متحف الفن الاسلامي في قطر أيقونة ثقافية جديدة

 السلم الكبير داخل المتحف
السلم الكبير داخل المتحف


هدية جديدة الى العالم قدمتها قطر هي متحف الفن الاسلامي، الذي يجعلها مركزاً لحوار الثقافات. اكثر من 800 قطعة فنية نادرة تمثل مراحل تاريخية تمتد حوالى 1400 عام، منتقاة من انحاء العالم كلها، تضمّ أهم المشغولات والمقتنيات المعدنية والمنمنمات والسجاد والمنسوجات وفن الخط والخزف، وتمثل كلها الحضارة الاسلامية في العالم على مر العصور وتظهر أهمية الفن الاسلامي التاريخي والأثري.

أراد أمير دولة قطر الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني وعقيلته الشيخة موزة بنت ناصر المسند وابنتهما الشيخة المياسة أن يكون متحف الفن الاسلامي في الدوحة هدية الى العالم أجمع، وبالتالي جعل قطر عبر هذا المتحف مركزاً لحوار الثقافات. والقطريون يعتبرون هذا المتحف الايقونة الثقافية الجديدة في منطقة الخليج. ويقول القيمون على المتحف ان هدفه "ابراز الحيوية والتعقيد والتنوع الكامل للفنون في العالم الاسلامي، ويعمل ليجمع ويحافظ ويدرس ويعرض قطعاً فنية من ثلاث قارات تمتد من القرن السابع حتى القرن التاسع عشر. ويشكّل متحف الفن الاسلامي مركزاً دولياً جديداً للتعليم والابداع، الأمر الذي من شأنه أن يعزز الرؤية الثقافية الى دولة قطر".

تكلفة المتحف بلغت 9 مليارات دولار: ملياران للبناء و7 مليارات لشراء المقتنيات. لكن ليس هذا المهم، بل المهم كما أراده القيمون على دولة قطر وعلى هيئة المتاحف فيها ابراز دور قطر الرائد في حوار الثقافات والحضارات.

لماذا المتحف؟

لمَ هذا المتحف؟ وما الهدف منه؟ اعتبرت رئيسة مجلس الامناء لهيئة متاحف قطر الشيخة المياسة بنت حمد بن خليفة آل ثاني في مؤتمر صحافي قبل حفل الافتتاح ان المتحف هدية من والديها الى الشعب القطري وشعوب المنطقة، والى كل الشعوب في العالم. وان قطر على الطريق لتصبح عاصمة عالمية للثقافة وملتقى عالمياً أصيلاً يدعو إلى السلام والمحبة عن طريق اللقاء الفكري والإبداعي للثقافات المختلفة. اذ ان هذا المتحف يشكل جسراً ثقافياً وفنياً مهماً يمتد عبر المكان والزمان، ليكون وسيلة تواصل مع ثقافات العالم وفنونها. فالهدف من انشائه "أن نعرض الإبداعات الفنية والخلاقة لشعبنا، لنعزز الأسس التعليمية من أجل فهم وتحفيز الماضي لخلق مستقبل أفضل". وقالت إن "متحف الفن الإسلامي يأخذنا في رحلة استكشافية تتيح لنا التمعن في الفنون عبر الأمكنة والأزمان، فتشجعنا على البحث في ماضينا العريق والثري.. وفي حاضرنا الذي لا يقل عنه غنى.. وفي تفاعلنا التراثي مع الثقافات حول العالم".

وفي دردشة مع الصحافيين قالت الشيخة المياسة ان المهم في هذا الانجاز الكبير "إبراز دور الحضارة الإسلامية في التاريخ الإنساني وإظهار إبداعاتها وكنوزها، وهو أصبح اليوم أمراً ملحاً ومهماً للغرب لفهم الإسلام وحضارته، وأنه دين تسامح وعلم وحضارة لا دين إرهاب".

ويكشف نائب رئيس مجلس أمناء هيئة متاحف قطر الشيخ حسن بن محمد آل ثاني ان إنشاء المتحف وإنجازه استغرق زهاء 15 عاماً، تم خلالها جمع المواد والقطع الأثرية، اما البناء فاستمر منذ العام 2003. وأضاف أنه تم بذل جهود مضاعفة لإنجاز المشروع، وخصوصاً أن المتحف يمثل منطقة جغرافية تمتد من اندونيسيا حتى اسبانيا وحضارات المنطقة التي تمتد زهاء 1500 سنة.

من ناحيته نوّه عبدالله النجار، الرئيس التنفيذي لـ "هيئة متاحف قطر" بما أبدته الحكومة القطرية من التزام بتعزيز ثقافة الفنون لمد جسور التواصل بين الشرق والغرب، وتقديم الدوحة كوجهة رئيسية للعالم.

شكل المتحف وهندسته

يقع المتحف الى الجهة الجنوبية لكورنيش الدوحة، بني على جزيرة اصطناعية على مساحة حوالى 35 الف و500 متر مربع، وتبعد 60 متراً عن الشاطىء، ويشكل تحفة فنية غنية بالكنوز الأثرية. وكان القصد من بناء هذه الجزيرة على كورنيش الدوحة ان لا يحوطها أي شيء بهدف ابراز جمال المتحف وروعته، ولتكون رؤيته سهلة من جهات الدوحة كلها ولا تحجبه أي بناية. يحتضن مجموعة من 800 قطعة فنية أثرية عالمية جمعت على امتداد اكثر من 7 آلاف ميل من اسبانيا الى الهند، تمثل حقبة تاريخية لأكثر من 1400 عام.

المتحف المميز بهندسته من تصميم المهندس الاميركي من اصل صيني اي. ام. باي (اسمه الاصلي ايون مينغ باي) وهو يعتبر أشهر مصمم متاحف عالمي، إذ انه صمم التوسيع الهندسي لمتحف اللوفر، والمبنى الشرقي لقاعة الفنون القومية في واشنطن، وبنك شنغهاي الشهير في الصين ومتحف ميهو في اليابان... وسواها من التصاميم العالمية الشهيرة.

أما الديكور الداخلي للمتحف وواجهات عرض مقتنيات المتحف فهي للمصمم الفرنسي الشهير جان ميشال ويلموت.

وتصميم مبنى المتحف يرتكز على فن العمارة الاسلامية، وعمد آي أم. باي الى دراسة الفن الاسلامي لمدة 6 اشهر قبل البدء في تنفيذ فكرته، كما زار عدداً من الدول العربية والاسلامية والاجنبية من اجل تعزيز معلوماته عن الهندسة الاسلامية. واستوحى فكرة التصميم من نموذج السبيل (نافورة الوضوء) التي بنيت في القرن الثالث عشر في مسجد أحمد بن طولون في القاهرة المشيد في القرن التاسع، وهي عبارة عن مكعبات بعضها فوق بعض، مع تشديده على انعكاس الضوء على المكعبات، وقال باي في مقابلة معه انه وجد "هندسة معمارية حقيقية تنبع الى الحياة من الشمس، ومن ظلالها وشعاع ألوانها. في وسط مسجد بن طولون وجدت اخيراً ما اعتبره الجوهر الحقيقي للعمارة الاسلامية". كما اعتبر ان السبيل يقدم "تعبيراً تكعيبياً للتعاقب الهندسي"، والتي أدت الى الرؤية المستترة لعناصر التصميم الاساسية للهندسة المعمارية الاسلامية.

أحجام المبنى المكعبة تتدرج هبوطاً، اما سقف المبنى الرئيسي فهو مقبب وارتفاعه 50 متراً، وتختفي القبة للناظر اليها من الخارج. اما الواجهة الزجاجية للمتحف المطلة على مناظر جميلة للخليج وللدوحة فارتفاعها 45 متراً. ويذكر ان سقوف المبنى بنيت من القبب الاسمنتية المعقدة المغطاة بالحديد، تنتهي كل منها بقوالب خاصة.

ويشرح باي انه على رأس المبنى، قبة من الحديد المقاوم للصدأ "تمثل عدسة دائرية تلتقط الضوء من جهات عدة. ويتدرج تعاقب هندسي من القبة من شكل الدائرة الى خماسي ثم مربع واخيراً الى أربع لوحات من المثلثات، التي تعود بزوايا مختلفة الارتفاع لتدعم أعمدة المبنى".

ويزين مرسى القوارب على الجهة الغربية من المتحف مصباحان، طول كل منهما 100 قدم، وهما يؤمنان مدخلاً واسعاً للزوار الآتين بالقارب.

اما حدائق المتحف فزرعت بأشجار النخيل في شكل راق جداً.

استعملت في بناء المتحف انواع عدة من الحجارة والسيراميك التي استقدمت خصيصاً من فرنسا والولايات المتحدة الأميركية، والفولاذ المستقدم من المانيا، اضافة الى الخرسانة المعمارية من قطر.

5 طبقات

يتكون المتحف من 5 طبقات، الى جناح تعليمي مؤلف من طبقتين.

تتضمن الطبقة الارضية المدخل الرئيسي وفيه العرض الموقت (حالياً معرض "ما وراء الحدود: الفن الاسلامي عبر الحضارات")، اما الطبقتان الثانية والثالثة فهما للمعرض الدائم، والرابعة تشكّل قاعة للمحاضرات وقاعة صغيرة للعرض، والطبقة الخامسة مكاتب لكبار إداريي المتحف.

وثمة جزء آخر للمتحف يشكّل الجناح التعليمي ويحوي قاعة للمحاضرات ومكتبة مجهزة وغرفاً للعمليات والمرئيات تساعد في التعليم والأبحاث.

كما انه مجهز بأحدث التكنولوجيات المستخدمة في الكومبيوتر والمصاعد والسلامة والامن...

تتكون صالات العرض التي صممها الفرنسي جان ميشال فيلموت من الحجر السماقي الرمادي الداكن، ولحماية القطع الاثرية الحساسة توفر صالات العرض صناديق واضاءة خاصة، كما ابتكر فيلموت أثاثاً خاصاً يتناسق مع تصميم المبنى.

قطع فنية وحقبات تاريخية

في جولة استكشافية للصحافيين المدعوين في أرجاء المعرض، نرى كل قطعة فنية معروضة تحكي قصة تاريخ وثقافة بأكملهما.

تشمل القطع المعروضة: قلادة هندية من اليشم (1631- 1632) تعود الى الشاه جاهان، الذي بنى تاج محل تكريماً لزوجته، اضافة الى وعاء خزفي أبيض من العراق من القرن التاسع، ويشير الى تأثير التبادل الثقافي في فن السيراميك بين المسلمين والصينيين بما فيها مقدمة الفخارية الكلاسيكية "الأزرق والأبيض". وصفحة من كتاب قرآن كريم ضخم من آسيا الوسطى (1400 ميلادي)، والذي صنع للامبراطور تيمور، وستارة حريرية اسبانية من القرن الخامس تبرز زخرفة ملونة وصفات عربية وآثار زينة قصر الحمراء في غرناطة.

وتلقي المعروضات في الطبقة الاولى من العرض الضوء على العناصر المرئية المعروفة عالمياً في الفنون في العالم الاسلامي. وتظهر صالات العرض الخط والشكل والنمط والعلوم في الفن. ففي الخط العربي مثلاً، تبرز بين الأعمال المعروضة واحدة من النسخ النادرة والقديمة للقرآن الكريم يعود تاريخها الى اوائل القرن الثامن، وربما تكون قد كتبت بعد عقود من وفاة النبي محمد. الى مخطوطات اخرى تستخدم الخط عنصراً اساسياً في التصميم.

وفي الشكل مثلاً تعرض لوحة حرير ايرانية تعود الى اواخر القرن السادس عشر واوائل القرن السابع عشر، تظهر مشهداً روائياً لقصة حب "ليلى والمجنون". الى مجموعة من اللوحات المصنوعة من القماش المذهب الحريري تعود الى القرن الرابع عشر، الى منحوتات فخارية ومعدنية.

وفي النمط تعرض لوحات فخارية ملونة وانماط هندسية مختلفة وورود وأوراق أشجار وأرابيسك وتزيين بسعف النخل.

وفي العلوم في الفن تظهر مساهمة علماء العالم الاسلامي في حقول الفلك والرياضيات والهندسة والطب... فتعرض قطع فنية مهمة وقديمة كالاسطرلاب النحاسي الاسباني (1309 – 1310)، وكتاب "النجوم الثابتة" من تأليف السوفي (العراق 1125)...

اما المجموعة الدائمة في الطبقة الثانية فتقدم عرضاً للتسلسل الزمني لاكتشاف الفن الاسلامي. وثمة أعمال كثيرة في المتحف تلقي الضوء على هذا التنوع والغنى. أبرزها زوج من السوار الذهبي المصري وسلسلة من مجموعات الرخام القرطبي... تعود الى ما بين القرنين السابع والعاشر، وفي زاوية أخرى يعرض رداءان من الحرير وخيطان الذهب يعودان الى منطقة آسيا الوسطى في القرن الثالث عشر... ومن العهد الايوبي (1169 – 1260) يعرض زوج من مقابض الباب النحاسية تتداخل فيها تصاميم الارابيسك الى جانب طاولة نحاسية من سوريا (1240 – 1260) تصوّر رموز القوة، بما فيها صورة حاكم متوج ومشاهد صيد وصور فلكية. الى زجاج ومصابيح للمساجد ومغلفات جلد فاخرة وسجادة دائرية نادرة (مصر 1575)، وسجادة حرير غير متوازية معروفة باسم "سجادة حديقة الشطرنج التيمورية" (من ايران أو آسيا الوسطى من القرن الرابع عشر الى الخامس عشر)، الى مجموعات كبيرة من السجاد والسيراميك والمعادن والمنسوجات وفنون الكتب والمخطوطات والعاج والاخشاب والاحجار الكريمة والجواهر (زمردة منحوتة من الهند ما بين القرنين السادس عشر والثامن عشر كانت توضع كطلاسم لدرء الشياطين ومنع الأمراض)...

مقتنيات وأعمال كثيرة جمعت من ثلاث قارات بما فيها بلدان من منطقة الشرق الاوسط وصولاً الى الهند واسبانيا، ومن الامبراطورية الاسلامية الاولى ومن القبائل البدوية من آسيا الوسطى، من العهد الايوبي (خصوصاً من دمشق والقاهرة)، من أيام المماليك والتيموريين ومن حكم الصفويين والقاجار وامبراطورية محل والامبراطورية العثمانية... كلها تعكس مفهوم التنوع الثقافي لتراث العالم الاسلامي وحيويته. وبذلك يعتبر المتحف مركزاً للمعلومات والبحث والابداع ومقراً للحوار والتبادل الثقافيين.

اما البرامج الثقافية فتجرى في الجناح التعليمي للمتحف، الذي يمتد على مساحة 29 الف قدم مربع، ويقع في الجهة الشرقية من المبنى الرئيسي. ومن المقرر ان يفتتح الجناح التعليمي في وقت لاحق من سنة 2009، ويتضمن غرفة مطالعة مجهزة في مكتبة المتحف، وصفوفاً دراسية، وورش عمل، وأماكن للدراسة، ومرافق تقنية وتخزينية، اضافة الى مختبر الحماية الذي يشكّل مورداً جديداً ومهماً لكل المنطقة. ويستضيف هذا الجناح النشاطات الاجتماعية والفنية والثقافية تعزيزاً للفن الاسلامي والتبادل الثقافي بين الفنون والديانات.

***

متحف الفن الاسلامي في قطر يختزن في داخله تاريخاً وعصور وحضارات. لقد أصبح مركزاً لتبادل الخبرات حول العالم بين المؤسسات والمعارض في مجالات التعليم والتدريب والتنمية وتعزيز الثقافات.

وغداً في الاول من كانون الاول يفتتح المعرض أمام الجمهور، والدخول مجاني كي يتسنى لأكبر قدر ممكن من الناس حول العالم زيارته واكتساب المعرفة من الثقافة الاسلامية ومن الكنوز الكثيرة الموجودة فيه.

تعليقات: