أحد المباني لحظة قصفه وانهياره
داخل المربّع الأمني (أرشيف - مروان طحطح)
إنّها قصّة صحافيّ ومصوّر لم يتمكّنا من مقاومة إغواء الضاحية. اندلعت الحرب، وكانت الصحيفة التي يعملان فيها لم تصدر بعد. لكنّهما أصرّا على التصوير والكتابة تحت الخطر. لم يشاءا أن تختفي الضاحية من دون أن يُلقيا عليها نظرة أخيرة، وربّما ظنّا أنّ تسجيلهما ما يجري سيمنع الأبنية من السقوط. ننشر هنا الحلقة الثانية من هذه المشاهدات، بعد أن نشرنا أمس الحلقة الأولى
بعد أيام على بدء قصف الضاحية، نجح مقاومو حزب الله أكثر في ضبط المنطقة. ترافق ذلك مع محاولات عدد من الصحافيين الغربيين ـ غير المرغوب فيهم من قيادة المقاومة والذين توافدوا الى لبنان بالعشرات ـ لدخول المربع الأمني للحزب، لكن الحزب منعهم من ذلك، كما سيمنعنا في أيام أخرى، حاصراً الدخول الإعلامي في جولات صباحية ينظمها مكتب العلاقات الإعلامية ويجول خلالها على المواقع التي قصفتها الطائرات الإسرائيلية أخيراً، اي في الليل الفائت. يجمع الحزب الصحافيين بالعشرات، وخاصة المصورين. يتواطأ معنا بعض المسؤولين الإعلاميين، ونتفاهم قبل بدء الجولات، ويغضّون هم النظر عن تسللنا من ضمن الوفد الإعلامي لنتجول هنا وهناك في أزقّة الضاحية.
خلـــــــــف الشوارع المدمـــــــرة يظهر أحد العناصر الأمنية في المقاومة، يصفّر لنا، ومن قرب ما كان في الماضي حمام السلطـــــــان وتحول حينها إلى مشهد دمار لم يحصل مثله منذ قصف لندن في الحرب العالمية الثانية، يخرج من اللامكان أحد عناصر الأمن، يصفّر لنا ويطلب منا إخلاء المكان. نرفض الردّ، فيصرخ باسم عائلتنا، مضيفاً «اخرجوا من عندكم». نقترب على مهل من العنصر الأمني، وفي يدنا بطاقة لإحدى الزميلات الإعلاميات العاملات في مكتب العلاقات الإعلامية في حزب الله، وهي البطاقة التي قذفها دمار المبنى إلى الشارع القريب. يطلب منا العنصر الأمني المغادرة بسرعة، ويقول: «في الأجواء طائــــرات».
الشاب الذي لم نشاهده من قبل، يمتعض حين نجيبه: «لا طائرات في الجو ولن نغادر الآن»، يقول «ثمة طائرات تجسس من دون طيار. رجاء غادروا المنطقة الآن». نرفض مجدداً، فلا طائرات تجسس في الجو وإلا لكنا سمعنا أزيزها.
ينهي الشاب الحوار حين يقترب ويقول: «في بنت جبيل قتلنا 8 اسرائيليين منذ قليل، رجاء أخلوا المكان لسلامتكم». بعد خبر كهذا لا بد من الانصياع للشاب الذي يعرف اسماءنا ولا نعرف عنه شيئاً.
ندخل بخفر الى المنطقة المحظورة. سبق أن استقبلنـــــــا موقع للمقاومة وتعرف إلينا وسمح لنا بالدخول، وحين نصل الى قرب الضمان الاجتماعي يطلب منا مقاومان بالتجهيز القتالي الكامل الاقتراب، نذهب إليهما. كانت الحرب قد تجاوزت المنتصف. يطلب منا الشابـــــــــان بتهذيب بطاقاتنا، فنبرز بطاقات مؤقتة من صحيفة «الأخبار». يذهب أحد الشابين الى هاتف عمومي قريب. هذا الهاتف الذي بقــــــــي واقفاً بين الركام، والذي لا يزال يعمل بأعجوبة رغــم إصابته بشظايا عدة، يسمح للمقاوم بالاتصال بقيادته، ثم يعود إلينا بعد أن يقرأ لمن يسمعه على الطرف الآخر ما يرد على بطاقاتنا، ويقول لنا: «تفضلوا تجولوا على راحتكم، غرفة العمليــات تعلـــم بأمركـم».
غرفة العمليات كانت ترتاح وسط كل ذلك الغبار. ربما ضباط هذه الغرفـــــــــة ينامون في مكان قريب أو بعيد، إلا أنهم على صلة وثيقة بكل عناصرهم، مستفيديـــــن من تقينات الاتصالات، والعناصر تستخدم بطاقات الهاتف المدفوعة سلفاً، تتصل بغرفة العمليات من الهواتف العامة وتتابع التطورات عـبر أجهزة اللاسلكي، وتدير مربعات أمنية داخل مربعات أمنية في ضاحية لم نعد نحن أنفسنا نعلم أين راحت مبانيها ومن الذي يدير اللعبة الأمنية فيها، عناصر التعبئة أم جنود النخبة في المقاومة أم جهاز الأمن والحماية، أم الطائرات المعادية التي تحلق في الأجواء أغلب الاوقات.
مشاهد الدمار تفننت وسائل الاعلام في إظهارها، وفي لحظات تعود الحروب لتبدو كم هي مقيتة وبعيدة. يخرج من بين الركام مقاتلان، كانا على دراجة نارية، في الايام الاخيرة من شهر تموز، يرميان الدراجة النارية جانباً ويركضان تحت سقف أحد المباني المتصدعة ليختبئا من أعين الطيران الاستطلاعي المعادي، ويطلبان منا الاقتراب. الضاحية اليوم أيضاً شدتنا إليها في إحدى الزيارات اليومية التي تصبح أكثر من إدمان لنرضي ذواتنا بأننا نعيش أيضاً ونتنفس بحرية حتى لو كنا تحت أقسى الحروب الاسرائيلية على لبنان.
الشابان يطلبان منا الاقتراب. نقترب ونبادرهما بأننا عبرنا نقطة سابقة للحزب وسمح لنا بالدخول الى هنا.
«دعني أوضح لك الامر، أنت الآن في المربع، وهنا أنت في حاجة لموافقة من حزب الله مباشرة»، يقول قبل أن يطلب بطاقات التعريف، ويتصل من هاتفه الخلوي. إذاً نحن في أيدي حزب الله، وأولئك الشبان المحيطون بالمنطقة من خارجها كالحصار العنيد والذين يتجمعون بتشكيلات قتالية واضحة، هم من عناصر التعبئة ووحدات الاختصاص بالتصدي للإنزالات والهجمات والجواسيس الكثر، أما هنا فإن النواة الصلبة لـ«حزب الله» تدير الامور. وبعد دقائق يقترب منا الشاب المقاتل ويسمح لنا بالتحرك، ويرافقنا لمسافة ويرشدنا كيف نتحرك، ثم يجمد مكانه فجأة حين يسمع طائرة الاستطلاع ولا يأتي إلا بحركة واحدة من يده وكلمة «ابقوا مكانكم» ثم يستأنف السير، ولنفترض أن اسمه بلال، فهو متزوج ولكنه لم يرزق بأطفال بعد، وهو يتمنى الإنجاب، إلا أن أسباب الحياة الصعبة والغلاء يدفعانه الى إعادة التفكير في الحصول على اطفال. يسير بلال وهو يضحك، ينظر لفترة محاولاً اكتشاف لغز ما أو محاولة منا لاستدراج للإفشاء بسر حين نسأل عن عمره. «29 عاماً» يقول، ثم يتحدث ببطء عن صعوبة تحصيل لقمة العيش اليوم ومسؤوليات الاطفال الكبيرة.
المرة الثانية التي سنلتقي فيها ببلال سيكون قد أصيب في يده، ويلفها بشاش أبيض، ويركض بهمة. سيخرج من بين الانقاض ليكلم أحد الضباط الذين يتصيدوننا. كالعادة نحن نتسلل الى داخل المربع الامني، سيخرج بلال ويكلم الضابط جانباً، ثم يعود الى داخل المنطقة التي حوّلتها الطائرات الاسرائيلية الى أنقاض، ولن تمضي نصف ساعة قبل أن تعاود الطائرات الاسرائيلية ضرب المكان الذي خرج وعاد إليه بلال، إلا أن الشاب المتزوج حديثاً والذي يخاف مسؤوليات الاطفال لن يستشهد، على الاقل ليس في تلك الغارات.
عشرات من الشبان. هشام الواقف عند المفترق، وبلال الذي يسكن بين الركام وتحت غارات الطائــــرات عـــــــلى مـقر الأمــــــانة العامة لحزب الله، وغيرهما كثر يتحركـون بين الانقاض هناك، وحين لا تــراهم فـلا تحـاول دخول المنطقـة إذ إن حــــــــزب اللـه يعلـم أن الطائرات الاسرائيلية مقــبلــــــــة لدك المباني المحيطة بالمربع الامني. أجهزة الرصد المتطورة التي يملكها حزب اللـه سمحــت لــــــــه بتقليـص عدد الخسائر من المقاتلين في الضاحية، وبحماية مقاتليه وحماية المدنيين سواء بسواء.
الشبان المقاتلون الذين يتعاملون معنا على اطراف المربع الامنــــــي يطلبون منا، بعدما انكسر حاجز الجليد معهـــــــم، أن نعرض لهم صور الدمـــــــار داخل المربـــع. هؤلاء أمضوا أسابيع يراقبون محيط المنطقــــــة وينتظرون إنزالات معادية او مروحيات أو مظليين محتملين أو جواسيس يضعـــــــون العـــــــلامات غير المرئية على المباني المحيطـــــة بالمربع الامني، الا انهم لم يدخلوا المنطقة مرة، ولم يشاهدوا ما لحق بها من دمار، ولا شاهـــــــدوا بأم العين ما سمعوه ينهار من أبنية، او ما خلفته الصواريخ التي أرهبت لياليهم وصمّت آذانهم.
هشام من المحظوظيــــن من جهاز الامن، وهو الذي يقف على مفـــــــــترق الطرق ويشـــــــــاهد المباني تنهار، كما يمكنه التجـــــــول في المربع بين حين وآخر، وينجح أمامنا في اصطياد لصين غزوَا أحــــــــد المنــــــــــازل التي تقع خارج دائرة عمله، ولكنهما اقتربـــــــــــا منه وهو بعينيه نصف المغمضتين من قلة النــوم. كان ينتظرهما، فيوقفهما ويجبرهما على إعادة ما سرقاه، قبل أن نغادره ونتركهما
لمصيرهما.
يعتاد المقاتلون من المقاومة مرورنا اليومي عليهم، إلا أن الاعتياد لا يعني الكثير إذا كانت الأوامر صارمة لديهم، الممنوع هو ممنوع، جل ما يمكنهم فعله بعد توطد ثقة ما معهم هو أن يعاودوا الاتصال بغرفة عملياتهم لتقديم طلبنا بالدخول الى المنطقة، وإن أتى الرد سلباً لا يمكنهم إلا الاعتذار منا، «لا تعتذروا نحن نمر من هنا كل يوم لنلقي تحية الصباح عليكم، وانتظرونا غداً، فسنمر لنلقي التحية ونتأكد من أن أوامركم هي نفسها».
تنتهي الحرب ويختفي المقاومون، يدخل جوزف سماحة الى الضاحية الجنوبية ليطل من شاشة تلفزيون الجزيرة ويدلي برأيه. لم يبلغ أحداً في الجريدة بأنه سيزور الضاحية وسيظهر في البث المباشر، إلا أن الجميع كانوا يعلمون قبل الوقت المحدد، ولو لم يعلم صحافيو «الأخبار» بهذا الظهور لوجب التساؤل عن قدراتهم المهنية في تقصي المعلومات، وحين يعود جوزف الى مكتب الصحيفة بعد مشاهداته في الضاحية المدمرة يطلق كعادته عبارة تعلق في أذهان من يسمعه: «حين تشاهد هذا الدمار ستتخلى عن أية فكرة قد تكون راودتك للحظة بأن السلام ممكن مع الاسرائيليين». يقول جوزف ويدخل الى مكتبه لمتابعة ما فاته خلال بضع ساعات من الغياب. ويختفي المقاومون في الحياة اليومية، العادية، في صياح الباعة وقيادة سيارات الاجرة وازدحام الضاحية، ويمر عباس (من نفترض أن اسمه عباس) من مكتب الأمن في الضاحية ولا يجيب على ندائنا له وسط يوم شتوي بارد، ويتجاهل كلياً أن من يناديه هو من سبق أن التقاه في حرب ماضية وتحمّل مسؤولية دمه تطوعاً. يختفي عباس بين زحام الناس في مكان ما قرب جسر دمرته الطائرات الحربية الإسرائيلية ولم يُعَد بناؤه بعد.
زار منزله يوم 16 تموز وأخرج ما أمكنه
(أرشيف - مروان طحطح)
شارع خلفي في الضاحية على مدخل المربع الأمني
يوم 16 تموز (أرشيف - مروان طحطح)
تعليقات: