعتمادات التي تنطبق عليها القاعدة الاثني عشرية، ولا فنّد الاعتمادات المدوّرة... بمعنى أنه جاء أكثر إيجازاً من الجداول التي نشرتها وزارة المال سابقاً ردّاً على رئيس المجلس النيابي نبيه بري في شأن كيفية إنفاق أكثر من 11 مليار دولار فوق ما تجيزه القاعدة الاثني عشرية.

المفارقة أن هذا النص وذاك الجدول هما نتيجة عمل لجنة وزارية، برئاسة الحريري، ألّفها مجلس الوزراء في أيار الماضي لاقتراح الصيغة المناسبة لقطع الحسابات عن السنوات الماضية، وضمّت وزيرة المال ريا الحسن ووزير العدل إبراهيم نجّار ووزير العمل بطرس حرب ووزير الصحّة محمد جواد خليفة... أي إن هذه اللجنة ضمّت اثنين من القانونيين ووزيرة المال المعنية بإنجاز قطع الحساب ووزير الصحّة المحسوب على رئيس المجلس النيابي نبيه بري، الذي لم ينقطع عن ممارسة مهماته في وزارة الصحّة عندما انسحب وزراء حركة أمل وحزب الله من الحكومة.

نكتة الضريبة الجديدة

بمعزل عن إشكالية الحسابات المالية للسنوات السابقة التي قد تعطّل إنجاز الموازنة في موعدها الدستوري، فإن «نكتة سمجة» أخرى وجدت لها مكاناً في مشروع موازنة 2011. إذ إن وزيرة المال، وبعد نقاشات طويلة في شأن فرض ضريبة على الربح العقاري، أبدعت في تجاهل مضامين هذه النقاشات واقترحت في المادة الخامسة والعشرين من المشروع فرض ضريبة على الإيرادات الناتجة من تفرّغ الأشخاص الطبيعيين عن الأصول غير المرتبطة بأعمالهم الخاضعة للضريبة على الدخل، لكن بنسبة واحد في المئة فقط. وتشمل هذه الأصول الموجودات المادية والمالية، ومنها الأملاك المبنية وغير المبنية والأسهم في شركات الأموال، والآليات والمركبات، على أن تعفى من هذه الضريبة الإيرادات الناتجة من التفرغ عن الممتلكات المادية المنقولة المستعملة لغايات شخصية والتفرغ عن الأسهم المدرجة في بورصة بيروت.

قد يكون المثل الشائع «ذر الرماد في العيون» غير كاف لتوصيف هذه الضريبة. فهي هزيلة ولا تفرض أيّ عبء على الريوع، إذ إن تقديرات عائداتها بحسب المشروع لا تتجاوز مئة مليار ليرة سنوياً، أي أقل من 10 في المئة من عائدات الضريبة المفروضة على البنزين، علماً بأن الأسباب الموجبة لفرض هذه الضريبة بنسبة 1% فقط لا غير، تشير إلى «الارتفاع الكبير الذي طرأ على أسعار العقارات والإيرادات الكبيرة التي يحققها الأشخاص الطبيعيون».

المفارقة أيضاً أن هذه الضريبة لم تأت في إطار إصلاح النظام الضريبي غير العادل، بل أتت للتغطية على المحاولة الجديدة لإمرار مواد في المشروع تجيز للأشخاص الحقيقيين والمعنويين الملزمين بمسك محاسبة منتظمة إجراء إعادة تقويم لعناصر الأصول الثابتة (بما فيها الأسهم وسندات الدين وسندات وحصص المشاركة والعقارات والموجودات الثابتة الأخرى) لتصحيح آثار التضخم النقدي الناتج من التغيير في قيم تلك الأصول، ابتداءً من 2006، على أن تخضع الفروقات الإيجابية الناتجة من عملية إعادة التقويم لضريبة نسبية بمعدل 5% فقط بدلاً من 23%.

منح هدايا للشركات العقارية والمصارف بمئات ملايين الدولارات

هذه المادّة سبق أن طرحت في إطار مشروع موازنة 2010 وسقطت في مجلس الوزراء بعدما تبيّن أنها تهدف إلى منح هدايا للشركات العقارية والمصارف بمئات ملايين الدولارات كخفوضات ضريبية وأرباح في الميزانيات. وتحاول وزارة المال من خلال التعديلات التي أُدخلت على هذه المادّة إيهام المعترضين بأنها عالجت مصدر اعتراضهم، إذ نصت المادة الثالثة والعشرون على أنه «في حال بَيع عناصر الأصول الثابتة التي أعيد تقويمها وفق أحكام هذه المادة قبل انقضاء سنة من إعادة التقويم تخضع الفروقات الإيجابية الناتجة من عملية إعادة التقويم لضريبة نسبية إضافية بمعدل 4%، وبمعدل 3% إذا بيعت خلال السنة الثانية، وبمعدل 2% إذا بيعت خلال السنة الثالثة»... وفي مطلق الأحوال فإن الضريبة ستتراوح بين 5% و9%، أي أقل بكثير من معدّلها الطبيعي، وبالتالي فإنها لا تزال تنطوي على الهدايا نفسها، ولا سيما إذا أُخذ بالحسبان أن شركة مثل سوليدير تستطيع أن تؤجل تنفيذ الكثير من عقود بيع العقارات إلى ما بعد ثلاث سنوات، وهي تفعل ذلك الآن.

أرقام الموازنة

تبلغ النفقات الملحوظة في مشروع موازنة 2011 نحو 19773 مليار ليرة، فيما يبلغ مجموع الإيرادات نحو 14361 مليار ليرة، أي إن عجز الموازنة الكلي يصل إلى 5411 مليار ليرة. إلا أن هذه الأرقام لا تعكس الصورة الحقيقية، إذ إن وزيرة المال لا تزال تُدرج نحو 1659 مليار ليرة من خارج الموازنة، على الرغم من التوافق على احترام مبدأ شمولية الموازنة خلال جلسات مجلس الوزراء لمناقشة مشروع موازنة 2010، ما يعني أن الإنفاق يبلغ 21432 مليار ليرة.

وتبلغ كلفة الدين العام في مشروع موازنة 2011 نحو 5776 ملياراً مقارنة بـ6100 مليار ليرة في مشروع موازنة 2010، أي بانخفاض قدره 324 مليار ليرة. وبررت الحسن هذا الانخفاض بتدني مستوى الفوائد على سندات الخزينة، التي انخفضت نحو ثلاث نقاط في السنوات الثلاث الأخيرة، وقالت إن هذا الانخفاض ناتج من التدفقات المالية الضخمة التي شهدها لبنان في العامين الأخيرين.

واستندت زيادة إيرادات الموازنة إلى تقدير النمو الاسمي المرتقب للاقتصاد بنحو 5% ونسبة تضخم بنحو 3,5%.

قد لا تعني هذه الأرقام كثيراً، إلا أنها تتجاهل ما جرى التوافق عليه في مجلس الوزراء لجهة إرساء سياسات جديدة انطلاقاً من مشروع موازنة 2011، إذ تحت هذا الشعار أُجِّل الكثير من النقاشات التي تتناول دعم التنمية وآليات الاستثمار في البنى التحتية والأولويات التي يجب أن تتبعها الحكومة، والأهم كيفية إصلاح النظام الضريبي وجعله أكثر عدالة عبر التخفيف عن كاهل الأجور وميزانيات الأسر والمؤسسات وتركيز الأعباء على النشاطات الريعية.

إلا أن الوزيرة الحسن تختصر كل ذلك في فذلكتها للموازنة بالقول: «إن الحاجة إلى الإنفاق على البنى التحتية، وخاصة على الكهرباء إنتاجاً ونقلاً وتوزيعاً، إضافة إلى إنشاء مشاريع المياه وقطاع النقل والطرق وأهمية النهوض بقطاع الاتصالات، تفوق ما هو مرصود له في مشروع الموازنة وتفوق قدرة الخزينة على تحمّل أعبائها. لذلك لا بدّ من اللجوء إلى الدول والصناديق المانحة، إضافة إلى الشراكة مع القطاع الخاص لتمويل و/ أو الاستثمار بهذه المشاريع».

إنها الخصخصة مرّة أخرى، وإلا فالتسوّل. أمّا إصلاح النظام الضريبي، فهو من المحرّمات. بل إن الوقاحة تسمح أحياناً بخفض الغرامات على الضرائب والرسوم بنسبة 95% لكل الذين يمتنعون عن تسديد الضرائب، وتسوية مخالفات البناء الحاصلة قبل 1/1/2010 لكل الذين يخالفون القانون، وإخراج أنشطة «الأوفشور» من الضريبة على القيمة المضافة...

فلتستمر معاقبة المنتجين، والذين يحترمون القوانين.

تعليقات: