سكنة مواسي لاجئة في صيدا منذ عام (م.ع.م)
سنة مرت وثياب زينب مواسي ما زالت في كيس النايلون. لم تسمح ابنة الأعوام الستة لأمها بترتيب أغراضها في خزانة المنزل، أو بالأحرى لم تجرؤ. لم تسعفها ذاكرتها الصغيرة على النسيان بعد.
عندما تتحدث فاطمة مواسي، الأم، يقل استغرابك لوضع زينب. الخوف نفسه ما يزال «يستلبس» فاطمة، كما تقول: «أول ضرب قواص بيطلع ببباط عيترون بصير ببيروت».
«باط» عيترون، هو مقلب الجبل الذي يفصل عيترون عن مارون الراس على الحدود مع فلسطين المحتلة من جهة و«باط» البلدة الثاني يؤدي مقلبه إلى الجليل الفلسطيني أيضاً. و«أول رصاصة» هي تلك التي سمعها أقارب فاطمة حين بدأت الحرب وقالوا لها «يللا نتوه على بيروت» ولكنها لم تقبل. و«التيه» في القاموس الجنوبي يعني النزوح.
تقول فاطمة إنها دفعت ثمناً كبيراً لبقائها في عيترون 23 يوماً من ايام الحرب. ابنتها الصغرى مريم (4 سنوات) خافت من الذهاب إلى مدرسة القرية «لا اريد اسرائيليين على الطريق» قالت لأمها التي فضلت الا ترسلها رغماً عنها، على ان تعيدها في العام الدراسي المقبل.
الصغيرة نفسها «تكسر» قلب فاطمة ايضاً: «البنت بتصير متل المجنونة لمن بتسمع صوت طيارة». أضحى للطائرة مرادف واحد لدى مريم: «الحرب».
الحرب، هي فعلاً ما عاشته فاطمة وابنتاها بعد لجوئهن إلى قبو مع عائلات أخرى من عيترون. هناك ذاقت الأم والطفلتان علقم الحياة.
لا تتعالى فاطمة على الوجع الذي تركته حرب اسرائيلية وحشية: «ما زلت افيق مذعورة في الليل ولا اصدق انني وبناتي ما زلنا أحياء»، تقول وهي تحضن صغيرتها الملتصقة بها أبداً: «ترفض البقاء مع احد غيري. تخاف من وقوع الحرب وهي بعيدة عني».
نسأل فاطمة عما فعلته لتخفيف وطأة الأثر النفسي للعدوان على بنتيها، فتجيب: «يعني كيف؟».
الدعم النفسي للفتاتين هو آخر ما تفكر به فاطمة. عليها اولا ان تؤمن لهما الدعم الغذائي هي التي مات زوجها ودمرت إسرائيل البيت الذي كانت أجرّته وقبض صاحبه تعويضه. وهي اليوم تعيش في بيت اهلها.
ليس لدى فاطمة مهنة تعتاش منها، و«بعض أهل الخير يساعدونني». ينصّب همها في هذه الايام على كيفية الخروج وابنتيها من ذكرى 23 يوماً عشنها في القبو، وهي تعجن وتقلي العجين للأطفال وتكتفي مع الكبار بـ«بل الشفاه»، ليبقوا قادرين على الكلام.
سكنة مواسي
في مكان آخر من عيترون، في اقصاها، يقع بيت الحاجة سكنة مواسي، أم محمد. تجلس عند مدخل منزلها ساندة خدها بباطن فمها. تنظر الى القرية الممتدة امامها. ما زالت متشحة بالسواد. يبدو حدادها غريباً عن نساء الجنوب اللواتي لا يتخلين عن مناديلهن البيضاء بشكل عام في العزاء. لكنها تقول: «ما بقدر البس على راسي أبيض وأبو محمد تحت التراب».
نزحت الحاجة التسعينية عن عيترون في الهدنة زوجها رفض الخروج. تركت سرفيق عمرها» الذي في عامه الثاني بعد المئة، لأنها مضطرة للبقاء مع ابنها المقعد. الزوج استشهد لاحقاً. وما زال ذنبه يلاحقها لأنها لم تتركه في كل حياتهما معاً وتركته في وقت الشدة.
تسأل أم محمد عن عدد سنين عمرها مع رفيقها. تشرد قليلاً: «يعني تربيت على يديه يمكن»، غامزة من قناة زواجها وهي «طفلة».
يبقى فراق أبو محمد نكبتها الكبرى، ومنها تتفرع نكبتها الثانية: «كان يسعفني على ابننا». لدى أم محمد ابن مقعد في الأربعين من عمره، تعاونها عليه ابنتها: «كان يسعى لتدبير حكمته».
خضع عاطف ابن أم محمد المقعد ومنذ انتهاء العدوان وحتى اليوم إلى أربع عمليات جراحية. بطاقة الإعاقة التي يحملها لم تفدهم في شيء. استدانت أم محمد على موسم دخان لم تجن منه الكثير بسبب القنابل العنقودية: «ما قدرنا زرعنا كل الحقل».
عن جنى الموسم الماضي ما زالت أم محمد تسدد. «احترقت صنادل الدخان وراح الموسم وبقيت المدفوعات»، تقول المرأة التي يساهم «أهل الخير» أيضا في بعض مصاريفها.
هناك الكثير من الحكايات التي تشبه حكايتي أم محمد وفاطمة مواسي. استشهاد رب العائلة في العديد من البيوت ترك عبئاً على سيدة المنزل لتقوم بالمهمة مضاعفة «داخل البيت وخارجه»، ولكن كيف السبيل إلى المدخول المادي؟
تدير أم محمد بنظرها من على مصطبتها في عيترون وتركز عينيها على بعض بيوتها: «لكل بيت ستره يا ابنتي والناس تعض على وجعها».
دفعت عيترون الكثير من دم أبنائها وأرزاقهم. بعض المال للتعويض لا يكفي مصروف عائلات كثيرة منذ انتهاء العدوان وحتى اليوم.
يهبط المساء والتيار الكهربائي غائب عن عيترون وأهلها. ظلام يزيد من وحشة البلدة التي لم يغادرها الغزاة إلا بعد عشرين يوماً على وقف إطلاق النار.
غروب عيترون لا يزيد أم محمد إلا حزناً: «كنت أحضّر العشاء وأقعد مع أبو حسين لنأكل معاً»، تقول وتمسح دمعة حارة تنسكب على وجنة لا توحي بأكثر من سبعين عاماً من العمر وذاكرة ما زالت في عز الشباب: «أمي بقيت تحب أبي كما لو أنها بنت عشرين» تقول خديجة ابنة أم محمد وهي تبرر حزن أمها.
واليوم عادت لتشك ورق التبغ في ارضها (عباس سلمان)
تعليقات: