مجزرة صهيونية
في مثل هذا الشهر من العام 1978 م، أي منذ إحدى وثلاثين عاماً، زمن الموت المجاني والجنون الأهلي إغتنمت الدولة العبرية إنقساماتنا وحقدنا وأمراضنا النفسية البغيضة المميتة، فعمدت إلى إشباع شهواتها الدموية عبر جريمة نكراء بحق الإنسانية من خلال مجازر متنقلة، وكعادتها، كانت إحداها مجزرة الخيام، تلك البلدة الوادعة المسالمة، المتآلفة أديانها السماوية عبر عناقها للتاريخ وعناقه لها حبّاً وولعاً وولهاً؛ مجزرة سقط ضحيّتها العشرات من أبناء البلدة من العجزة وكبار السن (من بينهم جدّي لوالدي) ممّن بقوا في البلدة أثناء الاجتياح الإسرائيلي للجنوب ظنّاً منهم أنّ الإسرائيلي لن ينال من عجائز لا حول لهم! فكان أن ارتوت الأرض بدمائهم التي سالت مع رذاذ الربيع لتنبت دحنوناً قانياً، ولتعاد أسطورة أدونيس عبر نسخة حديثة حيث القاتل خنزير آدمي من لحم ودمّ، فكان للأسطورة وقع مأساويّ أكثر إيلاماً وحقداً؛ فقايين لم يقتل هابيل بل جرى قتل الاثنين لتكتمل صورة الموت المطبق والموت المعلن باستمرار...
الناجية الوحيدة من المجزرة كانت جارتنا الحاجة سكنة قانصو التي طلب منها الجندي الإسرائيلي الذهاب إلى بيروت لتُقتل "على يد عربي" كما جاء على لسان هذا الجندي. ومن نافل القول أنّ الدكتور شكرالله كرم كان من بين أولى الضحايا؛ هذا الطبيب المسيحي الذي رفض مغادرة البلدة ليبقى إلى جانب أهل بلدته يواسيهم ويداويهم ويُخفف من آلامهم ويشدّ من أزرهم وبقائهم، فدفع حياته ثمناً لصموده التاريخي، وليدخل في ذاكرة أهل الخيام رمزاً من رموز التصدّي والصمود الوطني المشرّف. أمّا جدّي لوالدي، وكما جاء على لسان الناجية الوحيدة من المجزرة فكان ضحيّة سقوط حجارة بيتنا المُدمّر عليه، حيث بقي أياماً يئنّ تحت ثقلها صارخاً من الألم، وقد أحاط به الجنود الإسرائيليون يتأمّلونه، ويهزأون منه، وقد سلبوه مبلغاً من المال كان بحوزته قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة. حتى أنّ الكلاب والقطط الشاردة لم تجد شيئاً تأكله سوى جثته كما تقول الراوية!
إنّ مجازر إسرائيل أكثر من أن ُتحصى وُتعدّ، فقد فاقت النازيّة قتلاً وإجراماً. فمن فلسطين إلى لبنان، عناوين كثيرة، ليس أوّلها دير ياسين، وليس آخرها مجزرة قانا الشهيرة؛ مجازر ُعمّد فيها لبنان بدم أبنائه وأديانه وطوائفه. إنّ مجزرة الخيام ُتعدّ محطة من محطات الإجرام الصهيوني الغاصب، سبقت مجزرة قانا وعادلتها في هولها، بل فاقتها إجراماً، وقد سبقتهما بالزمن مجزرة حولا الشهيرة. فأن ُيقتل هذا العدد الكبير من الشيوخ والعجزة بدم بارد وبتعطش أعمى مقيت، ليُعتبر قِمّة في الوحشيّة والحقد والعنصريّة.
ُ قتلوا وعيونهم شاخصة؛ عين على البراعم التي تتفتح في بداية الربيع، وعين على بياض ثلج جبل الشيخ الذي كحّلها منذ ولادتها.
ُقتلوا والأشجار والطيور تسمع أنينهم وحشرجاتهم الهائمة في أروقة وزواريب وحواكير بلدتهم الخيام، فتعيدها حداءً ناعماً ولحناً جميلاً وأغنية تترنّم بها الطبيعةالتي أحبّت أبناءها، فاحتضنتهم بعد أن عزّ عليها فراقهم.
إنّ قتلهم هو محاولة قتل تاريخ هذه البلدة الوادعة المسالمة، وقتل ذاكرتها وحكاياتها وألقابها ودعاباتها الجميلة، ولبثّ الشرذمة والانقسام والاقتتال بين أبنائها ومع الجوار والجار.
إ ُنّ أهداف مجزرة الخيام، وغيرها من المجازر، متعدّدة، ولا تخفى على عاقل. فمنها ما هو استراتيجي، ومنها ما هو ديني عقائدي متأصّل في الفكرالصهيوني التلمودي المتعالي والمعادي للبشريّة جمعاء... ألم يذكر كتابهم المقدّس وتلمودهم المزيّف بعض تعاليمهم المعادية للسلام والحياة وووجود الآخر؟!
نذكر بعض ما جاء فيها:
"أمّا مدن هذه الشعوب التي ُيعطيك الربّ إلهك نصيبك، فلا تستبق ِ منها نسمة ما".
وجاء أيضاً: "إن لم تطردوا سكان الأرض من أمامكم يكن الذين تستبقون منهم أشواكاً في عيونكم".
وأيضاً: "إنّي أسلّم إلى يديك سكان الأرض فاطردهم من أمام وجهك. لا تقطع لهم عهداً، ولا تأخذك بهم رحمة".
هذا بعض ما جاء في تعاليمهم الحاقدة المجرمة. لكنّ إرميا يبشرهم بأنّ " نار لبنان ستحرقهم"...
وهذا ما حصل بالفعل؛ فقد أحرقتهم نارُنا ودماؤنا.
ثلاثة وعشرون عاماً مضت على مجزرة الخيام، بعمر شاب يافع، بعمر مقاوم ُولد مع المجزرة التي أنبتت جيلاً لا يهاب الموت، ولا تردعه المجازر، بل زادته صلابة وقوّة ومناعة . وها هي إسرائيل تحصد ما زرعت. زرعت حقداً، وحصدت أمواجاً من المقاومين الشرفاء (....). لقد زرعت إسرائيل حقداً، وحصدت على أيدي أبناء وطننا نصراً وتحريرا لهذا الوطن الجريح الُمثقل بآلامه؛ نصراً امتدّت عروقه نسغاً في دمائه، فأنبتت إيماناً وأملاً وعقيدة بالوحدة والتحرير.
إنّ صمود هذه البلدة إبان الاحتلال برغم دمارها الشامل هو فعل إيمان بهذا الوطن والتمسّك بالانتماء إليه، وبرغم المجزرة المروّعة التي كان هدفها بثّ الرعب في نفوس أبنائها (فلم ُتفرّق بين مسيحي ومسلم، والدليل قتلُ الطبيب شكرالله كرم) بغية تهجيرهم نهائياً وعدم العودة إليها كما في فلسطين، كي تستوطن الأرض الخيّرة المعطاء.
لقد نسي الصهاينة أنّ في هذه الأرض أبطالا مؤمنين بالحقّ والحريّة والعيش الكريم، لا يحول بينهم وبين هذه المبادىء شيء.
إنّ وجودنا هو عميق الجذور في تاريخ هذا الوطن وهذه الأرض التي لا نبخل عليها بدمائنا التي ترويها، بل هي نبراس وقربان على مذبح الحقّ والانتماء.
لقد بقيت الخيام بهجة الأفنان، شامخة القوام شموخ جبل الشيخ، بهيجة في سموقها، رائعة في تكوينها. عظّمها الشهداء، ورفعها غمرُ جثثهم إلى الأعالي. إنّ دماء المجزرة لن تجفّ، وستبقى عنواناً لصمودنا وتضحياتنا ووحدتنا المنشودة دائماً...
هذا الجنوب الطاعن في الحزن، والطاعن في الموت، آن له أن يفرح، آن له أن يعيش....
تعليقات: