شوارع خالية وبيوت شاغرة
مــــأســـــاة إقـــتـــصــــاديـــة - إجـــتمـــاعــيـــة لــــم تـــوفّـــر قـــضـــاء ولا مـــنـــطــقــة
موسم الاصطياف انتهى قبل أن يبدأ والمزارعون يتخوّفون من "نكبة جديدة"
لم تقتصر التداعيات الاقتصادية لحرب مخيم نهر البارد شمالا على الاسواق والحركة التجارية فحسب، بل شملت ذيولها المؤسسات السياحية والقطاعات الصناعية وحتى حركة الايجار وموسم الاصطياف. وامتدت هذه الانعكاسات من الساحل الى الجرد الشمالي، ومن اهدن الى بشري وحصرون وحدث الجبة وسير الضنية وصولا الى الارز والجوار.
ولعل الابرز على هذا الصعيد غياب السؤال عن شقة مفروشة للايجار في الجرود هربا من حر الصيف او منزل تصطاف فيه العائلة بعيدا من هموم المدينة. ورغم خفض ملحوظ في سعر وحدث الجبة والجوار، فان معظم البيوت لا تزال خالية ولا من يسأل عن سعر ايجارها، في حين كانت المصايف الشمالية في مثل هذه الفترة من كل عام تعج بالمصطافين الآتين اليها من المدن والسواحل. حتى ان الاهالي الذين يملكون بيوتا ورثوها من اهلهم او اشتروها او قاموا ببنائها حديثا لم يصعدوا الى الجبال بعد رغم انتهاء العام الدراسي وبقاء الاولاد في المنازل، وعادة كانوا يتوجهون، الى بيوتهم الجردية مع اقفال المدارس ابوابها. وعندما تسأل عن السبب فيأتي الجواب شبه واحد موحد على ألسنة الجميع "للحالة التعيسة التي نعيش، والخوف من الآتي الذي قد يكون اعظم"، وهكذا يبقى الموظف قريبا من مركز وظيفته ويحتفظ في جيبه بما كان سيدفعه كبدل ايجار، اما الآخرون فيوفرون مصروف البنزين ويتركون القرش الابيض لليوم الاسود.
انه رعب اقتصادي، اجتماعي، يعيش فصوله اليومية الشماليون، وخصوصا القريبين من مسرح المعارك حيث طالت القذائف والانفجارات عددا من البيوت المجاورة للمخيم، او تلك البعيدة بعد تعرضها للقصف من داخل المخيم.
ويبقى السؤال: الى اين؟ كل يوم يمر يكون أسوأ من الذي سبق، والخوف يكبر وينمو ولا يوقفه عند حد تطمين من هنا او هناك، في وقت ترتفع يوميا اسعار السلع الاستهلاكية والمواد الغذائية ويجري احتكار بعض الاصناف سعيا وراء مزيد من الارباح.
انها مأساة اقتصادية – اجتماعية كما ارادت ان تسميها مديرة احد الفنادق في حصرون من قضاء بشري واضافت "ان مجمل الحجوزات الغيت ولا سيما تلك التي قام بها مغتربون لبنانيون الى اوروبا ودول الخليج وسياح عرب". وتابعت "الوضع في المطاعم والمقاهي ليس افضل، فالرواد قليلون جدا وكذلك الحركة اليومية التي تكاد تكون شبه معدومة. اما في "الويك اند" فان هناك حركة للسيارات والباصات، لكن الغالبية تأتي بـ"الزوادة" معها تخفيفا "للتكاليف". واملت في ان يتحسن الوضع، عقب الحديث عن انتهاء العمليات العسكرية ووقف المعارك لكنها تخوفت من انعكاسات التفجيرات والالغام والارباك السياسي على صعيد السياحة والاقتصاد.
الشدراوي: الحركة شُلت
رئيس اتحاد بلديات قضاء بشري نوفل الشدراوي وصف الآثار السلبية التي خلفتها حوادث نهر البارد على الحركة السياحية في قضاء بشري بالكارثية، وقال "فيما كنا نعد لموسم سياحي واعد بعدما تعطلت السنة الماضية، حصلت حوادث نهر البارد فتوقفت الاستعدادات والتحضيرات، لأن الحركة شلت بصورة شبه كلية.
ولقد اعتادت منطقة بشري استقبال آلاف السياح اللبنانيين والاجانب طوال فصول السنة، وخصوصا خلال فصلي الربيع والصيف حين تزدهر السياحتان البيئية والدينية في المواقع المصنفة في لائحة التراث العالمي. فيشهد الوادي المقدس بمعالمه الروحية والتراثية البارزة، وحديقة البطاركة الموارنة في الديمان، وبقاعكفرا بلدة القديس شربل، وأرز الرب ومغارة قاديشا ومتحف جبران في بشري الى سائر مواقع القضاء المميزة، كلها تشهد حركة زوار كثيفة. وتترافق هذه الحركة مع انشطة ثقافية وفنية تقوم بها الاندية والجمعيات الاهلية، ما يحرك العجلة الاقتصادية ويسهم في انعاش موارد ابناء المنطقة. لكن لم نعد ندري ماذا نفعل".
واضاف الشدراوي: "معلوم ان موارد المنطقة الاساسية هي زراعية تقليدية. ومنذ فترة يجري العمل على الانتقال من هذه الموارد الى موارد بديلة تحتل السياحة مركز الطليعة فيها. لذا تحولت هذه الموارد السياحية مصدر عيش اساسي لدى ابناء المنطقة، ما يضاعف خطورة الازمة الراهنة".
ويشير الشدراوي الى ان اتحاد البلديات، ينسق مع اتحاد بلديات شمالية لوضع برنامج عمل مشترك يرتكز على التنسيق في الانشطة السياحية الممكنة للحد من آثار الازمة التي ولدتها حوادث البارد. ويتركز هذا البرنامج على تعميق التواصل مع المغتربين وتشجيعهم على زيارة لبنان، واحياء المناسبات السياحية الخاصة بهم "فاتحاد بلديات قضاء بشري اعد، رغم سوء الاحوال، لقاء تكريميا لمغتربي المنطقة، يأمل في ان تسمح الظروف باحيائه برعاية وحضور البطريرك الكاردينال نصرالله صفير في الديمان، كما نعمل على اشراك اكبر شريحة ممكنة من مغتربي سائر المناطق الشمالية واللبنانية فيه، وذلك في اطار الاحتفالات السنوية الثالثة لحديقة البطاركة في الديمان. كما سنعمل على توفير بعض مقومات السياحة الدينية في وادي قنوبين، مواكبة لمسيرة دعوة تقديس البطريرك الدويهي، هذه الدعوة التي تستقطب آلاف المؤمنين الى ضريحه في وادي قنوبين".
ويلفت الشدراوي الى اجتماع سيعقده مجلس الاتحاد مع اصحاب المؤسسات السياحية للتباحث في سبيل تنشيط القطاع السياحي رغم الظروف الصعبة التي تمر فيها البلاد. ويشدد على ضرورة ان تفرج وزارة الداخلية والبلديات عن عائدات الاتحاد والبلديات المالية من الصندوق البلدي المستقل، "فقد انقضى نصف السنة الحالية ولم تحول أي دفعة بعد، ما اصاب الاتحاد والبلديات بشلل تام اسهم في تفاقم الازمة الاقتصادية الراهنة الناجمة عن حوادث نهر البارد".
من بقاعكفرا إلى إهدن
بدوره يشير رئيس بلدية بقاعكفرا نائب رئيس اتحاد بلديات قضاء بشري ايلي مخلوف الى ان بلديته كانت انجزت محطة استراحة سياحية متطورة في البلدة لاستقبال أعداد السياح المتزايدين الى مواقع بقاعكفرا الدينية، الا انها صرفت النظر عن حفل افتتاحها بسبب تدهور الاوضاع العامة، وتعمل حالياً على اعداد برنامج لاحتفالات مار شربل السنوية تأمل في ان تسمح الظروف بتنفيذه. ويلفت الى ان الحركة السياحية متوقفة والدورة الاقتصادية مشلولة وابناء بقاعكفرا الذين اعتادوا حركة سياحة دينية متقدمة يغلقون محالهم بانتظار الانفراج.
وفي اهدن ليس وضع الفنادق والمنتجعات والمطاعم والمقاهي افضل حالا، بل ان الازمة أرخت بظلالها على الجميع، فألغيت حجوزات وكذلك حفلات، ولا يعرف اصحاب عدد من المطاعم ماذا يعدون برنامجاً للصيف، علما ان نبع مار سركيس والمطاعم فيه كانت تشهد كلّ صيف سلسلة حفلات غنائية، يشارك فيها مصطافون وسياح ومغتربون وعرب، والجميع ينتظر فرجاً قد يأتي او لا يأتي، والحسرة تطبق على الجميع، حتى ان نسبة ايجار الشقق المفروشة او المعدة للايجار دون فرش لم تصل بعد الى حوالى 40 او 45 في المئة من مجمل الشقق، فيما تكون عادة في مثل هذه الايام قد "فوّلت" ويصعب بعد الخامس عشر من حزيران تأمين شقة لمستأجر جديد.
ويقول مدير منتجع "اهدن كونتري كلوب" وأحد اصحابه الشيخ جميل معوض "لقد اعددنا لموسم الصيف بشكل جيد، وخصوصاً ان التباشير مع نهاية ايار وبداية حزيران كانت مشجعة وجيدة، لكن حوادث البارد والتفجيرات الامنية على الساحة اللبنانية اثرت علينا سلباً فألغيت حجوزات في الفندق والمطعم ولا سيما السياح العرب والاجانب بنسبة زادت على 60 في المئة، كما ان الرحلات الداخلية والحجوزات الداخلية وحفلات الغداء او العشاء الغيت، وكذلك زيارات الوفود السياحية الداخلية والخارجية". ويضيف "كنا قررنا بالتعاون مع الهيئات المحلية في زغرتا واهدن تنظيم ايام سياحية وتراثية لجلب السياح والهيئات الاقتصادية والثقافية ثم عمدنا الى الغاء ذلك، كذلك البرامج الخاصة والحفلات قضي عليها. انها خيبة كبيرة تتلاحق عاما بعد عام والخسائر تزداد، علما بان علينا دفع اجور الموظفين والعمال كالمعتاد". ويتابع معوض: "نأمل في ان ترتاح الامور، وندرس حاليا امكان تقديم عروض مغرية للسياحة الداخلية، ونحن مستعدون لعمل كل ما يلزم للتعويض عن بعض الخسائر، ولكن من دون امن ومن دون سلام لا مجال لأي عمل او جهد ان يبصر النور، لانه يبقى عقيماً اذا لم يأتِ الزوار والسياح". ويخلص أعطونا السلام ونحن نتكفل بالباقي، لسنا في حاجة الى دعاية او أي أمر آخر، ونحن قادرون على جلب السياح من خلال اتصالاتنا ومن خلال طبيعة لبنان وجماله، لكن ما من احد يضع نفسه في دائرة الخطر.
همّ آخر
الى ذلك فان همّا آخر يضاف الى هموم اهالي الجرود الشمالية أي السكان الاصليين في القرى والبلدات، ومعظمهم يعتاش من المواسم الزراعية ومن انتاج الاراضي، وابرز المواسم الاجاص والتفاح والفواكه الجردية على انواعها من مشمش ودراق وخوخ وكرز، وكلها مواسم بات قطافها على الابواب والمزارعون يتخوفون من كسادها، كما حصل الصيف الماضي، لان الحالة الامنية واقفال الحدود البرية من جهة سوريا يخيفان التجار ويحولان دون شراء المواسم، وهذا يشكل خسارة كبرى على هؤلاء المزارعين للعام الثاني على التوالي. علما ان الاسعار تراجعت كثيراً منذ سنوات، فيما ارتفعت التكاليف وكان المردود الى حد ما "يكحل العين" ويؤمن بعض المصاريف من أقساط مدرسية ومعيشة لائقة وحياة كريمة، لكن اليوم خوف المواطنين يزداد، ولا سيما انهم كانوا يأملون في اسعار جيدة، لان الموسم هذا الصيف جيد ولان المواسم المشابهة في جرود الضنية قد تضررت جراء "البرد" والسيول، ما حمل هؤلاء المزارعين على الاعتقاد بان اسعار البيع من الحقل هذا الصيف ستكون افضل مما كانت عليه في سنوات سابقة عدة، لان كمية الانتاج الاجمالية الجيدة اقل بكثير مما كانت عليه في العام الماضي وفي الاعوام التي قبله، وهم يأملون ويصلّون كي "تهدأ الحالة" ويستتب الوضع علهم يتمكنون من بيع مواسمهم، والا فانهم امام نكبة جديدة قد لا يتحمل عواقبها كثيرون، لان النكبات تتوالى عليهم عاما بعد عام وصيفاً بعد صيف.
•••
في اواخر الثمانينات وفي احدى ندواته الصحافية قال الرئيس الراحل سليمان فرنجيه، "اني اصلي الى ربي كي يكون غدي مثل يومي" فسأله احد الزملاء: "ولماذا يا فخامة الرئيس هذه الصلاة"؟ فاجاب: "لانني اخشى ان نصل في لبنان الى يوم نترحم فيه على الامس، لاننا يوم امس استطعنا تأمين قوت عيالنا واطعام اطفالنا وأمّنا لقمة عيشنا بكرامة، اما غداً فلا نعرف كيف ستكون عليه الحالة، لان المخطط العسكري الذي افشلناه في السبعينات، مخطط السيئ الذكر هنري كيسنجر الذي كان يهدف الى تقسيم لبنان وتوطين الفلسطينيين فيه لإراحة اسرائيل، اخشى من ان يذر بقرنه مجدداً ولكن من الباب الاقتصادي عبر افقار الشعب اللبناني وتجويعه. وعندما يجوع الشعب يتقبل كل شيء فتضرب ضربتها المؤامرة ويضيع الوطن مقابل لقمة نسعى الى تأمينها لعيالنا. والله يستر". صحيح "الله يستر"، فالجوع على الابواب، والمؤامرة مستمرة وان كانت ادواتها تغيرت واتخذت اشكالا جديدة وعناوين اخرى".
تعليقات: