لغز اختفاء النحل يهدّد مصير البشرية
غاب عالم الفيزياء الالماني الاصل ألبرت اينشتاين عن العالم عام 1955، لكن اكتشافاته وافكاره الجدالية لا تزال حتى يومنا مؤثرة في الاوساط العلمية. واكثر نظرياته شيوعاً وجدالاً، هي تلك التي تقول، "اذا اختفى النحل عن وجه الارض سيبقى للبشرية اربع سنين قبل فنائها، فمن دون النحل لا يكون تلقيح، ومن دون تلقيح لا يكون نبات، ومن دون نبات لا يكون حيوان، ثم، لا انسان". تشكل نظرية اينشتاين اليوم محوراً للعديد من المؤتمرات الدولية والاقليمية ومثار جدال بين العلماء والباحثين، اذ تعاني دول العالم اجمع من انقراض او فقدان اعداد كبيرة من النحل، مما ينذر بحدوث خلل كبير على مستوى النظام البيئي والتنوّع البيولوجي. ومما يجعل المشكلة اكثر تعقيداً، هو ما يكتنف اختفاء النحل من غموض، فالعلماء يقفون حائرين امام السبب الذي ما يزال مجهولاً مما يفاقم المشكلة.
ووفق موقع "العرب اليوم" سجل عام 2007 في الولايات المتحدة الاميركية انخفاضاً في اعداد النحل بمعدل 32 في المئة. اما عام 2008 فسجل 36 في المئة، ويسجل المعدل المعتاد للاختفاء السنوي للنحل ما بين 15 و20 في المئة، فيما حذّر البرلمان الاوروبي من ظاهرة انقراض النحل، اذ ان 76 في المئة من الانتاج الغذائي و84 في المئة من انواع النباتات يعتمدان على النحل.
وعلى غرار الدول الاوروبية والولايات المتحدة الاميركية بدأ هذا الموضوع يستحوذ على اهتمام الدول والحكومات وبات يعتبر من اولوياتها. ولا يختلف الواقع اللبناني عن حال الدول الاخرى، فمربو النحل يعانون من نقصان اعدادها فخطوات وزارة الزراعة ما تزال بطيئة رغم ان المشكلة تحتاج الى ابتكار حلول سريعة. جذرية وفعّالة.
"النهار" قاربت المشكلة من خلال مناقشتها مع خبراء دوليين ومحليين على هامش "النتدى الرابع لمربي النحل في البحر المتوسط والذي انعقد متناولاً اهمية النحل ودوره في المحافظة على التنوع البيولوجي" والذي نظمه برنامج الأمم المتحدة الإنمائي آرت غولد لبنان في نقابة المهندسين في بئر حسن. فماذا في أبعاد المشكلة؟ أسبابها ونتائجها؟
يوضح رئيس منتدى مربي النحل فينشينزو باناتييري، أن "إحدى أهم المشكلات التي يتشاركها العالم اليوم هي انقراض النحل، وهي مشكلة من الصعب جدا حلها، واخطارها لا تقتصر على النحل ومربي النحل فحسب إنما على الإنسان أيضا فمن دون النحل لن يكون هناك نباتات ولا ثمار". وأكد أن "كل أنواع النحل مهمة للمحافظة على التوازن الطبيعي، وليس فقط النحل الذي ينتج العسل، والخطورة تصل إلى درجة ربط وجود هذا الكائن باستمرار البشرية"، لافتا إلى "أن التعاون على مستوى العالم بين الحكومات والمنظمات الدولية ومربي النحل على المستوى المحلي، مطمئن، إذ إن الجهود متضافرة لمواجهة المشكلة التي ظهرت منذ 15 عاما في فرنسا ولكنها أخذت تتفاقم بدءا من العام 2006، إلا أن عام 2008 كان الأكثر مأسوية". وأشار إلى أن الباحثين يدرسون الوضح بجدية "فالشكوك حول مسببات المشكلة مختلفة ولا بد من تحديدها لتوفير الحلول المناسبة".
آثار المشكلة ومسبباتها المحتملة
"يعتبر النحل العنصر الأول في حلقة التنوع البيولوجي، ومهمته مرتبطة بعملية التلقيح وإنتاج البذور، وبالتالي سيكون انقراضه مسببا لموت الأزهار والنباتات والثمر التي تنمو وتتكاثر عبر التلقيح". هكذا اختصر خوسي مانويل فرنانديز البيولوجي فيCentro de Referencia Apicoca de Andalucia في إسبانيا الوضع العام، مشيرا إلى أن "المشكلة تفاقمت في السنوات الأخيرة الماضية منذ عام 2005 مع ظهور مرض CCD – Colony Collapse Disorder الذي ضاعف المشكلة، إذ فقدنا أعدادا متزايدة من النحل وهذا مؤثر جدا كونه الوسيط الأساسي لتكاثر اعداد لا يستهان بها من النباتات والأزهار". واجهت الحكومة الإسبانية المشكلة عبر توفير الدعم "لمربي النحل وكل العاملين في هذا الحقل. والدعم نصفه من الحكومة ونصفه الآخر من الإتحاد الأوروبي الذي ساعد إسبانيا وكل الدول الأوروبية في تصحيح الخلل. والتعاون لا يقتصر فقط على الدول الاوروبية، فأوروبا تتعاون كذلك مع الولايات المتحدة الاميركية ضد المرض". اما في ما خص الوضع في افريقيا "فالحقل المتعلق بالنحالين ليس متطورا، وبالتالي لا توجد معلومات دقيقية حول الموضوع. اما في آسيا، فقد رصد الباحثون الصينيون بعض الطفيليات واعتبروها موازية لمسببات المرض".
واوضح فرنانديز، ان "سبب المشكلة غير واضح، فهناك فرضيات عديدة تقارب مصدر المرض، فبعض الباحثين يعتبرون ان مصدره هو فيروس انتشر بين النحل، ومنهم من يعتبر ان بعض الطفيليات هي التي تسببه، لذلك ما من سبب مؤكد وواضح". اما المسبب الاساسي والمؤكد فهو "حشرة صغيرة اسمها فاروا Varroa Destructor تمتص دم النحلة من ظهرها، محدثة فجوة فيها ثم تسكنها وتمتص ما تبقى من دمها الى ان تصبح النحلة عاجزة عن التحليق. وهناك فريق بحثي يقول ان المسبب هو فيروس، فيما يقول فريق آخر ان الحشرة والمرض هما المسبب، في حين يرى الفريق الثالث ان الفطريات هي المسؤولة عن المرض، وحتى اليوم ليس هناك من سبب واضح".
اما اذا كانت ذبذبات الخلوي وراء انقراض النحل، وفق ما تروج له بعض المواقع الالكترونية، قال: "هذه الفرضية منتشرة بكثرة على الانترنت، لكن من الصعب جدا اثباتها، فما من شيء يؤكد ان الذبذبات تجعل النحل يتوه عن القفير، وحتى ان هناك قفران نحل موجودة في الطبيعة وفي اماكن معزولة عن الناس، وبالتالي ما من شيء يؤكد ان ذبذبات الخلوي هي المسبب، وحتى من الصعب جدا ربطها بالمشكلة". ولدى استفسارنا عن صحة نفوق النحل لدى اختفائه من القفير، قال: "صحيح، يختفي النحل من دون اي سبب يوضح اختفاءه، انما المرض المذكور هو من أكثر العوامل المحتملة... لكننا نحاول تكثيف ابحاثنا لمعرفة السبب، وعلى مستوى اسبانيا اعددنا برنامجاً وقائيا توعوياً لمربّي النحل حتى نجعلهم يكتشفون المرض ويحددون مراحله ويتجنبون كل العوامل المؤدية الى انقراضه.
واضاف، الحل الوحيد المتوافر حاليا هو خطوة وقائية يعتمدها مربّو النحل لمنع تفشي المرض. دربناهم خلال الورش على كيفية التمييز بين النحلة المريضة وغير المريضة، وأطلعناهم على اهمية منح القفير الغذاء الكافي والصحي. ولكن لا بد من ان يهتموا بالمحافظة على عمر الملكة، لانها ان كانت ما تزال شابه، ففي امكانها ان تنجب اعدادا كبيرة من النحل، وان كان القفير قويا وكبيرا ويحصل على العناية والغذاء الجيد والكافي، فاحتمال اصابته بالمرض ضئيل جداً.
وتابع: "نظرا الى للتعاون الكبير بين مربي النحل في اسبانيا، وصلنا الى مراحلة يمكن القول ان المرض بدأ يتراجع في شكل جيد، اذ تمكنا من وقف نموه والمحافظة على النحل الموجود. والامر الوحيد الذي ادى الى تراجع المرض هو ان مربي النحل باتوا ملمين بالموضوع علميا، فالحكومة شرحت لهم كل الامور العلمية وتمكنا من الوصول معهم الى آلية لضبط المرض وحماية ما تبقى من النحل".
على مستوى لبنان
قدم رئيس اتحاد مربّي النحل في عكار العتيقة ورئيس اتحاد النحالين في تعاونية مربّي النحل في عكار، محمد الخطيب لمحة عامة عن قطاع مربي النحل، مشيرا الى ان "هناك أربع تعاونيات في عكار فيما الاتحاد موجود منذ عشر سنين ويضم 250 عضوا. وهناك نحو اربعة آلاف قفير نحل لاعضاء الاتحاد فقط. لكن هناك نحالوين غير منتسبين الى اي تعاونية، لانه لا توجد تعاونيات في مناطقهم. لكن على مستوى عكار تربطنا علاقات تعاون مع مؤسسات محلية وعالمية تعنى بتربية النحل لمعالجة المشكلة".
سألت "النهار" الخطيب عن المشكلات التي يواجهها مربّو النحل، فاشار الى مشكلة اساسية وهي "حشرة الفاروا التي تسبب اذى كبيرا، وهي منتشرة في شكل كبير، اذ انها تمتص دماء النحلة التي تموت بعد فقدانها نحو 30 او 40 في المئة من دمها. ويزيد من تفاقم المشكلة "عدم وجود ادوية في السوق مطابقة للمواصفات الاوروبية والعالمية لمكافحتها". ويقول، "كنا قد طلبنا المساعدة من وزير الزراعة حسين الحاج حسن في العام الماضي، وطالبنا بمراقبة الوزارة لماهية الدواء حتى نتمكن من مكافحة الحشرة والحفاظ على ما تبقى من النحل". ويضيف: "المبيدات والسموم الفتاكة الممنوعة عالميا مسموحة في لبنان، وهي لا تقتل فقط النحل إنما تضر بالإنسان أيضا. وقد وعدَنا الوزير بعد أن اجتمعنا به في شباط الماضي في التحرك لمكافحة الحشرة لكنها تتزايد منذ ذلك الوقت فيما أدوية مكافحة الفاروا مفقودة". ولفت إلى أن "مربي النحل لم يحصلوا من الدولة حتى اليوم إلا على الدعم الكلامي، فالحشرة موجودة في لبنان منذ 25 عاما، وعندما كانت الدولة توفر دواء "الأبيفار" كنا ننجح في مكافحتها، لكنها حجبته عن السوق منذ ثلاث سنين فيما الدواء المتوافر في السوق لا ينفع. وأمام عدم توافر الدواء وتزايد التعدي على الطبيعة تفاقمت المشكلة في شكل كبير".
وأكد الخطيب أن حديثه يصف واقع حال كل مربّي النحل في لبنان، "فعكار يمكن أن تكون نموذجا لكل لبنان، إذ خسر كل مرب للنحل في الأشهر الاربعة الأخيرة من 20 إلى 40 في المئة من النحل الذي يملكه".
وتمنى على وزير الزراعة أن يحل المشكلة "فلا مانع لدينا بشراء الدواء من جيوبنا، لكن المهم ان يكون متطابقا مع المواصفات. وأطالب الوزارة بحملات توعية لمربّي النحل لأنهم لا يدركون ماهية الادوية وطرق المعالجة". كما لفت إلى أن "تغير المناخ وارتفاع حرارة الأرض، إلى جانب الشح في هطول الأمطار والتعدي على البيئة والقضاء على الغابات، يقضي على المساحات البيئية التي يمكن للنحل أن ينمو فيها، وهذا يساهم في شكل كبير بالقضاء على هذا القطاع".
وقال: "نعمل حاليا مع مؤسسات عديدة لزرع 22 ألف شجرة عسلية ورحيقية وطبية، سنوزعها بين عكار والضنية للمحافظة على البيئة وعلى النحل وعلى حياة الإنسان. ما نقوم به هو عبارة عن مبادرة فردية اطلقت من خلال تعاون التعاونيات مع الجهات المانحة والجمعيات، لكننا نطالب كلاً من وزارة الزراعة والبيئة والصحة بضرورة التدخل للمعالجة، فإن كان هناك شوائب كما يقول الحاج حسن بين الوزارة وبعض الموظفين والسماسرة او التجار أو وكلاء الأدوية، فنحن وقعنا ضحية، وإن كنا نحن أول الضحايا فسيصل الدور الى الجميع عاجلا أم آجلا، لأن انقراض النحل سيطيح بكل شيء".
من جهته الأستاذ المحاضر في كلية الزراعة في الجامعة اللبنانية والعضو في لجنة النحل في وزارة الزراعة ردَّ على الاتهامات بأن الوزارة تعد ولا تفي قائلا انه "لا يمكن الجزم بأن لا حلول متاحة في شكل مطلق، فالنحال أو المزارع في شكل عام غير صبور ويريد أن يرى النتيجة اليوم قبل الغد. صحيح أن الوزارة معتادة على مساعدة النحالين في موضوع دعم الدواء، من خلال توزيعه كل سنة، لكن بعض المشكلات برزت منذ ثلاث سنين في ما خص المناقصة والملاحقة، فأحيانا هناك بعض العراقيل والمحسوبيات واهدار لبعض الأموال". وأضاف "حاول الوزير مع تسلمه الوزارة عام 2008 أن يصحح الخلل، ولكن المشكلات كثيرة والحل الذي ارتآه حاليا هو ان يجمد ملف الدواء إلى ان تصحح مشكلة الملف، لكن النحالين لم يكن في وسعهم الانتظار. وقد عدهم الوزير منذ أكثر من أربعة أشهر انه عندما ننهي الإحصاء نبدأ بمعالجة موضوع الدواء، والإحصاء انتهى قبل اسبوع وبات عندنا نتائج شبه نهائية، يمكننا العمل على أساسها".
وفي شأن الخطط التي تضعها الوزارة لمعالجة مسألة انقراض النحل، أوضح أن "الوزارة تعمل على التوعية والإرشاد وعلى حل ملف الأدوية، أما على مستوى التعاونيات، فهناك سعي لجمع كل مربّي النحل في تعاونيات خاصة إذ ان هناك 4 أو 5 آلاف نحال تسعى الوزارة للوصول إليهم، لكن لا يمكنها أن تخاطبهم كلهم، لذلك يمكن دمجهم بسهولة ضمن تعاونيات، مما يسهّل العمل". وأضاف "تركز الوزارة حاليا على منع استيراد الأدوية التي تضر بالنحل، كالمبيدات، وتسعى إلى وقف الإساءات وابدالها بمواد فاعلة".
وفي جوابه عن سؤالنا متى ستوقف الوزارة استيراد الأدوية السامة؟ قال: "المشكلة هي في بعض الكميات التي كانت موجودة أصلا في البلد، والقانون يحمي المستورد طالما انه استورد الدواء قبل أن يتغير القانون".
0ولفت إلى أن "لبنان ينتج سنويا ألف طن من العسل، لكن التغير المناخي وارتفاع درجات الحرارة اديا هذه السنة الى خفض هذا المعدل 60 في المئة. كانت هذه السنة مجحفة جدا لكثير من النحالين، فلم يتأثر فقط مربو النحل، إنما قفران النحل التي تناقصت اعدادها، والمشكلة تعود إلى الطقس الذي لم نعتد عليه".
وفي ما خص الأرقام التي نشرت في إحصاء الوزارة، لفت إلى أن في لبنان "160 ألف قفير وحوالي 4000 نحال، أما متوسط هذه الأرقام فهو 40 قفيراً لكل نحال، وهو رقم صغير. وأغلب النحالين اللبنانيين هواة وهذا يجعلهم عاجزين عن تطوير القفران. فانتاجية النحل لا تسمح لهم أن يصرفوا أكثر على رعاية مايملكونه من قفير نحل وعلى أساليب التربية".
ولدى استفسارنا عن السبب الذي يحول دون لجوء الوزارة إلى تنظيم حملات توعية للنحالين، قال: "ليس من الضروري أن تقوم الوزارة بكل شيء، هناك جمعيات ناشطة في الموضوع وهذا جيد. فموضوع النحل شيق بالنسبة الى الجميع، الأولاد يعرفون عنه والكبار والمثقفون أو غير المثقفين، وأعتقد ان هذه القاعدة يجب أن تشكل دافعا لدى الجمعيات لنشر التوعية والإنتقال من تربية النحل كهواية إلى امتهان تربية النحل. وهذا برأيي مؤثر جدا".
أما عن الفائدة من الإحصاء فهي وفق عبيد ضرورية "لبطاقة النحال التي أصدرتها الوزارة. زار مندوبو الوزارة كل نحال في منحله ووضعوا أرقاماً لقفرانه، كل رقم ينقسم الى أربعة أقسام، للمحافظة وللقضاء وللقرية وللنحال والقفير. ومع الإنتهاء من الإحصاء بات في امكاننا أن نحصي عدد النحالين في كل منطقة، وكل قفير أو خليه نحل وعلى هذا الأساس يمنح النحال بطاقة تخوله الحصول على تقديمات من الوزارة من بينها سيارة لنقل القفران، وأن يجري دراسات على العسل الذي ينتجه، وبالتالي في إمكانه انشاء "ماركة" خاصة به، عليها دمغة خاصة من الوزارة أو الدراسة التي أجريت على العسل المنتج".
وختم بالقول: "هناك أشجار مثمرة في لبنان لا يمكن أن تثمر في غياب النحل، لا سيما التفاح والفستق الحلبي والإجاص والليمون... إلى ذلك يعتبر النحل جزء من التنوع الحيوي في لبنان، وخصوصاً النحلة البلدية السورية التي نتميز بها. ويجب المحافظة عليها وتأصيلها في لبنان لأنها الأكثر تأقلما مع مناخه".
تعليقات: