محطات خيامية.. في مسيرة هاني عسّاف النضالية

المحامي محمد الباشا
المحامي محمد الباشا


غادرت... وساحات النضال بانتظارك....

يا هاني...... يا أبا النديم

رحلت قبل أوانك.. على حين غرّة.... فتركت فراغاً من الصعب أن يملأه غيرك... فوفرة المناضلين – ولله الحمد – توحي دوماً بالتفاؤل... غير أن كرسي القيادة – عندما تشغر – تبدو معها الصورة مختلفة..

هكذا كنت يا هاني.... قيادي بامتياز.. في كافة المواقع التي تصدّيت لتحمل المسئولية فيها... وحسب معرفتي المتواضعة...

تعرّفت إليك في أواسط الستينات عندما التحقت بسلك التعليم في بلدتك الصامدة ( الخيام ).. وكنت أنا ( مع خالك الأستاذ روفائيل ) نخوض معركة مطالب المعلمين في وزارة التربية.. فانضممت إلينا على الفور.. ولا أنسى كيف كنا ننتظر انتهاء الدوام المدرسي لننطلق إلى بلدان وقرى الجوار ( نستأجر سيارة على حسابنا الخاص ) من أجل دعوة زملائنا في المدارس الرسمية للانضمام إلينا في ( الإضراب ) ودعم المطالب العادلة... وكيف كنا نتابع اللقاءات والاجتماعات في صيدا وبيروت.. وكم كانت الفرحة غامرة حين تكللت المطالب بالنجاح... ولا يفوتني – بهذه المناسبة – التذكير بجهود الزميل حليم القسيس ( الدكتور حليم : عافاه الله ).

هكذا كانت البداية... ولم تطل فترة عملك بالتدريس حيث نجحت في مباراة الدخول إلى الجامعة اللبنانية ( كلية التربية ).. ثم بدأنا نتلمس أخبارك ونضالاتك في قيادة الحركة الطلابية والتي أثمرت في قيام وتأسيس الاتحاد الوطني لطلاب الجامعة اللبنانية مع زميلك المغفور له أنور الفطايري وآخرين..

وبدوري غادرت القيام إلى بيروت لممارسة مهنة المحاماة.. وانفتحت ساحات وآفاق واسعة للنضال الشعبي.. والوطني مع دخول العمل الفدائي الفلسطيني وتداخله مع نضالات الحركة الوطنية اللبنانية..

وكنا في بيروت.. نتلاقى – كل من موقعه – في المظاهرات والتحركات سواء لدعم المطالب الوطنية أو ضد القمع الذي كانت تمارسه أجهزة السلطة آنذاك..

وإن نسيت.. فلن أنسى الواقعة المعروفة، عندما أقدم ( البيك ) بعد تسلمه وزارة التربية إلى التكيل بمعلمي الجنوب وفي طليعتهم أبناء الخيام.. كيداً وانتقاماً... فلجأوا إلى تنفيذ " الاعتصام " في الأونيسكو. وقد قمت بالمستحيل – يا هاني – من أجل توفير الدعم لهم وتسخير إمكاناتك وعلاقاتك في الجامعة اللبنانية لرفع الضير عنهم.. وأنا بدوري – من خلال منظمة الحقوقيين الديمقراطيون والتجمع الوطني للمحامين – كنت أبذل المستطاع – سيّما وأن الغالبية من المضطهدين هم رفاقي وزملائي السابقين.. وأبناء بلدتي الأبيّة : الخيام.. ورغم صخب الأحداث في تلك الفترة.. ورغم أعبائك والمهام الجسام التي كنت تضطلع بها... فإنك – يا هاني – بقيت على تواصل دائم مع بلدتك الخيام... وكم كنا نغتنم فرصة نهاية الأسبوع لنلتقي الأهل والرفاق والأصدقاء ونتدارس شئون الخيام ومشاكلها... وكيفية رفع الغبن والظلم الذي لحق بها في مواجهة الإقطاع السياسي وحاشيته.. كما أنك وفي غمرة انشغالاتك ومتابعتك للدراسة في الجامعة والنضالات المتنوعة والمتشعبة – كنت تحرص على ملاحقة ومتابعة الشئون التنموية في الخيام.. ولا أنسى، عندما كنا في مرحلة توفير الدعم " للنادي " أنك كنت في طليعة الوفد الذي سافر إلى الكويت من أجل لقاء أبناء الخيام الكرام وطلب مؤازرتهم للنادي..

ولن أنسى يا هاني.. صولاتك وجولاتك خلال فترة التحضير للانتخابات البلدية، والتي تم تأجيلها لسنوات فيما بعد.. كيف كنت هاني " اللولب " المتحرك.. وكيف كنت تعقد اللقاءات وتتابع التحركات مع كافة الفئات من " النسيج الخيامي " ورجاله الذين لهم باع وخبرة في تركيب اللوائح.. وكأني بك، وقد كسبت ثقة هؤلاء الكبار وتقديرهم... ولن ننسى لقاءاتك والإعجاب المتبادل مع " مهندسي اللوائح والتحالفات " المرحوم : أبو علي نايف حيدر.. لقد أثبتت يا هاني أنك بالفعل " رجل لكل المراحل.... " !!

بعد تخرجك من الجامعة والتحاقك بالتعليم الثانوي في المنطقة واصلت مسيرتك الخياميه والجنوبية، وعلى الأخص في قيادة النضال ضد الاقطاع وإرهاب السلطة... وكيف لي أن أنسى ذلك اليوم الذي أحضروك فيه مع رفاقك – وأنت متورم القدمين إلى بيت الأستاذ / حبيب صادق في بيروت.. لتعرضوا على الصحافة آثار التعذيب والضرب المبرح الذي تعرضتم له على أيدي الجهاز الأمني المحلي لأنكم كنتم ترفضون الخضوع لسلطة الاقطاع السياسي...

وأذكر.. أنه عندما وقفت أنا والزميل المرحوم / حسن مخزوم لندافع عنكم أمام محكمة مرجعيون.. وكان يوم السوق الشعبي كيف ترك التجار " بسطائهم " واندفعوا إلى السرايا ليستمعوا إلى المرافعة... والدفاع عن الشرفاء.

وعندما اندلعت الحرب الأهلية.. واندفعت الحركة الوطنية اللبنانية إلى جانب المقاومة الفلسطينية في الدفاع عن عروبة لبنان.. كنا جنباً إلى حنب في الخيام.. وتلك كانت تجربة رائدة فريدة حيث لعبت – يا هاني – دوراً رائد في تأسيس " اللجنة الشعبية " في الخيام والدور المتميز الذي قامت به في تأمين صمود الأهالي، وتوفير مستلزمات العيش من مواد تموينيه وخلافها.. وكيف كنا نقوم بتوزيع ( الطحين ) على البيوت ونحرص على تزويد خصومنا ( السياسيين ) قبل أهلنا وعائلاتنا.. ألم تكن تلك تجربة رائدة في العمل الوطني... وهل ننسى ما تعرض له رفيقنا... الدكتور / علي عواضه ( الذي كان يشرف على توزيع البنزين ) عندما شهروا السلاح في وجهه فوقف في وجههم بشجاعة لا مثيل لها.. أليس من الإنصاف أن نشيد بالدور الذي قامت به اللجنة في إطفاء الفتنة في الخيام من خلال اتمام المصالحة بين عائلتين كريمتين من جراء حادث عرضيّ ( غير مقصود ) نتج عنه مقتل أحد أبناء العائلتين... ولن أنسى المهمة التي أسندت إليّ ( سنداً لخبرتي القانونية ) في متابعة المشاكل والقضايا بالتعاون مع أفراد المخفر من أبناء البلدة...

لقد بذل الجميع جهودهم، ولم يوفروا وقتهم على رغم المخاطر التي كان يعدّ لها الانعزاليون ومن يدور في فلكهم، وانفتاحهم المكشوف على العدو الصهيوني... وكان همنا الرئيسي أن نثبت للناس كيف يمكن أن تكون السلطة ( في خدمة الشعب ) لو توفرت النوايا الجدّية والحقيقية لتأسيس سلطة وطنية قادرة... وعادلة..

في تلك الأيام يا هاني يتذكر الجميع أنك كنت " الشعلة المتوقدة " التي لا ينطفئ نارها... وسيارتك ( الداتسون الخضراء ) ومحرّكها ( الموتير ) يبدأ بالشغل منذ الصباح الباكر، ولا يهدأ إلا في أواخر الليل وهي تنتقل من موقع إلى موقع... ترافقك في إنجاز المسئوليات الجسيمة التي ندبت نفسك لها... ومن باب الإنصاف – هنا – أن نذكر الإنسانة الرائعة.. رفيقة دربك ( منى ).. وكم تحملت معك قساوة تلك الأيام والليالي.. من أجل أن توفر لك.. ولرفاقك الراحة والطمأنينة.. فصبراً يا ام نديم.. وأنتِ منذ البداية أخت الرجال.. وأم الرجال..

كذلك، من الإنصاف أن لا نغفل الدور البنّاء الذي قام به رفاقك ( غير الحزبيين).. وأنا منهم في تأمين صمود البلدة وأبنائها.. وإن لم تخني الذاكرة فلا أنسى دور الأصدقاء : عبد الأمير أسعد منها وشاهين القسيس ومحمد المفتي ( أبو مازن ) وسيعد الضاوي و.....

كم كنت رائعاً يا هاني.. لقد كسبت ثقة الشباب والأصدقاء وناضلتم معاً من أجل حماية الخيام.. ومن اجل فلسطين.. ومن أجل نصرة الكفاح الذي تخوضه الحركة الوطنية اللبنانية... وكانت قناعاتك بأن العمل ضمن ( الأطر الضيقة ) لا يجدي.. وكلّما توسعت الدوائر وتعانقت فهي كسب للقضية..

وللتاريخ أذكر.. فيما يخصني شخصياً فقد كنت صديقاً وقريباً من ( الشيوعيين).. وعلى قناعة بنهجهم.. إلا أنني لم أمارس العمل المنظم.. وقد زادني اقتراباً علاقتي بك.. وبالرفيق المناضل الأخ / جرجي خنفور.. وكانت الثقة قائمة ومتبادلة..

ثم أنني، اضطررت إلى مغادرة الوطن في ظروف صعبة.. وقاسية.. وكنا نتابع أخباركم.. وأخبار بلدتنا الحبيبة الخيام... ولقد هالنا ما تعرضت له بلدتنا من تدمير وخراب على أيدي الانعزاليين البرابرة الذين قاموا بذبح ونحر ( العجايز ) من رجال ونساء وإلقاء جثثهم في الشوارع... كذلك التمثيل بالجثث والتنكيل بعد القتل أمثال ( طبيب الفقراء ) ابن الخيام الأصيل : المناضل الدكتور شكر الله كرم.. ألا.... لا غفر الله لهم....

تلك المجزرة الرهيبة التي حركت الضمائر.. والتي هزّت مشاعر الفنان الكبير المناضل ( روجيه عسّاف ) فكانت مسرحية " أيام الخيام " الرائعة... والتي – وللأسف – أهملناها.. ولم يعد أحد يأتي على ذكرها هذه الأيام... وكم نحتاج إليها حتى لا تُمحَى من ذاكرتنا.... ونأخذ منها الدروس... والعبر..

تشرّد أهلنا... ودمرت البيوت... وقام البرابرة بالقضاء على معالم الحياة فيها، حتى حديد السطوح... والشبكة الصحية لم تسلم من النهب.. وصارت الخيام يباباً... والحديث يطول...

في الغربة.. لم تنقطع صلاتي بالشباب.. وكنت كلما حضرت مع عائلتي إلى لبنان أبادر على الفور للاتصال بهاني.... لتسقّط آخر المستجدات والتحليلات..

وكنت يا هاني.. قد اضطلعت بتحمل مسئولية في " النجدة الشعبية " التي كنت من كبار مؤسسيها.. وكم كنت أنتظرك والظروف لم تسمح لك بمقابلتي نظراً لانشغالاتك..

ثم كان احتلال الكويت.. والظروف القاسية التي مرّت عليّ.. وكم كنت وفيّاً يا هاني.. فوقفت إلى جانبي مع الرفيق أسعد حيدر.. في الظروف الصعبة تلك..

وتمرّ الأيام.. واتفاجأ بأنك ابتعدت ( أو أبعدت ) عن مسئوليتك في النجدة الشعبية.. وحاولت أن أقف منك على الحقيقة.. إلا أنك كنت ترفض الدخول في التفاصيل.. كما أنني لم أعد أرغب في معرفة المزيد بعدما بدأت أخبار رفاقك في الحزب تتناقلها رسائل الإعلام.. وبعد تبادل الاتهامات ونشر الغسيل والمؤتمرات الصحفية وغير ذلك.. مما يدعو إلى الأسى.. والأسف ويبعث فعلاً على القرف.. والاشمئزاز.. هذا في الوقت الذي كان العالم كله مشغولاً بأخبار المقاومة الباسلة.. والتضحيات التي تبذلها والشهداء الذين يقدمون دمهم قرابين في مواجهة الاحتلال الاسرائيلي وكنت أتابع في الصحف أخبار مؤتمرات الحزب وانتخاباته وأتفحص في الأسماء.. وأدقق فيها.. فلا أجد لك إسماً بينها يا هاني.. شو القصة ؟

ووجدت أن لا فائدة من تقصي الأخبار.. إلى أن اطلعت على " الشهادة المحدودة" التي قدمها رفيقك الاستاذ سعد الله مزرعاني في وداعك.. وتوقفت ملياً أمام قوله: إما حذراً منك.. أو تحاملاً عليك.. يا هاني...

أيها الصديق الوفي:

من خلال هذه المداخلة أردت فقط أن أضيء على جزء من نضالاتك على مستوى بلدتنا الغالية والعزيزة: الخيام.. ولم أشأ أن أدخل في دهاليز السياسة وأسباب التبادل.. فكل ما أعرفه عنك يكفيني.. ولا أرغب في التفاصيل، فهي لا تعنيني..

عرفتك " شيوعياً " مناضلاً تتقدم الصفوف.. صلباً في مواقفك.. عنيداً في الدفاع عن قناعاتك.. ودوداً في علاقاتك مع الآخرين... عملت دوماً لحزبك " وللمبادئ التي اعتنقتها... وكنت وفياً وصادقاً مع أصدقاء الحزب وحائزاً لثقتهم..

يا هاني:

عشت مناضلاً.. ورحلت مناضلاً.... تشتاق إليك ميادين النضال...

وبقينا.. أنهم لو أصغوا واستمعوا إليك جيداً لكانوا في وضعية أفضل.. وحالة مختلفة..

سلام عليك.. ونصر الله المناضلين.. المقاومين.

صديقـــك

المحامــــي / محمــــد الباشـــــا

موضوع سابق للأستاذ محمد الباشا: "ما بين الخيام وحيفا... نهج مقاومة متواصل"

موضوع أسعد رشيدي: "الخيام تُفجع برحيل إبنها المناضل هاني عسّاف"

موضوع عزت رشيدي: "هاني عسّاف.. هكذا يرحل الكبار"

موضوع: "المرحوم هاني عساف.. يوارى الثرى في بلدته الخيام..."

موضوع محمد صفاوي: "باسل وهاني.. رجلان مكافحان ومعطاءان خسرتهما الخيام"

موضوع فدوى الأمين: "رحيل الأحباب يزيد من آلامنا آلاما ومن اوجاعنا اوجاعا"

موضوع: "هانـي عســاف: خسائر مضاعفة"

موضوع سعيد الضاوي: "إلى الحبيب والصديق والرفيق...هاني عساف"

موضوع ادوار العشي: "هاني عساف.. إلى مثواه الأخير..."

نديم هاني عسّاف: "كلمة شكر إلى محبّي هاني عسّاف"

كلمة صباح أبو عباس: "الخيام تُفجع برحيل إبنها المناضل هاني عسّاف"

الأستاذ محمد الباشا: "محطات خيامية .. في مسيرة هاني عسّاف النضالية"

موضوع: "الأحد 24 ت1: تكريم هاني عساف في الخيام"

سجل التعازي بالمناضل الراحل هاني عسّاف

تعليقات: