حارة حريك في يوم هادئ (أرشيف ــ مروان طحطح)
إنّها قصّة صحافيّ ومصوّر لم يتمكّنا من مقاومة إغواء الضاحية. اندلعت الحرب، وكانت الصحيفة التي يعملان فيها لم تصدر بعد. لكنّهما أصرّا على التصوير والكتابة تحت الخطر. لم يشاءا أن تختفي الضاحية من دون أن يُلقيا عليها نظرة أخيرة، وربّما ظنّا أنّ تسجيلهما ما يجري سيمنع الأبنية من السقوط. ننشر هنا حلقة أولى من هذه المشاهدات، على أن تتبعها حلقة ثانية غداً
تنهار بناية كاملة على مرأى منا. زميلي المصور مروان طحطح الذي يخوض أولى الحروب الفعلية، وأقساها دون ريب، يظهر شجاعة استثنائية، إلا أننا الآن، وفي وسط المربّع الأمني، وتحت هدير طائرات العدو التي تزيل المباني واحداً إثر آخر، لم نعد نعرف تماماً ماذا نفعل. مروان لن يبيع صوره لأي وكالة، والكتابة عن هذه الحرب مؤجلة الى حين صدور «الأخبار»، وفي عمق الضاحية الجنوبية بتنا كمن يسير في الصحراء، تحت أنظار الطائرات القاتلة، والغبار يحيط بنا من كل طرف. الجريدة لم تصدر بعد، ونحن هنا. «أيّ حماقة أدخلتنا الى المربّع الأمني في بعد ظهر قائظ؟ أي جنون نمارسه هنا؟»، تقول لنفسك قبل أن يتسع الوقت للتفكير في أفضل السبل للفرار.
في مكتب «الأخبار» يجلس جوزف سماحة، بهدوء أعصاب وطمأنينة كبيرين. يتمكن كل يوم من قراءة عشرات الأوراق المسحوبة عن الإنترنت، ويتحدث بهدوء ولكن بسخريته المعهودة ولذعه القاسي: «كان من الأفضل أن تجري اتصالات بالسياسيين لمعرفة التطورات في المفاوضات على أن تذهب للوقوف أسفل المباني التي تهدّمها الطائرات الإسرائيلية»، يقول مظهراً عدم رضاه عن المغامرات غير المحسوبة، وربما قلقه الداخلي على أرواح فريق عمله.
إلا أن في الضاحية كان ثمـة سحر، شغف أو ذكرى مـن قدر بعيد ألمّ ببيـروت عام 1982. لا يكتفي الصحافي بمجرد مراقبة الضاحية من تلال بعبدا، حيث عشرات الكاميرات تصور القصف الإسرائيلي وتعرضه مباشرة أمام ملايين المشاهدين حول العالم. الضاحية التي تضم مئات الآلاف من السكان في أيام السلم تتحول الى مدينة كبيرة ساحرة زمن الحرب، تشبه الجنية «الندّاهة» في الحكايات الشعبية المصرية التي تستدعي عشاقها وتقتلهم، فتستدعينا كل يوم الى الذهاب هناك.
الواقف على مفترق الطرق تبدو العلاقة مع حزب الله ظاهرياً بسيطة وتلقـــــــائية. لم ولن نعرف ضمناً ما الذي حدث. نعرف أننا كنا نذهب كل يوم الى مقاتلي المقاومة فور وصولنا الى الضاحية، نرمي الصباح ونخوض الأحاديث المتفرقة المعتادة مع مقاتلين في زمن الحرب، ونلقي نكات سريعة عن طائرات الاستطلاع من دون طيار وطائرات حربية تقصف مباني مدمرة، قبل أن يسمح لنا المقاتلون بالدخول أو يطلبوا منا الانتظار لبعض الوقت أو ببساطة يعيدوننا على أعقابنا خائبين.
لنفترض أن اسم ذاك الواقف على مفترق الطرق هشام، وأن هشام هذا الذي يقف دائماً تحت حافة مبنى على طرف المربع الأمني شابّ في العشرينات، عالي التهذيب، على بعض المرح، وهو يضحك حين يسمح له الوضع. أما حين يكون هناك تعميم بعدم السماح لأحد بالاقتراب من المربع الأمني، فإن هشام سيعبس، وقد تلقي عليه تحية الصباح ولا يجيب. يحاول العشريني أن يجسد صلابة الحزب المقاوم في شخصه الشاب، وأحياناً يفشل، فيسمح لنا بتجوال خفيف في أطراف المنطقة الممنوعة على الصحافيين والمدنيين على السواء، ويوصينا «لا تطيلوا البقاء، وإذا سُئلتم من سمح لكم بالدخول فقولوا الأخ هشام».
هشام متعب إلى حـد الإرهاق، ويحوّل النعاس عينيـــه الى جمرتين. يحــــــــاول كبت تثاؤبه، يرتدي بزّة جنـــــــــود المارينز وعلى رأسه خوذة حديثـــــــــة الصنـــــــع من مواد كيميائية شديــــــــــدة المقاومة والصلابة، وهي مغطاة بقماش من لون بزّته، وعلى صدره درع يستخدمها الأمنيون وعناصر المرافقة لتضليل أعين الرصد تحت القمصان، إلا أن التعب والإرهاق دفعا بهشام الى ارتدائها فوق قميصه القطني، وهو بحذائه العسكري وبندقيتــه السوداء يدعنا نمر الى قلب الضاحية، هذا اليوم يمكننا الدخول الى المربع الأمني، الطائــــــــرات الحربية ليست فوق روؤسنا، وهشـــــــام يقول «لم ننم أمس» ويصمت، بينما يكمل جملته مبنى البنك الفرنسي المدمر كلياً، وهو يبعد عن هشام أمتاراً لا تتعدى عرض الشارع الأسفلتي، ومن العمق تظهر امرأة طاعنة فـــــــــي السن تجر بقجة قماشية هي ما تمكّنت من أخذه من منزلها، بعدما تحقّق هشام ورفاقـــــــه من أنها من سكان المنطقة وأنها تأخذ أغراضاً من منزلها بالذات.
يركض شاب ظهر من لا مكان وبندقيته الكلاشنيكوف في يده، ويسحب البقجة من يد المرأة ويحملها على كتفه: «أسرعي يا حاجة لسلامتك» ويركض الى طرف المربع الأمني قرب هشام ويضع البقجة القماشية أرضاً سائلاً العجوز إذا كانت تملك وسيلة نقل أو ثمة من ينتظرها.
صباح الخير يا هشام، يوم دخلنا مع زميلي مروان لم تكن هنــــــــاك... نسير بين المباني المدمرة، نعرف المنطقــــــــــة جيداً لأننـا كثيراً ما زرنا مقرّ العلاقـــــــــات الإعلامية في هذه المنطقة، لكنّ المباني شوّهت الآن، وبمـــــــــا أننا لم نعثر على أحد من المقاتلين في المقاومة ليمنعنا، نتابع التوغل، وكان اليوم يوم أمن بمبان محطمة لا أكثر ولا أقل، إلّا أنه يوم 16 من تموز عام 2006. الساعة تشارف الثالثة بعد الظهر، أيام قليلة من بداية المعارك كانت كافية لإظهار حجم الحرب، وبعد النزول المستحيل من مستشفى صور عقب وصول أجساد شهداء مروحين، كان الأفضل اليوم الدخول الى الضاحية الجنوبية. مروان مغامر بما يكفي للدخول والتقاط الصور وسط مناطق مدمرة. ونحن نبحث عن مقاتلي المقاومة في المربع الأمني ليرشدونا الى أفضل السبل للتحرك، إلا أننا لم نعثر على أحد منهم ونحن داخلان.
رجل عجوز يطمئن الى منزله، يحمل كيساً أصفـــــــــر فيــــــــــه من سقْــــــــــط متاعه، ويفر مسرعاً بعد أن يحدثّنا بجملتين، وشابان يبكيان ضياع محلهما ويحاولان أن يسحبا المال النقدي من الصندوق. سبق أن سمح لهما مقاتلو الحزب بالمرور بعدما تعرفوا الــــــيهما، ونحن نسير بين أجهزة خلوي متطايرة هنا وهناك وأغراض شخصية لأناس فقدوا ذاكرتهم مع فقدانهم لمتاعهم. ونبحث بلا جدوى عن مقاتل يدلنا ويخبرنا عن الوضع ميدانياً، إلا أننا نجد أنفسنا بمفردنا في أول الشارع المؤدي الى مكتب العلاقات الإعلامية لحزب الله.
نضحك بمرح، نقترب بسرعة من المباني المـــــــدمــــــــرة، يلتقــــــــط زميلــــــــي صـــــــــورة عربة أطفال خالية بعدما علقـــت قـــــــائلاً له: «لو كنت مصوراً إسرائيليـــــــــاً لحملت هذه العربة والتقطت لها صوراً في كل المنطقة، ولبثتها كل الوكالات الدولية». يضحــــــــك زميلي ويلتقط عدداً من الصور للعربة على سبيل المزاح، ثم نختبئ في محل مدمر الواجهة تحت مبنى سليم.
يتصاعد صوت لانفجار قريب، بضع عشرات من الأمتار خلفنا في شارع متفرع من الشارع الرئيسي، تسجّل عدسة زميلي لقطات، قبل أن ندخل في شجار قصير حول الدرع التي نضعها. لم يكن معنا إلا درع واحدة ويرفض زميلي ارتداءها. وبعد إصرار يقتنع بحجة أن ما أتى به من مكاتب الصحيفة المكيفة هو نزوة لن نسامح أنفسنا عليها إذا حلّ به مكروه.
ينهار أول المباني أمامنا. الطائرات تلقي بقنابلها الفراغية. صوت الانفجار لا يثير كبير هلع، إلا أن صوت انهيار مبنى بكامله أمامنا يثير أكثر من الهلع. المبنى يصرخ وهو يهوي، ولحظـــــــــات يختفي خلف غباره المتصاعد. المشهد سيثـــــــير في البال كلمــــــات كتبها الياس خوري عام 1983 «وسقط ككمشة ثياب مجعلكة» إلا أنا في تلك اللحظة سيُخرج مروان رأسه ليطل ويلتقط الصورة. بدا لنا أن لا شيء في الصورة سوى الغبار. لم نعد نشاهد أمامنا وخلفنا. يرن الهاتف الخلوي ليسألنا أحد الزملاء في الصحيفة عن تفصيل تقني سخيف، لم يعرف أين نحن. وفي المقابل، وفي عمق الضاحية لا يخطر بالبال إلا أن الطائرات الإسرائيلية ـ التي لم تختف لحظة فوق روؤسنا ولم يغب صوتها الهادر عن أسماعنا ـ تملك قدرة على رصد إرسال الهاتف الخلوي. نتحرك بأسرع ما يمكن نحو مبنى آخر، كل البطولة الآن في البقاء على قيد الحياة، وعدم ترك الرعب يحبسنا تحت مبنى لا نعرف في أي لحظة يحين دوره في لعبة الهدم الهمجية.
المبنى الذي نغادر أسفله سينهار بعد لحظات على خروجنا من أحد متاجره المخلّعة. سنحمل ذنب هذا المبنى وانهياره، فالخطأ كان في تحركنا لحظة انقشاع الغبار، وهو ما يؤدي الى رؤيتنا من الطائرات الحربية وضرب النقطة التي انطلقنا منها، ولحسن الحظ أنه لم تُضرب نقطة وصولنا، وبعدها سنتحرك مع اشتداد الغبار لا العكس.
مسافة طويلة تفصل بين الشوارع الآن. في الماضي القريب كانت الشوارع تبدو أقصر والتنقل أسرع، ورغم أننا نركض هرباً من الطائـــــــــــرات فإن الرعـــــــــب أضفى على المكان أبعاداً إضافية وأطال الزمن الذي نظنه لا نهائياً.
وعند الخروج من المربع الأمني لا تنفكّ المباني تتساقط. امرأة عجوز تودّع ابنها وزوجته اللذين يقرران الذهاب، وتعطينا الماء لنشرب. الرعب الظاهر في أعيننا ووجوهنا يدفعان المرأة لسؤالنا عما شهدناه وخبرناه، نصمت بينما يحاول الابن إقناع والدته مجدداً كما يبدو بمغادرة المنطقة. وترفض العجوز بإصرار.
يتصيّدنا أحد مقاتلي المقاومة خارج المنطقة ويوقفنا، يرفض تركنا نتجاوز إحدى النقاط طالبــــــــــاً منا الاستــــــــدارة حول مربع سكني كامل، قبل أن نصل الى حيث ركَنّا الدراجة النارية، التي غطى الغبار مقعدها المزدوج.
شارع خلفي مدمّر
في حارة حريك (أرشيف ــ مروان طحطح)
عربة طفل على درج احد المباني التي سيتم تدميرها
في الايام اللاحقة على اطراف المربع الامني في حارة حريك (أرشيف ــ مروان طحطح)
تعليقات: