الباحث المصرفي سليم سعيد مهنا
ما أن انفجرت الأزمة المالية العالمية حتى دخل الاقتصاد العالمي في ركود قوي، وانخفض النمو انخفاضاً غير مسبوق، فانخفضت الصادرات والواردات، وجفت منابع السيولة المحركة للاستثمار وتوقفت المشاريع أو ألغيت، وانخفض الإنتاج والاستهلاك حول العالم، وانهار العديد من الشركات وأفلست مصارف ومؤسسات مالية كبرى، فضاعت آلاف مليارات الدولارات في انهيارات البورصة، وزادت أعداد الفقراء والعاطلين عن العمل في أسوأ أزمة شهدها العالم منذ ما عرف بأزمة الكساد الكبير عام 1929.
في خضم هذه الظروف لم يكن هدف المعنيين الخروج من الأزمة بأسرع وقت ممكن وحسب، إنما بدأ البحث عن أسبابها ونتائجها المتوقعة، والتخطيط لما بعدها، حيث تركزت الجهود على تحفيز النمو الاقتصادي من خلال خطط منسقة للإنفاق الحكومي، وحظي القطاع المالي بالأضواء والتركيز الإعلامي المستمر.
تشجيع النمو
يدرك الخبراء أنه في أوقات الركود الاقتصادي لا يتوجه الاستثمار إلى الإنتاج، فعوامل العرض والطلب عندها لا تشجع قيام المشاريع الجديدة. في تلك الظروف ينخفض الإنفاق الخاص وتظهر الحاجة إلى الإنفاق العام، وهنا يصبح الاستثمار في البنى التحتية من أكثر منافذ الإنفاق جدوى، حيث يسهم الإنفاق الحكومي في أوقات الركود في تحفيز النمو من خلال السيولة الناجمة عن التمويل الاستثماري، هذا على المدى القصير، أما على المدى المتوسط والطويل فيساعد في زيادة الطاقة الاستيعابية للاقتصاد ورفع كفاءته وزيادة تنافسيته، إذ يتوقع أن يتزامن استكمال مشاريع البنية التحتية مع الوقت الذي يبدأ فيه الاقتصاد بالتعافي، فتكون الفرص مهيأة لعودة الانتعاش مجدداً بالنظر للعلاقة الطردية بين التقدم الاقتصادي وتوفر البنى التحتية الحديثة والمتطورة.
تنمية اجتماعية متصلة
إن توفر البنى التحتية الأساسية في قطاعات النقل والاتصالات والطاقة والمياه وغيرها، يعتبر عنصراً مهماً ليس فقط في مجال التنمية الاقتصادية، وإنما أيضاً في التنمية الاجتماعية وفي استراتيجية مكافحة الفقر وتحقيق العدالة الاجتماعية. ما لم تتوفر هذه البنى المتطورة فإن جهود تحقيق التنمية المستدامة ورفع معدلات النمو الاقتصادي إلى المستوى الذي يحقق ارتفاعات متتالية بمستوى الدخل، تصبح جهوداً غير مجدية. كيف يمكن للتنمية أن تنجح وللاقتصاد أن يزدهر إذا لم يتم ربط مناطق الإنتاج والتجارة والاستيراد والتصدير والسياحة، ببنية تحتية متطورة كماً وكيفاً؟ وبعيداً عن الاقتصاد، كيف يمكن تعزيز فرص بقاء الناس في بلدهم، أو عودتهم إليه، بدون تلك المقومات الحيوية الأساسية؟
لسنا بحاجة للبحث عن دليل بعيد لإثبات مصداق هذا الأمر، فالتجربة اللبنانية هي الأقرب بعد أن فوَّت لبنان فرصة ذهبية للنهوض واستعادة دوره في المنطقة، حين تمكن اقتصاده وبأعجوبة لا تفسر أن يتجنب تداعيات الأزمة ويحقق فورة عقارية ومالية ملفتة، تمثلت بارتفاع أسعار العقارات والتدفق الكثيف للودائع المصرفية، ولكن ومع غياب الخطط الحكومية المواكبة وتراجع الإنفاق الاستثماري في بناه التحتية، وأبرزها الكهرباء، تلاشت مفاعيل هذه الطفرة وتبخرت الأحلام مجدداً لتتدحرج كرة الخسائر من قطاعي الزراعة والصناعة إلى قطاع الخدمات، خصوصاً السياحة، التي عانت في العام الحالي ما لم تعانيه في أسوأ الأوضاع التي مر فيها لبنان.
وإلى البنى التحتية التقليدية، فإن التقدم يتطلب الاهتمام بالبنى الإدارية والقضائية، لكونها تمثل البيئة الضامنة لقيام الاستثمارات وتشجيعها، عبر مكافحة الفساد وقيام القضاء العادل والنزيه، وتسهيل إجراءات إنشاء الأعمال وتطويرها، إضافة لتعزيز منظومة القيم الاجتماعية والأخلاقية، ووعي الأفراد لأهمية دورهم في تنمية بلدهم وخطورة تخليهم أو تلكئهم عنه. هذا المناخ يجب أن يبدأ من أعلى أجهزة الدولة إلى آخر موظف فيها، مروراً بالمطار والموانئ والمطاعم والفنادق والتجار وسائقي الأجرة، وصولاً الى أبعد وأفقر "بويجي" في أزقة بيروت.
إن قيام الدولة بمسؤولياتها في رعاية وتنظيم الأنشطة الاقتصادية وتوفير البيئة الملائمة لعملية التنمية، سواء عبر البنى التحتية المتقدمة، أم عبر الإجراءات والسياسات والقوانين التي ترعى مصالح المواطنين وتسهم تالياً في تمكين القطاع الخاص وتفعيل دوره في الناتج المحلي وتشغيل العمالة، هو نشاط أساسي ومحوري يقع في أساس مهام الدولة الحديثة، فبهذه المهام والخطوات يمكن إعادة إطلاق عجلة الاقتصاد وزيادة موارده، وحل مشاكل الإنفاق العام والدين العام، وليس بزيادة الضرائب على المواطنين والقطاعات الإنتاجية المنهكة أصلاً، ولنا في قول الإمام علي (ع) مثالاً نقدمه على هذا البعد التنموي: "وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج، لأن ذلك لا يدرك إلاّ بالعمارة، ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد."
سليم سعيد مهنا
* ومؤلف كتاب "العمل المصرفي واستراتيجية التسويق".
تعليقات: