روى لي صديق مقيم في الولايات المتحدة ان بعض الشباب من أصول «هندية حمراء» يرتدون قمصاناً كتب عليها «الحرب على الارهاب بدأت منذ 1492»، اي انهم يريدون القول ساخرين بأن حروب الإبادة الجماعية التي تشهدها هذه الأيام دول كالعراق والصومال وفلسطين وافغانستان ولبنان وغيرها وغيرها، وتحت شعار «الحرب على الارهاب» انما بدأت في اللحظة التي وطأت فيها قدم كريستوفر كولومبوس القارة الجديدة وبدأت معها عمليات الفتك بالسكان الاصليين اي الهنود الحمر.
أتذكر هذه الرواية المضحكة... المبكية كلما ادخلت الينا شاشات التلفزة صوراً مرعبة عما يحدث في بلادنا، وعما ينتظر بلادنا ايضا من كوارث على يد عقل عنصري فاشي، تتبدل وجوهه ورموزه وافكاره، لكنه يبقى أبداً متربصاً بشعوب العالم وفي داخله شهوة الابادة الجماعية، وفي ذاكرته ذاك النجاح الاول في القارة الاميركية ذاتها قبل اكثر من 500 عام.
ويوم مجزرة العامرية الشهيرة في بغداد في شباط 1991 حين قضى، دفعة واحدة، اكثر من 500 عراقي وعراقية أكثرهم من النساء والاطفال على يد القصف الصاروخي الاميركي، كتبت في «السفير» مقالة بعنوان «لسنا هنوداً حمر ايها اليانكي»، وكنت اظن في قرارة نفسي، انني ابالغ في اصدار حكم مبني على واقعة واحدة.
لكننا اليوم، نكتشف ان مجزرة العامرية تبدو حادثاً يومياً في فلسطين، ولبنان، والصومال، وافغانستان وبشكل خاص في العراق الذي وضع المحتل في حيرة من أمره، فهذا المحتل يقتل ويشجع على القتل الجماعي، لكي يبرر بقاءه في ارض مغمورة بالنفط، وهو في الوقت مرتبك ازاء عجزه عن وقف هذه الجرائم التي ادعى أنه جاء الى العراق لتخليصه منها.
ولعله من السذاجة البالغة الظن بأن ما نراه اليوم في هذه البلدان، وما سنراه غداً في بلدان اخرى، هو مجرد نزاعات سياسية ذات ابعاد امنية، او اضطرابات عنفية بغلافات اثنية، بل هو قرار ينطوي ـ كما يحب دائما صديقنا الدكتور منير العكش ان يؤكد في دراساته ومقالاته المهمة ـ على رغبة دائمة بتجديد ما جرى للسكان الاصليين في القارة الاميركية.
انه بكل بساطة، المبدأ القائل: اذا اردت ان تتخلص من قضية تلاحقك، او من حقوق تطاردك، فما عليك الا التخلص من اهل القضية انفسهم، ومن اصحاب الحقوق بالذات، ومن هنا تتحول الابادة من وسيلة الى غاية، ومن اداة الى هدف، ومن استثناء الى قاعدة.
وأسوأ ما في هذا الأمر حين يصدق بعض اهل القضية واصحاب الحقوق أكاذيب الجلادين الجدد، فيعقدون معهم الاتفاقات متجاهلين ان تاريخ ابادة الهنود الحمر في اميركا هو ذاته تاريخ المئات من الاتفاقات المعقودة بين زعمائهم والقتلة القادمين من خلف الاطلسي حيث تقوم غزوة دامية فاتفاقية على وقف اطلاق النار لتقوم الغزوة الثانية بعد حين وهكذا دواليك، فيما يتخلل الهدنات (جمع هدنة) الصغيرة حروب جرثومية (نعم جرثومية) تنشر الأوبئة والامراض في الشعوب المنكوبة.
الجديد في أيامنا هذه دون شك وجود «أمم متحدة» وعلى رأسها «مجلس الامن» بدوله الدائمة العضوية والذي أخذ على عاتقه في السنوات الاخيرة تنظيم حروب الابادة هذه، وترتيب اولوياتها، وصياغة اجنداتها بحيث لا تتضارب مع بعضها البعض، بل وايجاد المسوغات القانونية والشرعية والاخلاقية لهذه الحروب.
ويتساءل المراقب الموضوعي وهو يرى مجلس الامن يخصص معظم جلساته، ومعظم قراراته، ومعظم بياناته الرئاسية للقضايا العربية والاسلامية فما ان يفرغ من لبنان حتى يتوجه نحو السودان، وما يكاد يصدر قرارا حول السودان حتى ينصرف الى سوريا وايران، وطبعا لا ينسى العراق الذي حاول مرة بفضل شيراك «القديم» ان يوقف الحرب عليه، فاذا ما شنت واشنطن حربها واحتلت بغداد، سقطت تلك الممانعة الموقتة لتكرس القرارات الدولية المتتالية بعد ذاك احتلال بغداد، ولتطلق واحدة من اكبر كذبات العصر وهي تسمية قوات الاحتلال الاميركية بقوات متعددة الجنسية، وتسمية حكومة المنطقة الخضراء بالحكومة مالكة السيادة والاستقلال والحرية.
أليس لمجلس الامن من هم سوى هذه المنطقة من العالم؟ وهل يتحقق «ضمان الامن والاستقرار» في العالم، وهي بالمناسبة مهمة مجلس الامن الرئيسية، عبر الامتناع لأكثر من 33 يوماً عن اصدار قرار بوقف النار (استبدل بقرار وقف العمليات العسكرية)، وهل يكون ضمان هذا الأمن والاستقرار بتغطية التدخل الخارجي في السودان، وبتشجيع الاحتلال الاثيوبي في الصومال، وفي التلويح بسياسة العصا والجزرة ضد سوريا وايران، وفي الصمت المطبق عما يدور في العراق من مجازر وانتهاكات حركت مبادرات الكونغرس الاميركي ولكنها تحرك آليات مجلس الأمن الذي لم يكتف بلعب دور المؤسسات الدستورية في لبنان، بل أصرّ أيضاً ان يحتل هضبة الكابيتول في واشنطن ليحل مكان المشرعين فيها من نواب وشيوخ؟
ومما يزيد الطين بلة، ان احداً لا يستطيع ان يعترض على قرارات مجلس الامن والشرعية الدولية حتى ولو كانت مخالفة بوضوح لميثاق الامم المتحدة، ولشرعة حقوق الانسان وللقانون الدولي، والقانون الدولي الانساني.
ان دولة من الدول دائمة العضوية تستطيع بحق الفيتو الذي تملكه ان تعطل اي قرار في مجلس الأمن (وهذا ما يفعله الفيتو الاميركي حين يكون القرار لغير مصلحة الكيان الصهيوني) فيما كل دول العالم الاخرى في مجلس الامن او الأمم المتحدة لا تستطيع منع قرار تريد واشنطن صدوره، وهي الأدرى بعقد الصفقات الصغرى والكبرى، مع الدول صاحبة الشأن بهذا الخصوص...
في عالم تصبح حروب الابادة حادثا يوميا ولا تتحرك قوة قادرة لوقفها، وفي مجتمع دولي بات مرتهنا للادارة المنظمة اصلاً لكل حروب الابادة تلك، أليس من الطبيعي ان تتسع بيئة التطرف والعنف التي لم تعد محصورة في هذه المنطقة من العالم، بل بدأت تغزو المجتمع الاميركي بالذات الذي لا تقود حروب ادارته في الخارج الا الى تغذية ثقافة العنف وعبادة القوة منذ مجزرة جامعة اوستن في شيكاغو عام 1966 (في اوج حرب فيتنام) الى مجزرة جامعة فيرجينيا للتكنولوجيا (في عز الحرب الاميركية على العراق)؟
وحين يقف رئيس الولايات المتحدة الاميركية متباهياً انه قادر على فعل اي شيء يريد، وفي اي مكان يختار، لأنه يملك آلة متفوقة للقتل الجماعي والتدمير المنهجي، ألا يحق لمواطن كوري الاصل جذبه الحلم الاميركي لتحوله عبادة العنف الى كابوس؟
تعليقات: