منذ سنوات غاب محمود وما عاد منسرحاً في ترامي القرية وجنباتها, خَلَت منه الأزقّة والحقول وافتقده رفيقاه الدائمان العشب والقشُّ , لم ندرك سرَّ تعلّقه بهما لكنّا ألفناه يقبض على القشِّ صيفا, وعلى العشب شتاء, وتلك أحجية غريبة تتجاوز حدَّ المعقول, وتضرب عمقاً في المجهول ..
مرت الأيام وتلاشت صورة محمود "المجنون", عرفنا أنَّ يداً محسنةً انتشلته من الشارع لتلقي به في المأوى, لعلّ الجسم المضنى يرتاح من وعثاء السفر, وتنتهي رحلة البحث عن الذات في دروب الضياع الطويلة !..
ذات صباح التقيت شابّاً طويل القامة, مُغبرّ الوجه رثَّ الثياب, يجول سريعاً بغير وجهة, يقبض بكفّه على قشٍّ, ويخبّئ وجهه بكنزته الممزقة, ثم يبتسم ابتسامة مبهمة!.
عرفته دونما تردّد, وقد تلبّس بعضاً من معالم الرجولة الأولى, إنّه محمود, ولكن لماذا يعود ؟
كانت الإجابة قاسيةً مُرّة, طُرد محمود من المأوى لأنّه لا يملك هوية, فأبوه من بلدٍ عربي وأمُّه من بلد عربي آخر, ورغم أنَّ " بلاد العُربِ أوطاني" فالقانون العادل يقضي بتشريده, ويحرمه حقَّ الحصول على هوية تثبت للبشر أنَّه رغم افتقاد العقل انسان!, هوية تسكنه المأوى و تدخله المشفى ! هوية ورقية تحرّض دعاة الخير للعون والمساعدة ! هوية تعيد لمحمود بعضاً من الكرامة المهدورة على أرصفة العالم المأخوذ بالعولمة المفتون بالعظمة ..
عاد محمود مجدداً لتلتهم العيون لحمه المذاب بحرِّ الشمس, وعادت الدمعة إلى خدِّ الأمِّ الممنوعة بهيبة الصكوك منح الجنسية لولدها المسكين. اللحم الحيّ وتلك الدمعة شاهدان على القسوة ودليلان على المهزلة ..
هوذا محمود أيا سادة افتضاح لإنسانيتكم الزائفة، و بصمة إدانة لذكوريتكم العتيقة !..
هنيئا لك يا محمود جنونك البريء في حضرة العقلاء .. وأراك العاقل جداً في الزمن المجنون ..
الشيخ محمد قانصو Ch.m.kanso@hotmail.com
تعليقات: