يتعامل الاسرائيليون مع احتمال توجيه تهمة الاغتصاب الى رئيسهم بكثير من الاستنفار والاستغراب كأن الاغتصاب قيمة دخيلة على اسرائيل.
فضيحة تلو الفضيحة وتحقيق تلو التحقيق. الضغوط تشتد على موشي كاتساف ليستقيل وينقذ موقع الرئاسة من الاضرار التي الحقها به.
كل هذا لا يعنينا. فإذا كان كاتساف يغتصب ويتحرش ويتنصت، فهذا شأنه. واذا قرر الاسرائيليون اقالته او استقالته فهذا شأنهم.
ما يعنينا امر آخر: الشرطة الاسرائيلية تقول ان "هناك ادلة كافية لاتهام رئيس الدولة موشي كاتساف بالاغتصاب"، ونحن العرب (ولسنا وحدنا في ذلك) نقول ان "هناك ادلة كافية لاتهام اسرائيل بالاغتصاب والتمادي بهذه الجريمة"، بل ادانتها بذلك.
اسرائيل قامت على اغتصاب فلسطين. انطلقت العصابات الصهيونية الارهابية تستبيح الارض وتدمر القرى وتقتل اهلها او تطردهم. دمرت نحو 550 بلدة وقرية وطردت 75 في المئة من السكان العرب لفلسطين (كانوا يومها 726,500 حسب الاونروا والان بلغ عدد اللاجئين من 1948 نحو 5,5 ملايين بينهم 4 ملايين مسجلين في هذه الوكالة). وهجروا داخل فلسطين نحو 300 الف.
سمت اسرائيل فعل الاغتصاب هذا حرب الاستقلال.
واكملت. مجازر واعتداءات متكررة على قرى الضفة الغربية حتى حرب حزيران 1967. احتلت الضفة الغربية وقطاع غزة وهجّرت مئات الالوف من الفلسطينيين وضمت القدس العتيقة واطلقت الاستيطان. جاءت باليهود من مختلف انحاء العالم ليستوطنوا فلسطين فيما هي تطبق سياسة "الترانسفير" على الفلسطينيين وتسمي ذلك "حق العودة" لليهود.
ولا شيء تغير. لا في ظل الحرب ولا في ظل ما يفترض انه سلم. الاغتصاب متواصل. الاسرائيليون طردوا الفلسطينيين. صادروا املاكهم. دمروا منازلهم. جرفوا ارضهم. سرقوا مياههم. احرقوا زيتونهم. وها هم يتمتعون بالارض والاملاك وثمار فلسطين فيما يواصلون اغتصاب ما تبقى منها تحت عناوين مختلفة. باسم المفاوضات او باسم الانتفاضة. باسم دعم الاعتدال او باسم مكافحة الارهاب. باسم بناء الجدار او باسم حماية المستوطنين. قتل واعتقالات واغتيالات وجرف اراض وتدمير بيوت وحصار الى اخر ما يشتهيه المغتصب.
النتيجة واحدة: الاغتصاب مستمر واسرائيل من دون هذه "القيمة" ليست اسرائيل.
طبعا هذا ليس دفاعا عن كاتساف، ففي النهاية سيحاكمه القضاء وينصف ضحاياه. بل ادانة لاسرائيل التي تتمادى في جريمتها وليس هناك من يحاكمها او ينصف الضحية، وادانة لكل من يتعامى عن هذه الجريمة.
--------------------------------------------
من حديقة "النهار"
أقوى قوة في لبنان هي الشرعية.. ورمزها الرئيس.
ميشال أبو جودة•
منذ ثمانية عشر عاماً، في الزلقا، في الحديقة وراء الكنيسة، خلف مذبح سيدة النجاة، يرتاح من لم يعرف يوماً كيف يرتاح، هناك يتمدّد جسد صار من ورق كبساط أيلول، وعظام تحوّلت مجموعة أقلام، ورأس مثل الأرض لكثرة ما دار واستدار ودار حوله العالم.
في تلك الحديقة، في السكينة، ومنذ تلك الأعوام، وهو يكتب، مدوّناً مقالاته الأخيرة، التي لن تنتهي، ولن تُعرف، ولن يدركها الناس، لكن الذين يمرّون من هناك يُدركون ان ميشال أبو جودة الذي توقّف عن الحياة لم يتوقف عن الكتابة، وان الذين اعتقدوا انه غاب ما زال حاضراً، وان الذي قيل انه مات بقي حياً، كما سبق وفعل ذات يوم حين أخفي عنوة وهو لا يُخفى.
واليوم هو أيضاً في خفاء، لكنه يكتب كأنه عاد، لا ليطمئن الناس، انما لأجل لبنان، مقالة تلو مقالة، وهو يرى كما كان دائماً يرى، ان الأخطار ما برحت تكثُر، وان المؤمنين يقلّون، وان الوطن الصغير ما زال صغيراً.
وكيف يصير هذا الوطن كبيراً؟
حين يكون الجميع صغاراً... وحين يرتضون أن يتراجعوا ليتقدّم هو، وأن يضعَفوا ليقوى، وأن يختفوا هم كي يشتد بريقه، ويسطع بهاؤه، ويكتمل ظهوره اللطيف.
حينذاك لا يكون لهم أي لبنان ولا مطلق لبنان، بل لبنان ميشال أبو جودة، الذي أكبر من الطوائف، وأعظم من العقائد، وأهم من الأحلام، الأحلام التي تصير هي الأوطان، ويسكنها الناس لأنها على قياسهم وقياس أوهامهم، فمنهم من يسكن الوطن المسافِر، وغيرهم الوطن المتاجر، وسواهم الوطن المغامِر، أو الوطن الجبهة أو الصدفة، أو الفندق أو الخندق، أو المصرف أو عُلب الليل.
أما الوطن الحقيقي فسكانه قليلون،وكان ميشال أبو جودة أحد القليلين الذي سكن الوطن، بل سكن الوطن فيه، فراح يُبشّر به معلماً منبّهاً صارخاً في برية سائر الأوطان، محذّراً "حكامها وزعماءها وشعوبها وجيوشها" من أنها غير قابلة للحياة، ومن أنها بحياتها المصطنعة المزيّفة ستسبّب الموت للوطن الوحيد والمرتجى والمطلوب والذي وحده الشرعي.
لكن الناس لن ينتظروا كي يقوم هذا الوطن، الذي يعرقلون قيامه، لأنهم لا ينتمون اليه، بل يلتفتون إلى مصالحهم، وهم يعرفون أن هذه المصالح تتعارض ومصلحة لبنان، ويعرفون إن السير بها معناه السير عكس القانون، ويعرفون كذلك أن تحقيقها يؤدي إلى تأجيله.
وسيبقى الوطن مؤجلاً، وطن الميثاق والقيّم، والاشعاع والإبداع، وطن ميشال أبو جودة الصغير الضعيف، وستبقى الأوطان الأخرى مزدهرة، وسيظل الناس يشكون، لأنهم من جهة يطمحون كي يكون لهم رئيس ودولة ونظام ومؤسسات، ومن جهة أخرى يرضون بالفتات، ومكاتب خدمات، وزواريب وساطات، وفوق ذلك رجال زعامات يتعرّضون للرئيس لأنهم يطلبون الرئاسة، ويهاجمون السلطة لأنهم يعشقون السلطات، ويسخرون من الوطن لأن لهم مراكزهم ودولهم وقصورهم وأوطانهم وخصوماتهم التي لا تموت.
وسيظل ميشال ابو جودة يكتب، حاملاً حقيبته، موزّعاً أوراقه، ناشراً ما آمن به وعمل له وشهد لأجله، فهو في تلك الحديقة كما كان وسط المدينة... ولن يرتاح إلى أن تصغر سائر الأوطان والأحلام والاوهام، ويكبر الوطن الصغير.
• في 17 آب 1992 غاب ميشال أبو جودة.
بقلم ميشال هليّل
------------------------------------------------------
تعليقات: