" شهود الزور" عبارة تحتلّ صدارة التداول في السوق الإعلامي اللبناني هذه الأيام, ولا يخفى حضورها القوي في البرامج والحواريات السياسية, وبين النّاس في المتاجر والأزقّة والمقاهي, وقد بدا واضحاً أنّ لهذه القضية من الأهميّة ما يمكن معه القول إنّ مصير الحكومة ومستقبلها أو مصير البلد بات موقوفاً على حلحلة توافقية لها, ومخرجٍ مرضٍ لا يترك حزازة في نفوس المتآلفين المختلفين من زعماء هذا البلد الصغير بحجمه الكبير بهمّه, وعلى أمل أن يفضي الجدال إلى ولادة ولو قسرية لحلٍّ هذه المعضلة وتتبدد الهواجس المخيفة التي تعشعش في رؤوس المراقبين خوفاً على حاضر الوطن ومستقبله, وبانتظار نهاية توافقية لملف يُجمع اللبنانيون على تبنّيه واحتضانه وهو كشف الحقيقة وتحقيق العدالة في جريمة اغتيال الرئيس الحريري, يبقى ضرورياً التنبّه إلى الواقع الخطير الذي يُغيّب عن دائرة الاهتمام ويُحجب عن مساحة الضوء, الواقع المعاش والمعاناة الحقيقية التي يرزح المواطن اللبناني تحتها ويعاني بمفرده آثارها ونتائجها فقراً وعوزاً وبطالةً وهجرة, وما يترتّب على هذه النتائج من أعراض وانتكاسات تجعله في أعلى قائمة المستهلكين عالميّاً للمهدّئات العصبية وأدوية الاكتئاب والاختلالات النفسية ..
ولكي تكون الشهادة حقّة, وحتى لا يتحوّل المجتمع برمّته إلى شاهد زور على مأساة أبنائه فإنّ الواجب يدعو كلّ منّا إلى الإدلاء بشهادته من خلال ما يشغله من موقع ويمثّله من قيمة, فلا يجوز للنائب المنتخب من قبل الشعب مانح الصوت والثقة أن يقف موقف المتفرّج على مشاكل الناس دون العمل على معالجتها أو المبادرة إلى حلّها بما يملك من صلاحيات وإمكانيات, فإن لم يفعل فإنّه يتحوّل إلى شاهد زور ومتواطئ في جريمة ترتكب بحقّ أهله وبلده, ومن العجب العجاب ما نسمعه من ساسة يعتلون المنابر وينهالون على السلطة قدحاً وذمّا, وهم مكوّنٌ من مكوّناتها وشريكٌ أساسيّ في صناعة سياساتها.
وربما يقودنا الاحتكام إلى الحقّ لمزيد من الاعتراف أمام الذات, وحتّى لا نكون شهود زور على أنفسنا وعلى واقعنا, فالأمانة تحدونا إلى اعتماد منطق المساءلة والمحاسبة, والمسؤولية تدفع بنا إلى البوح بأنّ السياسة التي تدار بها البلد اليوم هي سياسة استخفاف بالكرامات وتخفّف من الواجبات, سياسة الهروب إلى الإمام وترك الشارع المسكين يتلهّى بعناوين كبيرة لا يتقن فكّ رموزها ولا يهتدي الخلاص من متاهاتها .
يبقى المواطن وحده في الساحة يكابد ويقاسي الوجع اليوميّ بينما تحيطه جوقة الدبّيكة على أنغام معزوفة الوعود الفارغة, ويصبح البلد مسرحاً نشازاً يختلط فيه الإيقاع الشعبي بنشاز الزور الحاكم.
وحتى لا يكون اللجوء إلى الفوضى هو المخرج من الأزمة, وكي لا يتحوّل الوطن إلى مسرح لشهود زور يفتأتون الحقّ العام ويكرّسون سياسة التنكيل بالمواطن الضعيف ويرهقونه بالضرائب والرسوم, لكي لا يتحوّل المجتمع إلى شاهد زور فيشهد بنفسه زوراً على نفسه, لكي لا يكون الطبيب شاهد زور في عيادته فيوهم مريضه بالشفاء من مرض عضال, لكي لا يكون المعلّم شاهد زور في صفّه فيبني لطلابه مدناً من الخيال, لكي لا يكون الواعظ شاهد زور على منبره فيسلك بمستمعيه سبلاً إلى الجنان, لكي لا يكون الفنّان شاهد زور بريشته فيجمّل الوجوه بمُزجة الألوان, لكي لا تكون الأمّ شاهدة زور تطهو الحصى لصغارها الجياع, لكي نكون بناة وطن يصلح مهداً لأمانيّ أبنائه, وبلسماً لجراحات متعبيه, تعالوا لنكن شهود الحقّ وجنود الحقيقة مهما غلت التضحيات ..
الشيخ محمد أسعد قانصو
Cheikh_kanso@hotmail.com
تعليقات: