من يخاف المقاومة؟
النفاق والتكاذب عنوانان يطغيان على التخاطب والسجال السياسي في لبنان. التقيّة تطغى والمقاصد تتناقض مع المُعلن من السياسات. ما عاد ينفع التغاضي. حلفاء سوريا في لبنان، مثلاً، يشيدون بحكمة سعد الحريري في أسبوع، ثم يسخرون من غبائه في أسبوع آخر. ووئام وهّاب يقول إن البطريرك الماروني صمام أمان للبنان، وأنه على مسافة واحدة بين كلّ الأطراف. كيف أصدر حكمه هذا وئام وهّاب؟ هل كان المصدر في بيان البطريرك نفسه عشيّة الانتخابات ــ وفي مخالفة واضحة لقانون الانتخابات، وإن فاتت زياد بارود؟ لكن ما علينا، كلام الليل يمحوه إشعار. أما صفّ الأمير مقرن، فهو بريء من اتّهام أحد في موضوع المحكمة الدوليّة. هو يريد الصفح. ووليد جنبلاط حوّل شعار «بدنا التّار، بدنا التّار، من لحّود ومن بشّار» إلى «بدنا التّار، بدنا التّار، من ميليس، ومن بلمار»
يتساءل مروان حمادة ببراءة شديدة عن سبب قلق حزب الله لأن أحداً لم يُتّهم بعد في موضوع اغتيال رفيق الحريري. نسي مروان حمادة مصدر «خبر» تكرّر في الصحافة الصفراء عن معرفة مكان تفخيخ السيّارة التي استهدفته. كذلك، نسي فريق الحريري شلال الاتهامات ضدّ سوريا على امتداد خمسة أعوام: الاتهام سياسي، وكأن الأمر هيّن بين الدول، أو مُباح. تستطيع سوريا أن تقاضي لبنان عبر محكمة العدل الدوليّة، لكن لبنان يستطيع أيضاً أن يقاضي سوريا أمام محكمة العدل. أفعالهما غير لطيفة البتّة. ويبقى المنسيّون (من الطرفيْن ـــــ السوري واللبناني) ـــــ أي العمال السوريّون الذين تعرّضوا للقتل والتعذيب والمهانة والمطاردة والإذلال والظلم على امتداد خمس سنوات. ماذا عن هؤلاء؟
وفي كل هذه المعمعة، يطلع علينا فارس سعيد على صحوة فرسه. يظنّ سعيد أنه يمكن التعويض عن غياب الشعبيّة عبر الصوت الجهوري المُبالغ فيه. ماذا يمكن أن يُقال عن فارس سعيد هذا لو أنه كان يجول ويخطب في قرية في القرن التاسع عشر؟ كانوا قد أطلقوا عليه واحداً من ألقاب القرى في ذلك العصر. فارس سعيد تولّى النيابة في حقبة ما يسمّيها هو الوصاية السوريّة. لكن ناخبيه خذلوه في
المبادرة تطالب بأن يتخلّى لبنان رسميّاً عن حقّه في الدفاع عن أرضه!
حقبة ما يسمّيها هو «الحريّة والسيادة والاستقلال». فليذكر التاريخ أن رستم غزالة يحبّ فارس سعيد أكثر بكثير من محبّة أهل بلدته له. بماذا يفكّر فارس سعيد، يا ترى؟ هل ينتظر عودة رستم غزالة إلى ريف بيروت ليعود نائباً؟ يحتاج فارس سعيد إلى اجتماعات «الأمانة العامّة» لـ14 آذار للتسلية. ماذا يفعل من دونها؟ هو يتلذّذ عندما يجعل اجتماعاتها «مفتوحة» لمواكبة التطوّرات. أوّاه، يا فارس سعيد، أوّاه. أمانة عامّة ومكاتب وبيانات أسبوعيّة يشارك في صياغتها الريّس دوري الذي لم يصل مستوى تعليمه في اللغة العربيّة إلى ما بعد الابتدائيّة. وقد هدّد سعيد من على فرسه أخيراً ـــــ ونصير الأسعد الجماهيري إلى جانبه ـــــ بـ«استنهاض الشعب اللبناني». والطريف في فارس سعيد أنه لا يتورّع عن التكلّم باسم كل الشعب اللبناني، مع أنه خسر الانتخابات مرّتيْن متواليتيْن. أي أنه يعتبر أنه يمثّل من الشعب اللبناني أكثر من كتلة حزب الله وكتلة التيار الوطني الحرّ مجتمعتيْن. لماذا وبأيّ حق؟ فقط لأنه مُنَّ على فارس سعيد بالإلهام الجماهيري وبمكاتب الأمانة العامّة. إما تحوزها وإما لا، لا ثالث في ذلك. يُسأل عن ذلك باسم السبع: فهو لصيق الجماهير في طائرة آل الحريري الخاصّة. بالمناسبة، هل تدور كاسات الشاي في اجتماعات الأمانة العامّة؟ وهل يحوز سعيد «أحلى كاسة شاي» كما يقولون في المسلسلات السوريّة التاريخيّة؟
فارس سعيد هذا أطلّ علينا مجدّداً ليحذّر من زيارة الرئيس الإيراني إلى جنوب لبنان. بوقاحة ـــــ أو أكثر بكثير ـــــ اعتبر سعيد الزيارة «استفزازاً» لإسرائيل. انتظرت إسرائيل يوماً كاملاً لتوافق على كلام سعيد ولترسل إلى لبنان تهديداً غير مبطّن بهذا المعنى. الخبثاء سيقولون إن كلام سعيد يتناغم مع كلام إسرائيل، أو أنه يصبّ في مصلحتها، أو أن سعيد يبدو عالماً بمقاصد السياسة الإسرائيليّة قبل نشرها في الصحف. ظالمٌ هذا الكلام وملؤه التجنّي. فارس سعيد لا علاقة له بإسرائيل وهو مستعدّ أن يستهلّ كلامه، الذي يعتبره الخبثاء مفيداً جدّاً لإسرائيل، بجملة «إسرائيل عدوّ» الشهيرة والتي يستعدّ سمير جعجع لأن يقولَها مرّة كل أربع سنوات. (سامي الجميّل، الأمين على تراث عائلته في الارتهان لإسرائيل، جعل من «عداء» حزبه اللفظي لإسرائيل مشروطاً، إذ أضاف جملة من الشروط التي ينتفي بموجبها العداء، وهو ينتظر ذلك على أحرّ من الجمر ـــــ كما انتظرها رفيق الحريري). فارس سعيد لا يخدم مصلحة إسرائيل ولا يتكلّم باسمها أبداً. لا، وألف لا. أما حرصه على عدم استفزاز إسرائيل، فذلك يعود إلى نفوره الشخصي من الاستفزاز، وخصوصاً إذا كان موجّهاً للعدوّ (الطريف أن البعض من أزلام الأمير مقرن وأبواقه في لبنان اعترضوا على زيارة نجاد عبر التشكيك بنتائج الانتخابات الإيرانيّة الأخيرة ـــــ والتي قد تكون تعرّضت للتلاعب على الأرجح ـــــ لأن هؤلاء معتادون على الانتخابات النيابيّة والملكيّة الحرّة في المملكة السعوديّة). فارس سعيد ورفاقه من أنصار العروبة الوهّابيّة لم يروا في زيارة جو بايدن الانتخابيّة إلى لبنان استفزازاً.
أما أن فارس سعيد لم يعتبر بعد من اجتياحات إسرائيل للبنان، وفي خرقها الجوّي لأراضيه واحتلالها لبعض قراه، وفي خطفها لأبنائه، وفي تهديداتها المتكرّرة للبنان، وفي إصرارها على منع لبنان من حق الدفاع عن نفسه، وفي نشر شبكات تجسّس وإرهاب في كل أنحاء لبنان وفي كل مؤسّساته الرسميّة والخاصّة، وفي نشرها قنابل عنقوديّة تصطاد من الأطفال في الجنوب ما تصطاد، استفزازاً للبنان، فهذا حقّه. هذا لا يعني أبداً أنه يخدم مصلحة إسرائيل. هذا تجنٍّ ما بعده تجنٍّ والقانون اللبناني يعاقب الاتهامات الباطلة، وخصوصاً إذا كانت تدخل في باب خدمة العدوّ (باستثناء سامي الجميّل الذي يفخر بخدمة حزبه التاريخّية (؟) للعدوّ). استفزاز: حتى الحروب الصليبيّة لم تكن استفزازاً عند البعض (تقول يوجيني إيلي أبو شديد في كتابها الصادر بالإنكليزيّة في عام 1948 بعنوان «30 سنة من سوريا ولبنان» إن «القلاع الصليبيّة (في لبنان) مليئة بالذكريات الرومنسيّة» (ص 11). هؤلاء هم الذين (واللواتي كي لا ننسى نايلة معوّض) رأوا في حرب إسرائيل على لبنان في 2006 استفزازاً... من حزب الله. فارس سعيد شأنه شأن العديد في لبنان، حضاري وبس. الباقي تفاصيل لا تهمّك ولا تهمّني. لكن حركة «ملتزمون» هي مثل فارس سعيد لا تستسيغ أي «استفزاز» ضد إسرائيل لأنها تريد إنهاء الحرب، بأيّ ثمن كان حتى لو استمرّ احتلال الأراضي اللبنانيّة من قبل إسرائيل، ففؤاد السنيورة طرح بديل النضال الدبلوماسي، وهناك من يهمس أن نضال السنيورة سيؤتي ثماره في عقد أو عقديْن من الزمن، وأن الأمم المتحدة ستُجبر إسرائيل على الجلاء عن الأراضي اللبنانيّة وعن أرض فلسطين الغالية كرمى لعيون السنيورة الدامعة. ألم يقل الأخير إن دموعه أفعل من الصواريخ نفسها؟
فارس سعيد نفسه (بالإضافة إلى عدد من الكتّاب والصحافيّين الذين يعمل نحو نصفهم في إعلام سعودي أو حريري) وقّع في مطلع الشهر على ما يُسمّى «مبادرة بيروت». كل يوم عريضة ومبادرة وخطاب «استنهاض». ماذا تقول المُبادرة؟ المُبادرة سمعت بالتهديدات الإسرائيليّة المُتكرّرة ضد لبنان فقرّرت أن تردّ، وهي ردّت بقوّة مُندّدة بشدّة بتهديدات... «فريق» من اللبنانيّين. والطريف أن المُبادرة تُبدي قلقاً من «أزمة السلام في المنطقة»، لكنها تلقي باللوم على بعض القوى الإقليميّة (إشارة إلى سوريا وإيران في قاموس هؤلاء «الملتزمين»). هنا، يمكن الجزم بأن المُبادرة تبرّئ إسرائيل ليس فقط في موضوع التهديد ضد لبنان، وإنما «في أزمة السلام» في المنطقة. لكن القفز من هذه الملاحظة للزعم بأن المُبادرة اللطيفة تحمي إسرائيل من النقد يدخل في باب التجنّي الذي ما بعده تجنٍّ.
المبادرة البريئة تكره الطائفيّة والعشائريّة (لكنها ترى بالتأكيد أن نموذج الحزب العائلي ـــــ الطائفي لآل الحريري مثال طوباويّ للدولية المدنيّة التي كان فؤاد السنيورة ودموعه يحدّثون عنها). والمبادرة رفضت كعادة أدبيّات من لا يجب وصفهم بعشّاق إسرائيل في لبنان (وإن كان كلامهم نسخ مُعرّبة من الكتابات الصهيونيّة عن الشرق الأوسط) تحويل لبنان إلى «ساحة». وهذا الكلام واضح في مراميه ولا يحتاج إلى شرح، إذ إنه يقصد أن إسرائيل لا تكنّ للبنان إلا المحبّة، وأن الأشرار من فلسطينيّين غرباء ومن شيعة لبنانيّين غرباء هم الذين استفزّوا إسرائيل من غير وجه حقّ، ودفعوها للقدوم إلى لبنان مُكرهة.
البند الثاني من «الشرعة» يبرز المقاصد الأساسيّة للمجموعة «الملتزمة» (ليس بالضرورة بعشق إسرائيل لأن في هذا جرماً ما بعده جرم ـــــ أو كان كذلك قبل أن يبرز أنور السادات ومقلّدوه الكُثر في الأنظمة العربيّة كلّها، من دون استثناء). فهو يُطالب ببراءة شديدة بـ«الإنصاف، في إطار المواجهة مع إسرائيل». شبع فارس سعيد ومروان حمادة وسيمون كرم ورمزي حافظ من دفع الأثمان في النضال ضدّ إسرائيل. فهؤلاء، كما هو معروف، تطوّعوا منذ نعومة أظفارهم في المواجهة ضد إسرائيل وشاركوا في كلّ المواجهات العربيّة ضد إسرائيل وشبعوا منها. «ما بقى فيهم. خلص. تعبوا الجماعة». لا يريد فارس سعيد ورفاقه الفرسان الآخرون تحمّل «أعباء الصراع المُسلّح وحدهم». هذه الأعباء أثقلت كواهلهم، وخصوصاً عندما كان سعيد ومروان حمادة وسيمون كرم ورمزي حافظ متطوّعين في قوى المقاومة لصدّ عدوان إسرائيل في عامَيْ 1978 و1982 والاجتياحات الأخرى. لو لم يشارك كل هؤلاء في تحمّل أعباء المُقاومة لما اشتكوا اليوم. وهذا ما عنوه بالإنصاف. هم يريدون الإنصاف لا أكثر بسبب ما تكبّدوه من خسائر في المال والعتاد عندما كانوا منتشرين في هضاب الجنوب اللبناني وشواطئه.
البند الثالث في الشرعة مرتبط بالثاني. فمن لا يجب أن يوصفوا بعشّاق إسرائيل طالبوا بأن يتخلّى لبنان رسميّاً عن حقّه في الدفاع عن أرضه. هم قالوا ذلك صراحة. قال هؤلاء إن «المجتمع الدولي» لا لبنان ولا الدولة التي يطالبون بها صبح مساء ـــــ هي التي يجب أن تتحمّل المسؤوليّة في «الدفاع عن لبنان». أي أن هؤلاء يطالبون بدولة حازمة وصارمة في رفضها القاطع في الدفاع عن لبنان بصورة مبدئيّة. إن الدفاع عن الوطن عبء على الدولة لا يريد هؤلاء ـــــ كدت أقول المهرّجين ـــــ أن يحمّلوه لها. هم يطالبون بدولة تستطيع أن تدمّر مخيّماً آهلاً بالسكّان، لكن على أن تتملّص من مهمة الدفاع عن الأرض. هذه مهمّة ثانويّة عندهم. هؤلاء استطابوا المواد التي كتبها الإسرائيليون في مسوّدة اتفاقيّة 17 أيّار (كان إسهام أمين الجميّل الوحيد فيها هو طأطأة الرأس). لكن الموقّعين على «مبادرة بيروت» يعودون في البند السادس للتحدّث عن حقهم في العيش في «دولة الحق» ـــــ هم لم يعنوا بذلك دولة الحق الصهيوني أبداً. لا، لم يعنوا ذلك أبداً، وإن أصرّ البعض على إطلاق صفات العمالة على خصومهم من اللبنانيّين، مع أن عدد العملاء الإسرائيليّين في لبنان لم يتجاوز المئة والأربعين فقط، ومع أن ميشال عون وتيّاره حوّلوا قضيّة العميل المُتّهم، فارس ك. إلى سجين سياسي مظلوم، ويرى حزب الله ذلك ولا ينقص من مؤازرته للتيّار. قل إنه التفاهم على التفاهم.
لكن الموقّعين، وفيهم سعيد الذي لا يستطيع أن يكمل جملة من دون الحديث المُسهب عن «المجتمع المسيحي»، لا يريدون الطائفيّة. هذا مثل ما كان بيار الجميّل الجدّ يقول إنه يؤيّد القضيّة الفلسطينيّة، فيما كان يتلقّى الأموال منذ الخمسينيات من إسرائيل لدعم حملات حزبه النازي الانتخابيّة. لكنّ سعيد ورفاقه لم ينسوا المرأة. تحظى المرأة اليوم بجملة واحدة في كل الأدبيّات السياسيّة في بلد كراهية المرأة وتحقيرها. هؤلاء الرجال (في 8 آذار وفي 14 آذار) يعيّرون بعضهم البعض بتشبيه كلامهم بـ«حكي نسوان» و«ردح النسوان»، لكنهم لا ينسون الجملة الواحدة عن إزالة التمييز ضد المرأة. هؤلاء المتحالفون مع أفظع الرجعيّات الدينيّة ومع النظام الوهّابي يريدوننا أن نصدّق إخلاصهم في موضوع تحرّر المرأة (هم لم يستعملوا كلمة تحرّر). طبعاً، البيئة مثل المرأة، تحظى بجملة واحدة. والحركة البيئيّة عند هؤلاء مُتصالحة مع رأسماليّة الحريري الوحشيّة التي تردم البحر وتفتّت الجبال وتزيل الأشجار. والأشاوس رفضوا استعمال الدِّين (في البند الثامن) «لتحقيق مآرب سياسيّة». كان على الموقّعين أن يضيفوا «باستثناء استعمال الدين لأسباب سياسيّة من قبل أمثال محمد علي الجوزو وهيئة كبار العلماء في السعوديّة والبطريركيّة المارونيّة، التي تتدخّل في السياسة أكثر من بعض الأحزاب السياسيّة اللبنانيّة.
والفهم التاريخي لهؤلاء طريف للغاية. فهم (في البند العاشر) يطالبون بـ«استعادة» الدور الريادي لـ«المشرق» حسب قولهم. أيّ دور ريادي هذا؟ هل كان ذلك في العهد العثماني وقمع السلطان عبد الحميد؟ أم أنهم يعنون بذلك حقبة الاستعمار الفرنسي والبريطاني؟ على هؤلاء أن يحزموا أمرهم ويطالبوا بعودة الاستعمار إلى وطن الأرز كي يهنأ لهم العيش. ومحاولة اصطناع الإنسانيّة من قبل فريق الاستقلال المُقترن بالاستعمار يبلغ أوجه في البند الحادي عشر عندما يطالب هؤلاء بـ«طي صفحة الماضي الأليم مع إخوتهم اللاجئين الفلسطينيّين في لبنان». وطيّ الصفحة عند هؤلاء يعني في ما يعنيه نسيان المجازر التي ارتُكِبت ضد الشعب الفلسطيني الثائر في لبنان من قبل ميليشيات طائفيّة متنوّعة ومن قبل الجيش اللبناني. وبعض الموقّعين يلفّ لفّ أحزاب شاركت في مجازر تل الزعتر وجسر الباشا. وطيّ صفحة تل الزعتر يشمل الطلب من الشعب الفلسطيني الترحيب بتدمير مخيّم نهر البارد فوق رؤوس أصحابه واعتبار العمل وطنيّاً بامتياز. يقرّر مروان حمادة وفريد مكاري (هل هناك أسمج من الأخير في كل تاريخ المجلس النيابي اللبناني، وأقلّ منه فعالية وأكثر منه رياءً في تجنّب الحقيقة مهما كانت؟) ورفاقهما بالنيابة عن الشعب الفلسطيني ما يجب أن يُغفَر وما لا يجب أن يُغفَر.
وترى الشلّة الملتزمة (بغير أمن إسرائيل وهنائها) أن اللبنانيّين خبراء في «العيش المُشترك» (لا في التقاتل المشترك والتذابح)، وبناءً عليه فهُم الأولى بصوغ رؤية جديدة للعروبة. طبعاً، لا يأتي الموقّعون بجديد في هذا الصدد باستثناء الاجترار الممجوج لعبارات مألوفة عن الديموقراطيّة والتنوّع وحقوق الإنسان. لكن البند الثاني عشر كان يجب أن يضيف ان العروبة الحضاريّة المأمولة متجسّدة في مملكة القهر الوهّابي. لكن هذا البند يختصر المُراد من كل اللغو والحشو الذي يملأ البيان المملّ. فهو يصرّ على «لا بديل من السلام إلا السلام». هذه الجملة هي دعوة رسميّة للاستسلام أمام إسرائيل ولنزع السلاح العربي
بيانات ونداءات لا تتفق إلا في اتفاقها مع مصلحة إسرائيل
والحجارة من يديه كي يُتاح لإسرائيل التوسّع وفرض النفوذ في كل المنطقة العربيّة. سيُقال من بعض الخبثاء والموتورين والموتورات إن هذا البند بحدّ ذاته يثبت عشق الموقّعين والموقّعات بإسرائيل. لكن في ذلك إجحافاً ما بعده إجحاف لأن مروان حمادة وفارس سعيد يقولان مرتيْن في السنة لا أكثر إن «إسرائيل عدوّ»، أما فريد مكاري فيقول إن إسرائيل جار. وجار فريد مكاري القريب ولا الشقيق البعيد. وهكذا يتوضّح المغزى الحقيقي ممّن يجب ألا يوصفوا بأنهم عشّاق إسرائيل في لبنان. وراء كل الكلام والبنود المتعدّدة والمُتكرّرة والتي شهدناها من قبل في أدبيّات 14 آذار وتسالي فارس سعيد الأسبوعيّة، حماية إسرائيل من مقاومة إسرائيل.
وينسى المُوقّعون أنفسهم في البند الثالث عشر. فبعدما أشبعونا كلاماً عن الدولة المدنيّة وعن عصر النهضة وعن التنوّع وعن بؤس الطائفيّة، يعرّف الموقّعون أنفسهم وأنفسهن ـــــ على طريقة قسَم جبران تويني ـــــ بأنهم منقسمون إلى مسلمين ومسيحيّين. ولكنهم يتغنّون بمثالهم في التقاتل والتذابح، وقد يدعون على طريقة رئيس الجمهوريّة (هل هو طائر، أم حطّ في أرض لبنان؟) إلى جعل لبنان مركزاً لحوار الحضارات. وباب التبّانة وبعل محسن بالإضافة إلى برج إبي حيدر ممكن أن يستضيفوا مقرّاً لحوار الحضارات على أن تتحاور الحضارات بالصواريخ والمدافع الرشّاشة. لمَ لا، ما دام موقّعو وموقّعات المبادرة عبّروا عن اعتزازهم (واعتزازهنّ) «بتجربتهم الغنيّة في ممارسة الحريّة والديموقراطيّة والعيش المُشترك». يمكن أن نزيد أن هؤلاء عبّروا أيضاً عن شدّة اعتزازهم بتجربة الحرب الأهليّة اللبنانيّة لأنها أغنت الصيغة الفريدة وأعطت العالم دروساً في التلاقح الثقافي والطائفي.
مبادرات ولقاءات ومؤتمرات في «البيال» وفي فندق الحبتور. يصدرون بيانات ونداءات لا تتفق إلا في اتفاقها مع مصلحة إسرائيل. الخوف الإسرائيلي من المقاومة بات همّاً لفريق كبير من اللبنانيّين. استطلاعات الرأي المُتفائلة لا تفيد. أظهر استطلاع للرأي في لبنان قبل اغتيال الحريري أن أكثر من ثلث اللبنانيّين يعتبر أي عمل عنفي ضد الجنود الإسرائيليّين عملاً إرهابيّاً مُداناً. إسرائيل تهدّد لبنان كل يوم، وهم يهدّدون مقاومة إسرائيل كلّ يوم. لم يحدث أن دعا وطن مُحتل إلى نزع سلاح من يقاوم المُحتل. هذه الدعوات المُتناغمة باتت أكثر من مشبوهة. الحاجة ملحّة اليوم لإدانة السلام ـــــ كل نماذج السلام. نستطيع أن نتحدّث في السلام بعد تحرير فلسطين وكل الأراضي العربيّة ودحر الصهيونيّة عن أرض فلسطيني الغالية. بانتظار ذلك، فلنرفع الصوت عالياً ضد السلام، إلا إذا أردنا تعميم نماذج سلام فيّاض ونوري المالكي وميليشيا الدحلان. أما الدعوة إلى السلام في لبنان في ظل الاحتلال، فهي دعوة إسرائيليّة وإن بألسن فينيقيّة.
* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا
(موقعه على الإنترنت:
angryarab.blogspot.com)
تعليقات: