عينا بشرى الدامعتان دوماً
بشرى شكر، فتاة في العقد الثاني من العمر. كانت طريحة فراش العناية الفائقة في المستشفى عندما استيقظت في أحد أيام تموز الماضي وراحت تسأل عن والدتها: «كلّما سألت أحداً عن أمي وأشقائي كان يجيبني بأنهم بخير ويخضعون للعلاج مثلي».
إلا أن الخبر ـــــ الكارثة تدحرج ككرة نار ملتهبة اخترقت جدار الصمت وصعقت أذني بشرى. يومها تلقت اتصالاً من إحدى صديقاتها تعزيّها بأهلها بعدما شاع الخبر على محطات التلفزيون. أدركت الفتاة أن مجزرة قد حصلت، واستشهدت فيها والدتها (خديجة الموسوي) وأشقاؤها: محمد (22 سنة)، بلال (18 سنة)، ياسين (12 سنة)، وطلال (14 سنة).
بقيت وحيدة مع القدر الذي الذي أدمى نظام حياتها، وغيّر نمط ثيابها من ألوان زاهية تضجّ بالأمل والحياة والسطوع، إلى السواد الذي اجتاحها من رأسها حتى أخمص قدميها.
لا تستطع بشرى أن تتحدث عن حزنها، لكن يكفي النظر إلى وجهها، وعينيها، كي ترى جفوناً أثقلها فقدان «الوالدة، الصديقة، الشقيقة، الحبيبة...». تقول في وصف ملاك رحمتها وتفيض سيول من الدموع من عينيها، تشق طريقها جارفة أي ملامح لسعادة قد تطفو ولو مؤقتاً.
تستعيد بشرى ذلك النهار المشؤوم. كانت الساعة السادسة والنصف من صباح 19 تموز 2006. استيقظت لتشرب الماء، فطلبت منها والدتها التي كانت تقاسمها السرير أن ترى ما إذا كان التيار الكهربائي قد أتى «هذا آخر ما سمعته من أمي». عادت إلى السرير وتمدّدت بجانب والدتها، «ما هي إلا لحظات حتى شعرت بأن ناراً اشتعلت في رأسي ولم أعرف ماذا حصل بعد ذلك».
الغارة كانت قد استهدفت مبنى والدها حسين محمد شكر، المغترب في كندا آنذاك، المؤلف من أربع طبقات وحوّلته إلى ركام. يروي شهود عيان كانوا لحظة وقوع المجزرة، أن الجثث تطايرت من المبنى، منها ما كان كاملاً وأخرى أشلاء. هكذا استشهدت في لحظة واحدة العائلة المؤلفة من الأم وأبنائها، إضافة إلى النازح الجنوبي علي شقير وزوجه هلا هزيمة وطفليهما. اقترب بعض أهالي المنطقة وتحسسوا الجثث فوجدوا أن الجميع استشهدوا باستثناء بشرى التي كانت أحشاؤها ظاهرة خارج جسدها. نُقلت إلى مستشفى رياق للعلاج من إصابتها الخطرة التي لا تزال تعاني منها إلى اليوم «لا أستطيع القيام ببعض الحركات، وما زلت أتألم».
تعيش بشرى اليوم بعدما دُمر منزل عائلتها، في بيت جدتها لأمها (78 سنة). لا تستطيع أن تعبّر عن مشاعرها وعن الحزن الذي يقتنص مسام قلبها وجسدها. جدتها مثلها، شديدة الحزن على فقدان ابنتها وأحفادها. لا تفارق يداها صورة والدتها الموضوعة في إطار صغير، ترافقها في كل غرفة، وحتى على الطريق تظلّ تحدثها «لأنني أحتاج إلى رفيق درب ولا أجد سوى أمي».
لا أحد يواسي بشرى بالرغم من أن الجميع يهتم بها وأقاربها يعاملونها «كطفلة». لكنها لم تجد من تطلق العنان أمامه لمشاعرها إلا المقبرة... هناك تتحدث ساعات مع والدتها وأشقائها: «أتكلم مع والدتي على تفاصيل حياتي اليومية، أشكو لها ألمي، وأخبرها عن جدتي وخالاتي ورفاقي وكل أقاربي».
«أمي هي ابنة عم سيد شهداء المقاومة الإسلامية السيد عباس الموسوي، كانت تتمنى دائماً أن يكون مصيرها كمصيره، لقد استجاب لها الله» تقول بتسليم بقضاء الله.
تمضي بشرى وقتها في غرفة الجلوس التي حولتها إلى «استوديو» للصور. تعلو الجدار الرئيسي صورة الشهيد عباس الموسوي وزوجته، فيما تحتلّ صور عائلتها بقية الجدران خصوصاً أنها طلبت من المصوّر أن يكتب عنواناً فوق الصورة الجماعية «خمسة أقمار في الجنة». صورة السيد حسن نصر الله موجودة أيضاً وهي محببة إلى قلبها. لا ترى أنها خسرت أو ظُلمت، وتتمنى أن يطعمها الله ما أطعمهم إيّاه.
تدرس بشرى (محاسبة) TS في مهنية بدنايل، لكنها لا تحب الصف لأنه يذكّرها بشقيقها بلال الذي كان يشاركها الدراسة ذاتها، لذا فإنها لا تستطيع أن تتابع أو تلتزم بالدوام الكامل ويسمح لها القيّمون بالمغادرة ساعة تشاء. ورغم ذكرياتها لم تتوقف عن الدراسة لأنها ترغب في تحقيق حلم والدتها التي كانت تحثّها دائماً على المتابعة.
تبتسم بشرى وتجري الحياة والأمل في عروقها.. وكأن شيئاً طرأ وهزّ كيانها لتفتح عينيها الذابلتين قائلة: «عندما أتزوج سوف أنجب فتاة أسميها خديجة وأربعة صبيان سأطلق عليهم أسماء أشقائي» لأنها لا تتخيل أن ديمومة لحياتها يمكنها أن تحصل بعيداً عنهم.
النبي شيت عروس الشهادة
تستقبل بلدة النبي شيت زوّارها بمقام شامخ لسيّد شهداء المقاومة الإسلامية السيّد عباس الموسوي. تشتهر بأنها «عروس الشهادة» وهي القرية التي قدّمت للبنان قادةً في المقاومة وشهداءَ حرّروا الجنوب خلال المواجهات البطولية التي خاضوها مع الاحتلال الاسرائيلي في الصفوف الأمامية.
لم تتخلّف البلدة عن تأدية دورها الذي اعتادته في الحرب الأخيرة. أسبوع كامل منذ بدء الحرب مرّ على البلدة استقبلت خلاله النازحين إليها من بيروت وبعلبك والجنوب. كانت تعدّ من القرى الهادئة البعيدة قياساً بما شهدته مدينة الشمس بعلبك من اعتداءات قلبت حياة أهلها رأساً على عقب.
لم يرضَ أهالي «النبي شيت» أن يقطن زوّارهم في المدارس، ففتح البعض منازله لهم، وقدّم آخرون شققاً كانت شاغرة. يقول رئيس بلدية البلدة عبد اللطيف الموسوي: «عندما وصل إخواننا ناشدنا أهالي القرية عبر المذياع بأن يقدموا لنا مفاتيح شققهم الشاغرة وخلال نصف ساعة وصل عدد الشقق إلى 35».
في 19 تموز وقعت المجزرة المروّعة في البلدة، فغادرها النازحون الذين كانوا لجأوا إليها بحثاً عن مكان أكثر أمناً، ونزح نحو 60% من أبناء البلدة. كانت البلدية في كامل الجهوزية تحسّباً للطوارئ، وضعت خطة لمواجهة الحرب ووفّرت كل معدات رفع الأنقاض. يؤكد الموسوي أن الطرق التي تُستهدف كان يعاد فتحها بعد نصف ساعة وتردم الحفر، إضافة إلى السرعة في نقل الجرحى إلى المستشفيات ودفن الشهداء بالتعاون مع أهل القرية. ومع ذلك «لم تتكلف البلدية طوال الحرب أكثر من ألف دولار، وذلك بفضل تعاون الأهالي في تنظيف الطرق والمساعدة في رفع الأنقاض إذ قدمت المؤسسات آلياتها من جرافات ورفوش...، و«الهيئة الصحية» كانت حاضرة دائماً لنقل الجرحى إلى المستشفيات بالتعاون مع الجهاز البلدي المتطوع لذلك».
في 23 تموز 2006 دمّرت الصواريخ الذكية حسينية النساء في الحي الشرقي، وطاول القصف منزل والد الوزير السابق فايز شكر فدمّره ونجم من ذلك استشهاد والده شهاب فايز شكر (80 عاماً). وطاردت طائرات التجسس السيارات والموتسيكلات وكانت لا تفارق سماء النبي شيت، فاستشهد حسين الموسوي في سيارته عندما أطلقت الـMK صاروخاً عليه ما بين النبي شيت وعلي النهري. ودُمّر منزل عباس محمد شكر المؤلف من أربع طبقات، ووصل عدد الوحدات السكنية التي دُمّرت كلياً في البلدة إلى 35، إضافة إلى تضرّر مئات المنازل.
تعليقات: