« الأمر لك» في الجنوب الصور لـ : بلال قبلان
لمدة تتجاوز ثلاثين عاماً غاب الجيش، كحضور «رسمي»، عن الجنوب اللبناني. ينهي «عسكر لبنان»، خلال الصيف، العام الأول على عودته إلى الأرض المنتصرة، والجريحة.
تقلبت كثيراً صورة الجنود اللبنانيين في عيون الجنوبيين، طوال الأعوام التي سبقت انقسام وتقهقر الجيش النظامي إلى خارج القرى والبلدات الجنوبية في منتصف السبعينيات. لم تتماسك، على مدى تلك الفترة الطويلة، رؤية جامعة لحامي استقلالنا (على ما يقول النشيد المعروف) في تلك العيون. حتى في «العين الواحدة»، لم تستقر صورة واحدة.
تباينت علاقات المؤسسة العسكرية بأهالي الجنوب، على إيقاع طلعات وسقطات عنيفة، هادرة، تغيّرت وتمّوجت بألوان التحولات السياسية والأمنية العميقة التي عصفت بالبلاد، خلال مرحلة ذات دلالات كبرى في تاريخ المنطقة (راجع الكادر أدناه).
بين الأداء السياسي والعسكري الذي صبغ تولّي فؤاد شهاب، حكومة انتقالية، قبل توليه رئاسة الجمهورية، ثم انقلاب هذه السياسة جذرياً بعد الرئاسة الشهابية للجمهورية... وبين أحداث نهر البارد، المستمرة حتى اللحظة، والرامية بظلالها ـ ولو من بعيد ـ على نبض الشارع الجنوبي إزاء العسكر اللبناني الرابض في زواياه ووسط بلداته وعلى حدوده مع العدو الإسرائيلي... تبدو مهمة الإحاطة بالمزاج الجنوبي الراهن في ما يتعلق بالجيش مليئة بالتحدي، على طريقة تركيب «بازل» من آلاف القطع.
وفي الوقت نفسه، يسوقك التجوال، في بعض القرى الجنوبية اليوم، إلى انطباعات عدة ومختلفة، وأحياناً بسيطة: من تعاطف الأهالي مع الجيش وشهدائه في نهر البارد، إلى محبة من القلب وتشكيك من العقل بقدرة هذا الجيش على حماية الجنوب فعلاً بالمقارنة مع «حزب الله»، إلى الاحتفاء بعودته ممثلاً للشرعية والدولة بعدما سادت «الميليشيات» طوال أعوام مصيرية.
نبدأ...
انبعاث من رماد
من بيروت إلى الجنوب تتوالى اللوحات الإعلانية المثبتة على جانبي الطريق. ملصق جديد ضخم يقول «رمادي حياة للبنان»، وفي وسطه رسم لجناحين رماديين وارفين، يمثلان طائر الفينيق الشهير المنبعث دوماً حياً من رماده، وينبثقان عن دائرة شعار الجيش ذي الكلمات الثلاث «شرف، تضحية، وفاء».
تكسر السلسلة الترويجية العسكرية «إعلانات» تخبر المار بسيارته عن عدد جسور المشاة التي تمول إيران بناءها من بعد حرب تموز، وأخرى تعده بأن الصورة الغائمة لموقع الانفجار الذي استهدف الرئيس الشهيد الرفيق الحريري ستتضح الآن، وقد أقرت المحكمة الدولية تحت البند السابع.
تعود إلى المزاج العسكري العالي مع ملصق «تجاري» كبير، موقّع من قبل «أبو مرعي جروب»، يظهر جندياً مموهاً، بكامل عتاده، ويصوّب على هدف غير مرئي: «الله معك... كلنا معك».
«شحنة» أولية من «المفارقات»، التي لا يسبر «فذلكتها» سوى المتابع الحثيث لعقد السياسة اللبنانية الداخلية.
في أرنون «الشيعية»، يدل المختار علي غزال، إلى الموقع الشهير الذي شغله الجيش اللبناني (1960ـ1975) تحت قلعة الشقيف المطلة من تلّتها على القرية.
يشير بيده إلى ما تبقى من الدشم الحجرية المميزة والمتينة، والمغروس نصفها في الأرض: «عندما ضرب الطيران الإسرائيلي، في أوائل السبعينيات، خلّف حفراً بعمق أربعة أمتار ولم ينل من هذه الدشم التي اختبأ العسكر خلفها فلم يمت منهم أحد»، مضيفاً أن الموقع كان يضم أيضاً مدفعية ومضاداً للطيران.
بحسب غزال، فإن أرنون (حوالى أربعة آلاف نسمة)، ذات التاريخ «الأسعدي»، قدمت حوالى عشرين منتسباً إلى الجيش ومنهم 15 متقاعداً: «طبعاً نحب الجيش، لا أحد يحمي البلد غير الدولة، تماماً كما أنه لا أحد يقاتل الاحتلال كما المقاومة». المعادلة هنا تقول بحماية الجيش لـ«يوميات» القرية، فيما تعود الحماية ـ الأصل، أي من المعتدي الإسرائيلي، إلى المقاومة.
في الربيع الماضي، كان الحاجز الموجود الآن في ساحة أرنون يضم نحو عشرين عسكرياً، وملالتين. لكن الأخيرتين سُحبتا مؤخراً، وأرسل جزء كبير من الجنود إلى نهر البارد.
مقابل الحاجز نفسه تجلس مجموعة من الشبان على «سطيحة» محل مقفل وقت الظهيرة. يتحادثون ويدخنون. يعرض أحدهم العلبة الصغيرة ذات العلامة الإيرانية: «سيجارة؟». هو محمد رمال (23 عاماً) الذي أنهى المرحلة التعليمية المتوسطة ويعمل الآن «في العمار»: «نعرف الكثير من الجنود الذين يأتون إلى هنا، بعضهم من محيط النبطية، وكنا في الأصل أصحاباً نلعب وإياهم البيلياردو، بل نحن من بنى لهم هذا «الغريت»، (الغرفة الصغيرة المعهودة على الحواجز)».
يتضح، بعد دردشة متحفظة، أن محمد منضو ضمن «حزب الله» منذ عام 1997: «قبل فترة قررت التطوع في الجيش لكنهم رفضوني لأني وحيد أهلي. لم أكن أنوي ترك الحزب طبعاً، لكني فكرت في تأمين مستقبلي. الجيش أسهل. فربما أتمكن، مع بعض المساعدة، من البقاء قرب أهلي، ويمكنني أن أضع البارودة وأذهب إلى قيلولة بعد الظهر في البيت. انضباط الحزب أقوى بكثير، ولا أحد يعرف أين يصبح، لكن المدخول والتقديمات أفضل من الجيش بكثير».
ثم يستدرك محمد: «المهم أني غيّرت رأيي، ومنيح أنهم رفضوني في الجيش، فأنا في رأسي ثلاث كلمات لا غير: إيمان، جهاد، شهادة. أفضل الآن أن أموت بعزّة، لا تسأليني عن قصدي، افهميها أنت كما تريدين». أما مهدي عطية (19 عاماً ويدرس الرسم المعماري في مهنية النبطية) فيفهم إيجابية وجود الجيش في صلاحية إيقاف أي سيارة مشتبه بها، «بينما الحزب، ولو أنه لاقط المنطقة، لا يستطيع أن يفعل ذلك لأنه ليس الدولة».
كفرتبنيت قريبة. نتوقف للسؤال عن مختارها، ليتبين أننا نتحدث إليه، وقد لفتته لوحة الإيجار الخضراء على السيارة، فربط لاحقاً بينها وبين تعالي الإحساس بالأمن الذاتي في المنطقة بسبب سلسلة السيارات المفخخة في لبنان: «أتتنا مؤخراً مجموعة تقول إنها تعمل مع جمعية إيطالية غير حكومية، وتسعى إلى مساعدة الأهالي بعد حرب تموز، لكنهم جالوا على المنازل وكانت أسئلتهم من نوع: أين شباب البيت؟ مسافرون؟ إلى أين؟... بلّغنا عنهم. يعني، بلا مؤاخذة، أنتم توقفتم عندي، ولو لم تفعلوا لكنت أوقفتكم أنا».
يقول المختار حسن فقيه إن الجيش كان موجوداً في كفرتبنيت (الشيعية) قبل التحرير، بحاجزي جيش ومخابرات، وأن هناك من كفرتبنيت حوالى ثلاثمئة منتسب إلى الجيش وقوى الأمن، مع غالبية في الجيش.
بعد التحرير، صارت هناك نقطة واحدة معززة للجيش. خلال حرب تموز، انتقلوا إلى موقع يبعد حوالى خمسين متراً عن موقعهم الأول، «وكان تموينهم يصلهم من قيادتهم، وكلما مر عناصر حزب الله بالجنود سألوهم إذا كانوا بحاجة إلى شيء، العلاقات طيبة... دائما».
تنشئة وطنية، «أبو الشعر»، غرندايزر
وكما هم دائماً أبناء المؤسسة العسكرية، ما زال الحاج ابراهيم شرف الدين (كفرتبنيت) ابن «التنشئة الوطنية» التي «خضعت وزملائي لها، منذ أن انتسبت إلى الجيش عام 1958 وحتى تقاعدي عام ,1980 بل وحتى اليوم، لا نسأل عن الأديان، وننام إلى جانب بعضنا البعض باطمئنان».
ما زال بعض التاريخ طازجاً في ذهن الحاج: «كنت سائقاً في الجيش، جلت في صور والبياضة والقطاع الأوسط وبيت ياحون وبنت جبيل... أنا مرتاح لأني ظللت أخدم في الجنوب بالرغم من كل شيء، ولو لم أحصل على ترقية... عام 1975 كان مركزي في ثكنة النبطية، أنقل أولاد العسكريين الى المدارس بالبوسطة، وحكماً، لأني مسلم، صرت تابعاً للجيش العربي. أذكر أني عام 1976 دخلت عند قائد الفوج، المقدم فرح، وقلت له أن المجندين المسيحيين يهربون من الثكنات خائفين، ماذا نفعل؟ يجب أن تكون ثكنتنا نموذجية، فقال لي هذه شغلة أكبر مني ومنك، لا نستطيع أن نفعل شيئاً. عندما سقطت العيشية (قضاء جزين)، تطوعت مع 25 جندياً لحراسة دير النبطية، وشجعنا قائد الثكنة».
نستزيد ذاكرة الحاج ابراهيم: «بعد قيام الثورة الفلسطينية (أواخر الستينات) صارت الناس ترمينا بالحجارة، وتبصق علينا. لكن من معه ليرة ذهب لا يستبدلها بربع نحاس. كانت الفكرة أن الجيش ضد القضية الفلسطينية. نحن كلنا مع القضية، لكن قضيتنا أولاً، بلدنا أولا».
غير أن المقام الأول، بالنسبة إلى ابن الحاج شرف الدين، هو الارتياح إلى من يحميه: «أنا لا أرتاح سوى إلى المقاومة، لا سيما في ما يخص الأمن وبعد الكاتيوشا المجهولة التي انطلقت فجأة من العديسة باتجاه الإسرائيليين. عندما تعرف قوى الأمن طائفتك... لا أعرف... أنا لا آمن لهم. عقيدة الجيش قوية، هذا صحيح، لكن أحداً لا يقدر على ضبط الوضع مثل المقاومة».
تحضر السامع فوراً تلك اللوحة على أحد طرقات الجنوب: السيد حسن نصر الله في وقفته الخطابية المعهودة، يشير بيده إلى أعلى. اللوحة مركّبة على خلفية قاذفة صواريخ، والشعار: «رهن إشارتك».
قفزة إلى كوكبا، حيث كلام الأهالي لا يحيد عن حفاوة عارمة بـ«عودة الدولة»، وإن كان عديد الجيش «غير كاف لمحاربة إسرائيل، لكن مجرد وجوده يحمل دلالة معنوية بالنسبة إلينا».
في هذه القرية المسيحية القرميدية المنمنمة، تغري بالإصغاء حكايات جندي متقاعد آخر. كان المؤهل أول، فندي عطا الله، عام ,1967 ضمن قطاع الهندسة، وتمركز في الهرماس، على طريق مرجعيون ـ حاصبيا: «كانت الأوامر بتلغيم الطريق منعاً لتقدم القوات الإسرائيلية، لم يأتوا صوبنا، لكننا رأينا العسكر السوري قادماً من الأحراش إثر سقوط الجولان، صرنا نحولهم على المصنع. ثم جاء الفدائيون الفلسطينيون، واتفاق القاهرة. كانت أوامرنا ألا نسمح لهم باجتياز النهر (الحاصباني). جاءنا ضابط منهم، قال يريد شاياً، رفضت. قال نحن عرب مثلكم، فقلت أنا لست عبد الناصر لأعملك وحدة عربية هون، قال معي ترخيص. وهكذا أتوا خمس أو ست مرات، كانوا يتناولون الغداء عندنا، وفي الليل يخرجون لتنفيذ عمليات ضد إسرائيل».
يذكر عطا الله جيداً قائد الجبهة الذي وصل إليه من الهبارية. يذكر لقبه: «أبو الشعر»، الذي أصر على المرور، لكن «إذا ما في أوامر فلن تمر مهما حصل». عاود إصراره، «وكان مستقوي، فكذبت وقلت إن المركز ملغّم، وإني سأفجره به وبنفسي إذا حاول المرور عنوة. علمت في ما بعد أن بعض أهالي الهبارية كانوا قد تراهنوا، على مبلغ من المال، بأن فندي عطا الله سيوقف أبو الشعر. ربحوا الرهان، لكن ما طلعلي شي!»، ويزفر قهقهة. عام ,1976 التحق عطا الله بوزارة الدفاع في بيروت. كان الجيش قد رحل عن المنطقة. عادت «كتيبة كوكبا» في الثمانينات، لكنها لم تصمد أمام قصف سعد حداد لها من مرجعيون. «عندما رحل الجيش، رحلت الدولة»، يخلص عطا الله، فيما يداعب حفيده ميشال (8 أعوام).
كان ميشال قد ركّب في أرض الدار ثكنة خشبية كاملة، وسيّجها بألعابه من الجنود. نسأله عن «الشورت» المرقّط الذي يرتديه، فيقول إنه هدية عيد ميلاده، ويكمل لعبته. وإذ تنتبه الجدّة، أغنيس، إلى الكاميرا تصور حفيدها، تحثّه على زيادة الجنود الصغار لصورة أحلى: «ضع معهم غرندايزر».
أما الجدّ عطا الله، فقد تذكّر أخيراً بيتين من القصيدة التي نشرتها له مجلة «الجندي»، وفاز عنها آنذاك بجائزة قدرها 25 ليرة، عندما «كان الفدائيون وهجمت علينا إسرائيل»: «عدونا ع حدودنا لما انتشر/ فكّر بضم جنوبنا قلنا فشر/ قالوا المدرعة بتحرق حريق/ تاري بتحرق زرع ما بتحرق بشر!». تطلق العائلة هيصة فرحة.
كل مواطن خفير؟
لو كان لبلدة الخيام وجه، لقال من يراه إنه مصفر، متعب. الدمار الذي خلفته الحرب الأخيرة ما زال تقطيبة مغبرّة. 85 في المئة من البلدة، ذات الخمسة عشر ألف ناخب، شيعية، والبقية تنويعات طوائف مسيحية. قبل حرب تموز، كانت هناك حواجز طيارة للجيش، وقد باتت الآن ثابتة. أما التواجد الفعلي الوحيد للدولة في المنطقة، فكان في ثكنة مرجعيون، حيث مكثت قوى الأمن الداخلي، لا الجيش. لذلك، لم تنل قضية «شاي مرجعيون» من معزّة العسكر في النفوس هنا، لأن الفصل واضح بينهم وبين الدرك. غير أن الفصل بين قلوب ترقّ على الجنود وبين الإيمان بـ«خبطة قدمهم هدارة» يبقى متداخلاً.
تعتبر هلا وهبي أن «الجيش حرام، معترين، يحرقون القلب، لا يضايقون أحداً ويحترمون الكل... نراهم يطلعون أوتوستوب عندما يذهبون في مأذونية لأن إيجار الطريق يكسر رواتبهم».
أما أحد الجالسين في دكان المختار أحمد حسان فيقول إن «أبناء المقاومة موجودون في كل بيت، وهذا ليس سراً... المقاومة أقوى من الجيش، لكن الجيش هو المعنويات وهو الداعم أصلاً للمقاومة. ماذا تغيّر بعد انتشار الجيش؟ لا شيء».
يشرح المختار حسان القصد: «يعني المقاوم في الحرب مقاوم، تنتهي الحرب، ويعود مدنياً إلى مصلحته أو وظيفته. إذا حصل شيء، لا أحد يقدر على منع المقاومة. لكن ما تغيّر هو أن الوضع لم يعد على طريقة، اللي بيروح يروح واللي بيجي يجي. مثلاً، في الخيام الآن حوالى ستمئة عامل سوري، ومع محيط البلدة يقارب العدد الألف، أي أنهم زادوا بعد الحرب، يأتون للعمل في الزراعة والعمار. صاروا ملزمين بتسجيل أسمائهم لدى مخابرات الجيش للحصول على تصاريح مرقّمة أو تحديد شخص يكفلهم، يعني تنظيم وسهولة تعقّب إذا ما دعت الحاجة».
خارج دكان المختار ثلّة من العمال السوريين في استراحة الغداء. الاقتراب للتكلم معهم يجعل الأرض تنشق عن رجل يسأل من نكون، ويصر على رؤية بطاقة الجريدة. لباسه مدني، فمن هو؟ «أمن عام»، يجيب. لكن لا شيء في هيئته يدل على «الأمن العام». «اليقظة» أيضاً في كل بيت وزقاق.
«سيجونا بشريط!»
في القليعة المارونية، جارة الخيام، يبدو لمن يجول بين الأهالي أن كل بيت قد أخرج إما مهاجراً أو عسكرياً. كان تعداد القرية بحدود خمسة آلاف مقيم، ومنذ عام ,2001 تقلّص إلى أقل من النصف، ووجهة الراحلين أوروبا في المقام الأول، «بالإضافة إلى بضع عائلات في إسرائيل»، بحسب المختار شفيق ونا، الذي يضيف أن واقع الهجرة ازداد حدّة بعد حرب تموز، إذ بلغ سعر الفيزا، الممهدة لتقديم طلب لجوء، أربعة آلاف دولار في السوق السوداء.
يقول المختار ونا إن مداخيل أهل القليعة، «تتكل تاريخياً على أبنائها المنتسبين إلى الجيش، بالإضافة إلى أقلية من معلمي المدارس في الطيبة وحولا وزوطر (قبل عام 1975). في السنوات الخمس الأخيرة مرّقوا حوالى ثلاثين أستاذاً توزعوا على القرى المحيطة، قبل أن يتوقف التعاقد مع الدولة، والزراعة عندنا مشلولة كما هو الحال في معظم لبنان. كنا، قبل الحرب الأهلية، الخزان البشري الثاني للجيش وقوى الأمن، من بعد عكار، أي حوالى ستمئة شخص. لكن من بعد تقاعد معظم هؤلاء أو وفاتهم، ليس من القرية، ومنذ عام ,2002 أكثر من عشرين عسكرياً، بالإضافة إلى 15 دركياً على أساس التعاقد».
يعتبر ونا أن «اتفاق الطائف أوجد الحلول للجميع إلا لنا». يشرح أنه سُرّح من الجيش وقوى الأمن، ما بين العامين 2002 و,2005 أكثر من مئة شخص من القليعة، لأنهم «عملاء». يخبر أن شخصاً تم تسريحه «لأنه عندما كان في العاشرة من عمره ذهب في رحلة ترفيهية إلى إسرائيل! لجأنا إلى الكثير من المسؤولين، ودائماً يقولون لنا إن الوضع السياسي لا يسمح بفعل شيء، وأنا أتحدث عن معظم الأحزاب والمرجعيات الروحية، حتى المسيحية منها. أذكر أننا مرة شكّلنا وفداً وقصدنا الرئيس نبيه بري، كان ذلك عام 1998 أو ,1999 وقال لنا «كل من يقول لكم عملاء فهو عميل، لأنه لولاكم لما بقي جنوب». حاولوا أن يخدمونا بوظائف لكن ما عم تظبط. يا عمي أنا أرضى بمحاكمتي، لكن هل كانت هناك دولة في الـ 75 و,76 وصار معنا هيك؟».
يصادق الكلام مع أهالي القليعة على ما يورده مختارها: «لا شك أن وجود الجيش الآن مريح نفسياً، نرى سيارة درك أو جيش أو حتى سيارة مؤسسة كهرباء لبنان، فنشعر أننا في دولة لا دويلات. لكننا عملياً لا نستفيد». الجميع هنا يناشد الطبقة السياسية: «إما سووا لنا أوضاعنا، كما فعلتم لبعضكم البعض، أو سيجونا بشريط! لكن هذا الوضع لم يعد يحتمل».
«الجيش هو الوطن»
أنت الآن على الشريط الحدودي بالضبط، في كفركلا، قرب بوابة فاطمة الشهيرة. إلى يسارك «كشك» كبير بلافتة «مركز التبرعات لدعم المقاومة الإسلامية»، وإلى اليمين يتمركز الجيش اللبناني. أنت تنظر إلى فلسطين المحتلة، وخلفك محل بيع ثياب يملكه حسن برو الذي يرى أن «وجود الجيش هنا، مدعّماً بقوات اليونيفل، لم يغير كثيراً من جو الاستنفار والتوتر، خصوصاً بعد الخرق الأمني بانطلاقة صاروخ الكاتيوشا من الجنوب مؤخراً، علماً أن هذا النوع من الخروقات كان يحصل أحياناً حتى على أيام حزب الله، وتصعب السيطرة عليه».
لكن زوجته تصر: «لا أعرف، أنا كنت أشعر بالأمان أكثر على أيام الحزب». يكمل برو: «لا أخفيك، دائماً نشعر أن الكلمة الأعلى لـ«اليونيفيل»، المراكز الحساسة لهم. أيام حزب الله، كان عناصر حزب الله مدنيون، بلا ظهور مسلح، لكنهم كانوا معروفين، والإسرائيلي لا يجرؤ على الاقتراب. هلق بيزنخوا على الجيش، ومرة سحبوا السلاح، لذلك جاء «اليونيفيل» إلى هنا. والطريف أن جنود «اليونيفيل» كانوا في البداية يديرون وجوههم باتجاه الشريط، لكن منذ أن تكاثرت الأخبار عن إمكانية استهدافهم، صارت ظهورهم للشريط نفسه! القصة معقّدة».
القصة بسيطة بالنسبة إلى محمد فياض ومحمد حاوي ونايف موسى الذين يمضون فترة بعد ظهر هادئة على شرفة منزل مواجه أيضاً لبوابة فاطمة. لهم أبناء موزعون بين الجيش والدرك. يتفق فياض وحاوي على أن «الوضع الأمني قبل انتشار الجيش، وقبل حرب تموز، كان عادياً. فأمن المنطقة أصلاً مرهون بالكبار. لكن خفّ كثيراً الآن احتمال صدام أو إشكاليات تستدعي الرد».
وماذا عما كان يقال عن أن انتشار الجيش على الحدود سيكون لحماية أمن إسرائيل؟ «هذه أشياء سياسية وقرارات كبيرة لا نريد أن ندخل فيها كي لا نفسّر خطأ. المهم أننا كنا من الأول نتمنى أن يأتي الجيش إلى هنا، فيصبح أولادنا إلى جانبنا». يضيف موسى: «الجيش هو الوطن، ويا ليته يهبط الدنيا على رؤوس الإرهابيين في نهر البارد».
عادوا فذبحت الخرفان
يوم وصولنا إلى شبعا كان التالي ليوم حدوث «الإشكال» بين شبان من أنصار تياري الموالاة والمعارضة في مقهى للنراجيل. البلدة السنّية، الذائبة جدران محلاتها ومنازلها بصور الرئيس الشهيد رفيق الحريري، تبدو كالواقفة على ساق واحدة.
فعالياتها مجتمعة ومنكبّة على عقد الصلح بعدما «شدّت» القوى الأمنية عدداً من المتعاركين. من يدري ما كان ليحصل لولا تواجد الدولة الآن وهنا؟ سؤال يرد على ألسنة الكثيرين. «في كل قرية تحدث تصادمات، حزبية أو عائلية أو شخصية. لكن هذا الإشكال ليس حزبياً كما ورد في الإعلام. شباب متحمسون وحزازيات بسيطة، والأمر انتهى سريعاً بالقبلات المتبادلة»، بحسب المهندس درويش السعدي الذي يضيف أن وجود القوى الأمنية «خفف الاحتقان بلا شك، وإلا ربما كانت الأمور تأزمت أكثر شوي». يحكى كثيراً في شبعا عن الاستقبال المميز للجيش اللبناني الذي عاد إليها بعد عقود طويلة: «من أيام فتح لاند، خرج الجيش ولم يعد»، يقول السعدي، «ويوم أعاد انتشاره هنا أقيمت الاحتفالات وذبحت الخرفان»... «منذ السبعينيات ونحن محرومون من الدولة وأجهزتها، الوجود الفلسطيني في الماضي، والاحتلال الإسرائيلي... كانت مراحل عصيبة»، يقول الحاج محمد، «الجيش هو الأمن، الجيش هو الوطن، الجيش هو الذي يحمينا في نهر البارد وفي كل مكان».... «عندما انقسم الجيش في الحرب الأهلية، رأى الكل أين وصل البلد، لا عاقل ينظر إلى الوراء»، يتابع السعدي، «الناس تعلّمت من التجارب السابقة، والجميع مقتنع بجيش متماسك». مفردات من نوع «قريتنا البعيدة» و«المحرومة» تتردد مراراً في شبعا، تماماً كما «الجيش للكل»، حتى لو كان إشكال «الحزازيات البسيطة» الأخير قد اتخذ طابعاً سياسياً ـ طائفياً. «عام 2000 كان حزب الله هنا»، يقول دليلنا إلى حدود شبعا مع فلسطين المحتلة. نحن خلف الخط الأزرق مباشرة، والسهم الذي يشير إلى مزارع شبعا على مرمى حجر. هنا «عملوا ملعب رياضة»، ليكتشفوا طبيعة الأرض ويهيئوها لإحدى عمليات الأسر الشهيرة. على رأس التلة العالية والأخيرة في لبنان، من حيث نقف، مركز لكتيبة هندية عاملة ضمن «اليونيفيل». يمر بنا «جيب» للجيش، مستفسراً عن وجودنا وكاميرا التصوير. لا يكاد يبتعد لأمتار إلا ونسمع تبادل الصيحات بينه وبين الجنود الهنود في الأعالي. لقد قلقوا من منظرنا، وشددوا على الجنود اللبنانيين ألا يسمحوا لنا بالتصوير. «صار الجيش أكثر تشــــدداً من بعد أحداث نهر البارد وصواريخ الكاتيوشا، الهنود عم يعيــطوا عليهم»، يشرح الدليل. ويكمل السرد: «هنا أيضاً سقط الشهيد الأول مع فتح، الأخضر العربي». صورة «الأخ كمال شاتيلا» تصل إلى هذه الأصقاع أيضاً؟ اللافتة الموقعة من قبل «هيئة أبناء العرقوب» تقول إن «تدويل المزارع احتلال مقنع».
طريق الخروج تمر بما يعرف بـ«حي السنديانة». حاجز للجيش. تفتيش وسؤال عن البطاقات. هذا جيش لبناني، على الأرض اللبنانية، يحميها.
ميشال ( 8 اعوام) حفيد المؤهل أول فندي عطا الله، في كوكبا
تعليقات: