لبناني بلا جنسية يروي فصولاً من حياته وآلامه


مأساة عائلية بين بيروت وحلب وخوف في جامعة دمشق

هذه حلقة أولى من سيرة رجل سوري الأب والجنسية، ولبناني الأم والمولد والطفولة والصبا والتعليم في بيروت، قبل انتقاله للدراسة الجامعية في جامعة دمشق سنة 1978، لتبدأ فصول عذاباته الطويلة مع السوريين التي دمرت حياته وجسمه، وتركته يتمنى الموت في ضربة شمس، كلما مشى في حال من الضياع في شوارع بيروت.

موجز مأساة عائلية

من أب سوري حلبي وأم لبنانية طرابلسية ولدت سنة 1960 في محلة المصيطبة ببيروت التي، منذ أواسط الخمسينات من القرن الماضي، أتاها أبي وعمل في مرفئها، تاركاً زوجة وخمسة أبناء في حلب. من أمي التي كانت مدرّسة ثم مديرة مدرسة في بيروت، أنجب سواي أخي وأختي، من دون أن يتحمل مسؤولية إعالتنا وتربيتنا، فتركهما لأمي التي كانت شديدة وقاسية علينا. كان أبي مستهتراً مبذراً ما يحصله من عمله على أهوائه، فلم يوفر شهوته وصبواته للخمر والسكر ومعاشرة النساء. حتى أنه استأجر لهذه مسكناً خاصاً في جونيه، على ما روت لي أمي بعد وفاته. ثم إنه كثيراً ما كان يترك منزله - منزلنا في المصيطبة ويغيب فترات طويلة، إما عائداً الى أهله وزوجته وأبنائه في حلب، وإما مهاجراً للعمل في ايران وبلدان الخليج العربية، بعدما كان قد ترك عمله في مرفأ بيروت واحترف نجارة الباطون في ورش البناء. فهو عمل مع شركة روسية لبناء الجسور في الاهواز، وتزوج هناك من امرأة إيرانية. وحين هاجر الى الكويت للعمل سرعان ما تزوج زواجاً عرفياً من كويتية.

في بعض فصول الصيف كان يأخذنا معه الى حلب، نحن أسرته البيروتية، فنزل في مسكن بمحلة السليمانية التي يكثر فيها المسيحيون والأرمن. وفّر له هذا المنزل وكيل عمله في مرفأ بيروت. كان هذا الوكيل لبنانياً من عائلة كسار المسيحية والحلبية الاصل.

أعمامي ونساؤهم المقيمون بمنطقة شعبية في حلب، كانوا كلما ذهبنا الى هناك نسمعهم يقولون عن أبي إنه "بلا شرف"، لأنه تزوج من لبنانية. فالفكرة الشائعة في كثير من الاوساط السورية، وخصوصاً العامية والمحافظة والشعبية، أن النساء في لبنان متفلتات وسيئات السمعة، رغم أن أمي كانت محجبة منذ الثالثة عشرة من عمرها. أنا بدوري كثيرة هي المرات التي سمعت فيها هذا العم أو ذاك من أعمامي يقول للآخر، كلما أبصروني: «تفرج، تفرج ها قد جاء إبن القحبة، تلك المتشاوفة في صمت ومن دون أن ترفع رأسها المطأطئ نحو الارض، لتوهمنا أنها شريفة». لكن أمي كانت في منتهى التواضع والخجل، ومثلها كنت أنا شديد الخجل الذي حمل أعمامي على القول إني مثل البنات.

من ذكريات طفولتي أثناء إقامتنا الصيفية في حلب، أن الناس هناك كانوا في حال من الصرع والهذيان ما بعد هزيمة حرب 1967، حينما كانت سوريا في حال من التخبط السياسي والانقلابات العسكرية وعدم استمرار رؤساء الجمهورية في الحكم أكثر من ستة أشهر أو ثمانية. وفي تلك الايام كانت الإلفة هي السائدة بين البيروتيين والحلبيين، والانتقال بين سوريا ولبنان سهل وعادي، إذ كنا نركب الحافلة من بيروت الى حلب بثلاث ليرات لبنانية للراكب، ومرة ذهبنا بالقطار مروراً في رياق، فدفعنا ليرتين لبنانيتين وربع الليرة للراكب. وفي عهد الرئيس اللبناني شارل الحلو، أذكر أن المغنية اللبنانية صباح أحيت في الصيف حفلة غنائية مشهودة في حلب.

كنا هناك حين توفي الرئيس جمال عبد الناصر، فشعرت أن الناس ازدادت صرعاً وهذياناً وتخبطاً، فيما كانت أمي في أيام "عدّتها" حداداً على والدي الذي توفي أواخر صيف 1969 في حلب. أذكر أنه عاد مرة الى المنزل ثملاً في الساعة الثانية بعد منتصف ليل من بدايات ذلك الصيف. كانت رائحة الكحول تفوح منه، وحاملاً في جيبه زجاجة ويسكي، حين دخل الى البيت، فقالت له أمي أن يذهب الى زوجته الحلبية ويتركها وشأنها، فتشاجرا وقذفها بزجاجة الويسكي التي أصابت الجدار وتطايرت شظايا في الغرفة. أخيراً دفعته أمي، فوقع وجُرح جرحاً بليغاً في رأسه، ونُقل الى المستشفى. بعد مدة قصيرة أصيب بداء في رئتيه أدى الى وفاته، فدفن في حلب.

طمعاً في تقاسم إرث أبي الموهوم راح أعمامي الحلبيون يتملقون أمي ويتقربون منها. أحدهم قال لها إنه على استعداد للزواج منها "أحسن ما تروحي لبرا وتتزوجين رجلاً غريباً، فالأقربون أولى بالمعروف"، على ما سمعته مرة يقول لها، مع أنه كان متزوجاً وعنده أولاداً كثيرين. رفضت الزواج، فأخذ أعمامي يضايقونها في تسلطهم عليها، حتى أن اثنين منهما تشاجرا مرة وتضاربا مدفوعين برغبة كل منهما في فرض إرادته عليها، فما كان منها أخيراً، إلا أن عادت بنا الى بيروت، من دون أن تعود قط الى حلب.

بعد مدة من عودتنا الى بيروت، أدخلتنا أمي، أنا وأخي وأختي، الى دار الايتام الاسلامية التي أقمنا فيها نحن الثلاثة، وتعلمنا في مدارس بيروت الرسمية، وكانت أمي قد تزوجت من رجل لم تنجب منه، وكان حضوره في حياتي أشبه بحضور ظل بعيد أو طيف.

سنة 1978 تخرجت من ثانوية الطريق الجديدة حاملاً شهادة البكالوريا في قسمها الثاني فرع الرياضيات. ولأنني لا أحمل سوى الجنسية السورية، قررت الرحيل الى دمشق لأتابع دراستي الجامعية هناك، بلا رسوم ولا تكاليف مادية يستحيل عليّ تحمل أعبائها في الجامعات اللبنانية.

من عملي الليلي في دمشق وفّرت لأخي الأصغر ما يمكّنه من دراسة علوم الصيدلة في جامعة بيروت العربية، بعد مدة من خروجه من دار الايتام. كان في السنة الاخيرة من دراسته الجامعية سنة 1994، حين ذهب الى دمشق باحثاً عني بعد سجني هناك، فاختفى ولم نعد نعلم عنه شيئاً، سوى أن أحد السجناء الكثيرين الذين سألتهم عنه بعد خروجي من السجن، واصفاً لهم ملامحه، قال لي إنه قد يكون صادف شاباً في مثل هذه الملامح، لكنه لا يذكر اسمه. وهكذا اختفى أخي تماماً بلا أي خبر أو أثر يرشدني الى مكان وجوده. أما أختي فقد تزوجت هنا في بيروت بعد خروجها من دار الايتام، فأنجبت ولدين قبل إصابتها بسرطان الرحم ووفاتها سنة 2001.

بين جامعة دمشق وحلب

أمضيت خمس سنوات (1978 - 1984) طالباً في كلية الهندسة في جامعة دمشق، ومقيماً في المدينة الجامعية المخصصة لسكن الطلاب. كنت متفوقاً في دراستي من دون أن أتوقف عن العمل ليلاً في فندق «البستان» وعامل تنظيفات في مطار دمشق لاحقاً، لأكسب معيشتي وأدّخر ما يفيض عن كلفتها مع أمي المقيمة وأختي وأخي مع زوجها في بيروت.

إبن عميد كلية الهندسة، كان زميلي على مقاعد الدراسة ويأتي مع ابن عمته في سيارته الخاصة الى الجامعة. وهذه من امتيازات أبناء النافذين الذين من عاداتهم أن يطلبوا مساعدة الطلاب المتفوقين، لقاء إغراءات مالية، كي يتمكنوا من النجاح. فكثيرون من أبناء النافذين كانوا يتغيّبون عن الدراسة وعن الامتحانات، وينجحون بتفوق في نهايات الاعوام الدراسية، فيكافأون بالحصول على منح في بعثات الى هنغاريا وتشيكوسلوفاكيا والاتحاد السوفياتي السابقين. ومن امتيازات هؤلاء ايضاً حصولهم على مخصصات مالية بين 4 و5 آلاف ليرة سورية، لقاء انتسابهم الى دورات إعداد حزبي، غالباً ما يسجلون أسماءهم في لوائحها للحصول على المخصصات من دون أن يفعلوا شيئاً. وهناك ما يسمى "مهام رفيق" التي كانوا "يفرزون" سيارات خاصة للذين يقومون بها، فيراقبون الطلبة وغير الطلبة ويكتبون التقارير، ويطاردون مطلوبين ويداهمون بيوتاً ويعتقلون سكانها، لقاء مكافآت مالية. كنت أسمع طلاباً في الجامعة يتحادثون عن هذه المهام، فيقول واحدهم لرفيقه: "كم حصّلت من مهمة حمص، أو حلب أو اللاذقية؟". وكان النافذون يتوزعون في ما بينهم عضوية اللجان الطالبية في الجامعة، من مالية وإدارية وثقافية... الخ.

حين بدأت مطاردة الاخوان المسلمين في سوريا سنة 1979، تكاثرت المطاردات والاعتقالات والمداهمات، وانتشرت الحواجز في الشوارع، فعاش المجتمع السوري، وخصوصاً في حماة وحلب وحمص ودمشق، حالاً من التململ والقلق والخوف. كانت الحوادث قد بدأت بحادثة كلية المدفعية في حلب، حين جمع الضابط السني الحلبي ابرهيم اليوسف طلاب الكلية وقام بفصل العلويين عن السنة، قبل أن يأمر مجموعة من أتباعه الجنود بإعدام العلويين رمياً بالرصاص، وكان عددهم نحو 40 طالباً في الكلية الحربية. كان اليوسف عضواً في جماعة الإخوان المسلمين التي يقودها في شمال سوريا عدنان عقلة وعلاء الدين زيتون ومحمد سكر الذين بدأ الجيش والمخابرات في مطاردتهم مع جماعاتهم، فيما قامت جماعات الاخوان المسلمين بتفجير قطارات ودور للسينما ومقاهٍ وملاهٍ ليلية ومتاجر للخمور في حمص وحماة وحلب ودمشق وإدلب واللاذقية.

في تلك الفترة أُخبرت باعتقال عمّ لي وابنه وثلاثة من أزواج بناته في حلب، حيث كان خادم مسجد ومتزوج من ثلاث نساء. كان عمي هذا يتردد الى زيارتي في المدينة الجامعية في دمشق، فيجلب لي بعضاً من المؤونة، كالزيت والزيتون والمآكل البيتية، ويعطيني بعض المال عطفاً منه عليّ، قائلاً لي إني أذكى شخص في العائلة وعقلي منفتح. كنت أعلم أن إخوته يقولون إنه "معقّد" لأنه منصرف عنهم وعن غيرهم من الناس الى شؤون دينه ومسجده، من دون أن أدري لماذا كان يأتي الى دمشق كل شهر أو شهرين، مكتفياً بقوله لي إنه يأتي إما لشغل وإما للقاء أشخاص عازمين على السفر.

وذهبت الى حلب للاستفسار عنه، حيث يقيم في حي الكلاسة القديم والذي سكانه من الحلبيين القدامى أو الاصليين في المدينة. مشيت في أزقة الحي الضيقة، من دون أن أنتبه الى أن رجال المخابرات يراقبون العابرين، الا حين فتحت لي زوجة عمي باب بيتها وقالت في صوت مرتجف: «روح، روح شو جاي تعمل هون؟! روح بيتنا مراقب والمخابرات منتشرة في الحي كله». سألتها عن عمي فجاوبت: «روح، الله يستر، الله يستر»، ثم أغلقت الباب. ما أن وصلت الى آخر الزقاق الضيق حتى اعترضني رجل مخابرات وأوقفني قائلاً: "ماذا أتيت تفعل هنا؟ «جاوبته بأنني أتيت لأزور عمي، ثم أعطيته بطاقتي الجامعية وبطاقة هويتي السورية، فحدّق فيهما، ثم حدّق في وجهي، قبل أن يقول: «إذهب ولا تفكر في أن تأتي مرة أخرى الى هنا، وأنسَ أن لك عماً وبيت عم في حلب، إذهب»؛ فأدرت ظهري ومشيت عازماً على العودة فوراً الى دمشق.

من طالب حلبي في جامعة دمشق ويخدم في الجيش، وبيت أهله مجاور لبيت عمي في الكلاسة، علمت لاحقاً أن مسؤول تنظيم الاخوان المسلمين في حلب، علاء الدين زيتون، كان في بيت عمي قبل ليلة من مداهمة البيت ومصادرة منشورات وأسلحة منه واعتقال عمي وابنه. ما أن سمعت هذا الخبر، حتى قلت في نفسي: خلص راح عمي، انتهى مع أولاده وأصهرته، ثم قررت ألا أزور حلب قط.

كثيراً ما سألت عن مصيرهم في السجون السورية التي نزلت فيها، لاحقاً، سنوات كثيرة في حقبات متلاحقة بين 1994 و2007، فلم يفدني أحد بخبر عنهم، الا أخيراً، حين أعلمني ضابط سوري بأن اسم عمي وارد في سجلات السجون، لكنه لا يعلم إن كان توفي في السجن أو ينزل في مستشفى أو في مصح للأمراض العقلية.

في تلك الحقبة من مطالع الثمانينات من القرن الماضي عاش الشعب السوري في حال من خوف داهم تفشى في نسيج الحياة الاجتماعية والخاصة. فالملاحقة الامنية المخابراتية كانت تشمل عائلات المطلوبين من آبائهم وأولادهم وإخوتهم وأعمامهم وأخوالهم وأصهرتهم، لسوقهم الى الاستجواب والتحقيق وتقديم التقارير.

أنا مثلاً استدعيت مرتين الى التحقيق في فرع الأمن العسكري في دمشق، بعد اعتقال عمي في حلب. في المرة الاولى حققوا معي مدة ساعتين، وفي الثانية احتجزوني ليومين من التحقيقات في الفرع نفسه. ومن الظواهر التي عاشها المجتمع السوري في تلك الحقبة، ظاهرة هرب المطلوبين وعائلاتهم وعائلات المعتقلين وتنقلهم من مدينة الى أخرى. فمن كان يشعر من الناس أن عليه إشكالاً ما في حلب كان يهرب منفرداً أو مع أسرته الى دمشق أو الى غيرها من المدن السورية. والدمشقي الخائف كان يهرب بدوره الى مدينة أخرى. وتكاثر في الجامعة الطلاب المعتقلون من أقارب المعتقلين والفارين. ورجال المخابرات أحكموا مراقبتهم على المدارس الابتدائية والاعدادية والثانوية، فاستعملوا المدرسين في استطلاع الاخبار من التلامذة عن أهلهم وأقاربهم. المدرسون أخذوا يرفعون تقارير دورية لأجهزة الأمن، والطلاب الجامعيون جرى تجنيد أعداد كبيرة منهم لكتابة تقارير يومية عن زملائهم.

والاكراد الذين كانوا آنذاك هائجين مطالبين بتمثيلهم في مجلس الشعب، استمالت أجهزة الأمن والمخابرات رجالاً كثيرين منهم وجنّدتهم في المطاردات والملاحقات والتحقيقات، فتحولوا وحوشاً ضارية في المداهمات والتعذيب. المنزل الذي كان يتعرض أصحابه للدهم والاعتقال، كانت تُنهب محتوياته الثمينة من مجوهرات وأموال وغيرها من الحاجيات التي يمكن حملها. وإذا أعجبت المداهمين امرأة أو فتاة من هذا البيت أو ذاك يقتادونها معهم ويفتعلون فيها ما يشاؤون. والفتيات المحجبات في الجامعة كان رجال المخابرات ينتظرون خروجهن من الحرم الجامعي الى الشوارع القريبة، فيهجمون عليهن وينزعون الحجابات عن رؤوسهن ويضربونهن.

حين كنا مرة في رحلة جامعية الى اللاذقية التي كان يسيطر عليها رجال رفعت الأسد المعروفين بـ"سرايا الدفاع"، رأينا رجالاً من هذه السرايا يقومون بمهاجمة الفتيات المحجبات على مدخل الجامعة. وفي حديقة ابن هاني أو البطارنة القريبة من شاطئ البحر في اللاذقية رأينا ايضاً رجالاً من "سرايا الدفاع" ينزلون من سيارة بيجو 504 مزينة بصورتين لحافظ الاسد وأخيه رفعت، ويختطفون ثلاث فتيات سافرات يتمشين في الحديقة. ومن أعمال هذه السرايا ايضاً أن رجالها كانوا يدهمون بيوت الاثرياء في اللاذقية وينهبونها بحجة دهم المطلوبين واعتقالهم.

تعليقات: