يغسل قبراً لتوأم استشهد في يومه الأول (وائل اللادقي)

ثلاث مجازر تعرّض لها أهالي عيترون أدّت إلى استشهاد أكثر من 54 شخصاً من أبنائها وصمود 36 شخصاً فيها. من بين الصامدين الحاج ابراهيم فقيه الذي أخفى خبر استشهاد وحيده غسان كلّ ايام الحرب محافظاً على تماسكه لرعاية النساء والأطفال الذين تكفّل المحافظة عليهم

في مثل هذا اليوم من العام الماضي، استفاقت بلدة عيترون الحدودية على مجزرة هي الثانية منذ بدء الحرب، ولم يطلع صباح اليوم التالي إلا وكانت المجزرة الثالثة تودي بحياة المزيد من أبنائها.

إلى اليوم لم يستفق أهالي البلدة من صدمتهم، وحتى لو رغبوا في ذلك لن يستطيعوا، الحروق والجراح التي خلّفتها صواريخ إسرائيل الذكية في أجسادهم لا تزال تذكّرهم بآلامهم وأحزانهم على السواء.

من أين يبدأ الكلام؟ وعمّ سيتكلّمون؟

«33 يوماً بـ33 حكاية» تقول حنان فقيه، شقيقة الشهيد غسان فقيه. 33 يوماً قضتها حنان في البلدة مع 35 آخرين صمدوا حتى اللحظات الأخيرة ولم يعرفوا أن الحرب انتهت إلا مع رؤيتهم أحد أهالي البلدة داخلاً إليها على متن جرافة محاولاً فتح الطريق بعدما حوّل العدوان البلدة إلى كومة كبيرة من الركام.

قبل ذلك اليوم، مرّت أيام كثيرة بل دقائق كثيرة. كانت الدقيقة تمرّ كأنها دهر وحنان غائبة عن السمع، تلهي نفسها بالاهتمام بعشرات الأطفال من أقاربها ومن بقي في البلدة... تلهي نفسها حتى عن السؤال عمّا حلّ بشقيقها الذي غادر البلدة صباح أحد الأيام ولم تعد تسمع له صوتاً. «حتى الأخبار لم أكن أسمعها، الأخبار التي تأتي من الخارج قد توتّرني ولا تعود تسمح لي بالصمود والمواجهة» تقول.

أما والدها الحاج إبراهيم، فكان يتابع دقائق الأمور. أخفى خبر استشهاد وحيده عن الجميع وبقي يتابع مسؤولياته في الاهتمام ورعاية من بقي من أفراد عائلته معه، بالإضافة إلى عائلات ثلاثة مجاهدين أوصوه بها قبل الالتحاق بواجبهم.

عصر 18 تموز اجتمع من بقي في بلدة عيترون وتشاوروا في أمر مغادرتها، ذلك أن «إسرائيل» اعتادت هذه الطريقة في توجيه رسائلها إلى المدنيين لإخلاء القرى.

«شو رأيك يا حج؟» سأل غسان والده، فأجابه «أنا ورقة بيضا، أنتم قرروا ما تريدون أن تفعلوه، أما أنا فلن أغادر». قرار الحاج إبراهيم لم يكن وليد لحظته، البقاء في البلدة هو وسيلته في المقاومة. قرر الأهالي المغادرة، لكنهم انتظروا حتى صباح اليوم التالي. غادرت ثلاث سيارات بداية، ولحقت بها ثلاث سيارات. «كان مع غسان في سيارته زوجته لينا، والدته، وأطفاله علي وملاك ونرجس».

تروي لينا، المصابة بحروق كثيرة في مختلف أنحاء جسدها، أن الطريق إلى صور كانت صعبة بسبب الحفر التي خلّفها القصف. «كانت الطائرات الاسرائيلية تحلّق فوقنا والقصف غير بعيد منّا. لكننا كنا وضعنا «ملايات» بيضاء فوق السيارات». كانت الساعة الثامنة إلا ربعاً عندما وصل الموكب إلى طريق البازورية. تكمل لينا «قصفت الـ«إم ك» السيارة التي كانت أمامنا، التفتّ إلى زوجي أسأله ما العمل. لم أكد أنتهي حتى استهدفنا الصاروخ الثاني». صاروخ ثالث سقط على السيارة الثالثة أيضاً.

يتذكر الطفل علي أنه ركض وجدّته في أحد البساتين وصرنا ننادي من يأخذنا إلى المستشفى، أما والدته لينا فهي إلى الآن لا تعرف كيف استطاعت أن تركض بطفلتها نرجس خارج السيارة على رغم ما أصابها من حروق. تتذكر زوجها بمشهد واحد «كان نصفه في السيارة ونصفه الثاني خارجها». على رغم ذلك تهيّأ لها مراراً أنه كان يركض معها على الطريق قبل أن يبادر أصحاب البيت المجاور إلى نقل الجرحى بسيارتين إلى مستشفى نجم، «فعلى رغم القصف لم يتأخروا عن

نجدتنا».

في هذا الوقت، كان الحاج إبراهيم يحاول للمرة الثالثة الاتصال بابنه لكن لا أحد يجيب. «تأكدت 100% أن أمراً خطيراً حصل، فتحت إذاعة النور التي نقلت في موجز الأخبار أن موكباً من بلدة عيترون تعرّض للقصف فأدركت عندها أن ابني من بينهم».

أيّ ذاكرة جعلت الحاج إبراهيم يطلب سريعاً رقم هاتف شقيق صاحب السيارة الأولى في الموكب، وهو الذي لا يحفظ أرقام الهاتف: «ما إن فتح السمّاعة حتى قال لي: يا مشحّر يا حاج إبراهيم، أجبته: أعرف أني مشحّر لكن أخبرني التفاصيل».

انتبهت حنان إلى أن والدها أجرى اتصالاً نحو التاسعة صباحاً، لكنها ألهت نفسها بإعداد الطعام للأطفال الكثيرين من حولها، «لا أستطيع أن أؤكد إن كنت عرفت الخبر في حينه أو تجاهلته، لكني شعرت أن أمراً سيئاً حصل ولم أسأل عنه».

زوجها مصطفى عرف الخبر أيضاً لكنه لم يخبرها. واستمرّت الحياة في «ملجأ» الصامدين على وقع القذائف والصواريخ تنهال على البلدة مثل زخّ المطر، «كان الإسرائيليون مثل المجانين، ذات مرّة أمضوا ليلة كاملة يقصفون «ونش» كهرباء إلى أن أذابوه تماماً. ربما كانوا يعتقدونه منصة للصواريخ؟».

كثير من الإشارات كان يمكنها أن تدلّ حنـــــــــان إلى خبر استشهــــــــــــاد شقيقهـــــــــــا: «كان أبي يغادر الملجأ، يذهــــــــــب إلى البيت ويأتي حاملاً صور غسان وعائلتــــــه، يتلمّســــــــــها ويتأملها. سألته مرة، لماذا تأتي بها إلى هنا فقال إنه يريد ترتيبها في ألبـــــــــــومات». تضيـــــــــف «كنت أسمعه يقول أحياناً وهو يتأمل الصور: لوين رحت يا أبو علي وتركت لي الأولاد، لا أعرف كيف كنت أسمع هذه الجملة على الشكل الآتي: لوين رحت يا أبو علي أنت وأولادك؟».

السبب الذي دفع الحاج إبراهيم إلى إخفاء الخبر: «لم أكن أريد أن أحوّل الملجأ إلى «مندبة»، ابني استشهد صحيح، لكني كنت أمام مسؤولية كبيرة، لقد كنت شاهداً على مجزرتين وهناك عائلات استشهدت بالكامل».

يستعيد تلك اللحظات بغصّة يتغلّب عليها بما تغلّب عليها في حينه، وهو الدعاء الذي راح يكرّره «ربّي أفرغ على قلبي صبراً ورضىً بقضائك». وراح يتلو القرآن مستعيناً بالآيات الكريمة «ولا تدري نفس بأي أرض تموت»، و«بشّر الصابرين»... و«توكّلت على الله لكي نستطيع إكمال مهمتنا، فكرت أن إسرائيل قتلت الأنبياء فهل ستوفّر الناس العاديين؟».

إلى القرآن، كان صوت صواريخ المقاومة في طريقها إلى فلسطين المحتلة هو ما يرفع معنويات الصامدين. وكان الحاج إبراهيم يتابع كل ما يحصل لأنه لم يبق يوماً في البيت، «عندي أخت مسنّة بقيت في بيتها، كنت أوصل لها زوّادة، وكنت ألاحظ كيف تدمر القرية يوماً بعد يوم».

أما كيف كانوا يتدبّرون أمورهم: «سهّلت لنا إسرائيل أمراً واحداً هو أنها لم تترك باباً مقفلاً أمامنا، فقصدنا دكاكين البلدة». وتبتسم حنان وهي تتذكر كيف طلب الأطفال مرة من أمّهم (قريبتها) التي خرجت يوم الهدنة أن تشتري لهم «شيبسي» من الدكان.

ذلك اليوم لم يعرف الصامدون أن هدنة أُقرّت. خرج بعضهم من الملجأ وبدأوا يتباحثون في المغادرة. تشبّه حنان هذا اليوم بيوم القيامة، وتبكي مجدداً وهي تتذكر كيف وقفت حائرة بين شقيقتها وزوجها «كنت أمام قرار صعب، إذ كان عليّ أن أختار بين الذهاب والبقاء، كيف أترك شقيقتي وأطفالها، من سيعينها. اتخذت قراراً صعباً بأن أبقى مع الصامدين لأساعدهم».

يبتسم زوجها وهو يلاحظ انفعالها نفسه الذي شهده قبل عام، «تركت لهم سيارتي وذهبت مع آخرين، لم أكن أريد أن أتحمّل مسؤولية إخراج أحد من القرية». حاولت حنان الخروج بالسيارة لكن الركام الذي غرقت فيه البلدة ثقب خزان البنزين ودفعها إلى العودة إلى الملجأ حيث استقبلهم من كانوا بقوا بسعادة بالغة.

هكذا بقي في البلدة 36 شخصاً فقط. لم يعرفوا أن قراراً بوقف إطلاق النار اتُّخذ، وتقول حنان إنها لم تجرؤ على الخروج حتى الساعة الواحدة بعد الظهر، «دخل شاب من أبناء البلدة على جرافة، عندما رأيناه صرنا نصرخ».

في اليوم نفسه استقبلت حنان أحد أقاربها الذي بادرها بالقول: «لكم أجر يا بنات الحاج إبراهيم». سألته: «من؟».

فوجئ بأنها لا تعرف، ولاحظ من ردة فعلها أنها لن تستطيع تلقّي الخبر فتراجع عما قاله «هناك شائعات كثيرة ولا تصدقي كل ما تسمعينه من أخبار».

تقول حنان بحزن: «عاد الأمل إليّ أو ربما كنت أريد أن أتشبّث بالأمل. قلت له لا تخبر أبي شيئاً». العبارة نفسها سمعها القريب من الحاج إبراهيم الذي قال له وهو يحتضنه: «لا تخبر الصبايا الآن».

تتذكر حنان أن الشاب عاد وقبّل والدها «وكان قبّله قبل ذلك، فسألت نفسي لماذا، لكني عدت ورفضت التفكير».

ما رفضت حنان تصديقه عرفته تلك الليلة عندما عادوا إلى المنزل، قال لها والدها: «نادي الست زينب يا بيّي». عندئذ عرفت من دون أن يقول لها «ورحت أردد: دخيلـــــك يا ست زينــب».

حنان فقيه تستعيد أيام الحرب