صورة من 16 أيلول 1982 ... (علي لمع)
أهلاً بـ«أصدقاء ستيفانو».. أهلاً بالذين لا ينسون فلسطين وناسها..
لم تُشف جراح أمهات شهداء مجزرة «صبرا وشاتيلا» التي ارتكبها العدو الإسرائيلي خلال اجتياحه للبنان في العام 1982. يصعب عليهن، وعلى البلد، النسيان، ولو مرّ 28 عاماً على وقوع المجزرة الأليمة.
ثلاثة عقود والأمهات يمسكن بصور أحبابٍ ما زال بعضهم مفقوداً، إذ لم تُوجد لهم جثث ولا عرفت عنهم أخبار، ولا أحد يكترث بالبحث عن مصيرهم، مثلهم مثل أكثر من 17 ألف إنسان فقدوا خلال الحرب الأهلية اللبنانية. عشية ذاك التاريخ الأسود الذي يقع في السادس عشر من أيلول، لا تزال الصور معلّقة في قلوبٍ جراحها عميقة.
داخل قاعة «بيت أطفال الصمود» في مخيم شاتيلا، يجلس عدد من أهالي شهداء المجزرة، يحتضنون صور نكبتهم ومأساتهم، ينتظرون وصول أعضاء وفد لجنة «كي لا ننسى صبرا وشاتيلا» الأجنبية.. وفدٌ لا يتخلف عن موعده السنوي معهم.
يطلق الأهالي على أعضاء الوفد اسم «أصدقاء ستيفانو»، على اعتبار أن المناضل اليساري الايطالي الراحل ستيفانو كاريني أسّس اللجنة. هؤلاء الضيوف الإيطاليون، ليسوا مجرّد زوّار هنا، فقد أصبحوا مقرّبين من أهالي الشهداء الذين هبّوا ليحتضنوهم، فرداً فرداً، عند دخولهم قاعة المركز. تتسلل الابتسامات إلى شفاه الأهالي التي راحت تردد عبارتي «أهلاً وسهلاً» و«شكرًا لكم» باللغة الانكليزية، مع العلم أن لا جديد تحمله لهم هذه الزيارة السنوية، التي باتت أقرب إلى الوفاء لوعد الراحل كاريني بمساندة كل لاجئ فلسطيني.
شكّلت زيارة الوفد أمس لمخيم شاتيلا المحطة الأساسية في أعمال اليوم الثاني من برنامج إحياء ذكرى المجزرة. خلالها، لفت المدير العام لمؤسسة «بيت أطفال الصمود» قاسم عينا، وهو المرافق الدائم للوفد خلال جولاته، الى أن المؤسسة «أُنشئت قبل 34 عامًا من أجل الوفاء للشهداء». وأكدت شقيقة الراحل أنطونيتا كاريني أن «الوفد يسعى من خلال زيارته السنوية لتعبئة الرأي العام الايطالي تضامناً مع الشعب الفلسطيني». وتمنّت أمام الحضور أن تحتفل في العام المقبل بنصّ قانون منصف يضمن حق عمل اللاجئ الفلسطيني في لبنان.
وخلال لقائهم مع ممثلي الفصائل الفلسطينية وزياراتهم لبعض المخيمات، ألمّ أعضاء الوفد جيدّا بالتفاصيل المطلبية للاجئ في لبنان، وتحديداً على مستوى الحقوق المدنية والاجتماعية. فكانت الحقوق موضوعاً مطروحاً دائماً للنقاش، إن خلال لقاء الوفد مع ممثلي فصائل التحالف الوطني الفلسطيني في مخيم مار الياس، أو على مائدة «هيئة تنسيق الجمعيات الأهلية العاملة في التجمعات الفلسطينية / مركز بيت أطفال الصمود»، في المخيم.
وكان النقاش قد استهل في لقاء صباحي عقده أعضاء الوفد مع سفير فلسطين عبد الله عبد الله في مقر «منظمة التحرير»، بحضور المستشار الاول أشرف دبور، وممثلين عن قيادة «حركة فتح» في لبنان، و«الجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين»، و«جبهة التحرير الفلسطينية»، و«الجبهة العربية الفلسطينية»، و«حزب الشعب»، و«الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين».
وتمنى عبد الله ان «يكون اللقاء بحضور فصائل العمل الوطني الفلسطيني كافة لأنكم تأتون إلى هذا البلد لتتضامنوا مع الكل الفلسطيني». واعتبر عبد الله أن «المفاوض الفلسطيني متمسك بتحقيق الثوابت الوطنية ولن يقبل بحلول جزئية أومؤقتة».
من جهتها، شكرت رئيسة الوفد ستيفانا لاميتي السفير عبدالله وممثلي الفصائل على الاستقبال، وقدمت شرحا لأهداف الوفد الذي «شارك عدد كبير من أعضائه في رحلات كسر حصار قطاع غزة». وشدّدت على «أننا في نضال مستمر ضد ما ترتكبه اسرائيل بحق الشعب الفلسطيني».
في السياق نفسه، التقى الوفد بعد ظهر أمس، رئيس تحرير جريدة «السفير» الزميل طلال سلمان في دار الندوة. فعرّف باللقاء الزميل صقر أبو فخر، ثم استذكر سلمان «الصديق الغائب الذي لا يغيب ستيفانو كاريني»، مؤكدا أن «الموعد السنوي للوفد ينعشنا ويشعرنا بأن المناضلين أمثالكم ما زالوا يدعمون القضية الفلسطينية». ووصف سلمان الوضع اللبناني الراهن بأنه «غير جيّد، خاصة بعد حرب تموز 2006 التي بدلاً من أن تكون عنصر توحيد، تحوّلت الى موضوع اختلاف». وأعرب سلمان عن أسفه لقيام رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس بمفاوضة رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو في شرم الشيخ، تزامنا مع إحياء ذكرى صبرا وشاتيلا.
توليا على الدرب
في كل لقاء يعقده الوفد على مر النهار، تسترق شابة شقراء النظر. تُذكّر ملامح وجهها بشخصٍ معيّن، خصوصًا نظرتها الآتية من عينيها الزرقاوين. تمضي الشابة معظم وقتها صامتة، لا تكلّم أحدّاً، لكنها ترصد الأحداث التي تجري حولها جيّدًا. تصغي الى كل كلمة تٌقال وتسرح في خيالها عند كل لفظ لاسم «ستيفانو كاريني». هي لوتيا ابنة الراحل كاريني، والتي تبلغ من العمر 16 عاماً. هي الزيارة الثانية لتوليا الى لبنان، فقد زارته للمرة الاولى في العام الماضي. لم تكن تعرف شيئا عن مجزرة «صبرا وشاتيلا»، قبلها. تقول إنّ والدها لم يخبرها بالجريمة: «كان يعتبرني طفلة». إلا أن الوالد لم يعرف أن ابنته سترث عنه المشروع الذي أطلقه من أجل فلسطين المحتلة. تؤكد توليا انها لا تشعر بأنها صغيرة على وعي القضية. تريد إكمال الدرب الذي بدأه والدها وتحمّل المسؤولية الكبيرة التي تركها لها.
قررت توليا في العام الماضي زيارة لبنان للتعرف على أعضاء اللجنة والمشاركة في البرنامج اليومي. رغم صغر سنها، هي أيضا مناضلة، وتشارك في التظاهرات التي تُنظّم في روما تضامنا مع غزة. وكانت تنوي المشاركة في رحلة كسر الحصار في كانون الثاني الماضي، إلا أن والدتها منعتها، خوفاً عليها. توليا هي الابنة الوحيدة للراحل كاريني، ولها شقيق يدعى لوسيو (13 عاما) سينضم بدوره الى المسيرة في العام المقبل.
اليوم، تعتبر توليا نفسها معنية جدّا بمشروع والدها وتتعهد بالدفاع عن القضية على طريقتها الخاصة: «إمّا أن أصبح كاتبة كوالدي وأدافع عن فلسطين بقلمي، أو أدخل الى السلك الدبلوماسي وأدعم القضية بصوتي».
الوفد وأهالي ضحايا المجزرة
تعليقات: