بعض ما خلّفه الإسرائيليون في أحد منازل مارون الراس (بلال جاويش)
تجاوزت حرب تمّوز بنتائجها الحدود اللبنانية والإسرائيلية لتطرح أسئلة عن استعداد واشنطن نفسها لتقبّل الدروس الجيوسياسية للحرب، وخصوصاً أنّ حلفاء الإدارة الأميركية في المنطقة أو ما يسمّى «المعتدلين العرب» خسروا رهانهم على قدرة إسرائيل على تحجيم حزب الله ومنطق المقاومة. حدث ذلك في وقت يبدو من المستحيل فيه تخلّي إيران عن برنامجها النووي بعدما حقّق الحزب المقرّب منها «أوّل انتصار» عربيّ على إسرائيل
أنصار إسرائيل في واشنطن «قلقون»: عليها أن تبقى «مصلحة استراتيجيّة»
«لا شك في أن من نتائج حرب لبنان تضاؤل احتمال شن أي هجوم على إيران، فالمحافظون الجدد في واشنطن يدعون بشراسة إلى قلب نظام الحكم في طهران بالقوة، لكن لا إسرائيل ولا أميركا تملكان الجرأة على ذلك. ربما كانت إيران، قبل حرب لبنان، قد شككت في الحكمة من امتلاك السلاح النووي. لكنها اليوم ستسعى حثيثاً للحصول على هذه القدرة الردعية، ومن الصعب أن نتصور، بعد حرب لبنان، كيف يمكن أن يوقف برنامج إيران النووي أو يلغى، ومن يجرؤ على ذلك؟»؛ بهذه الخلاصة خرج الكاتب البريطاني باتريك سيل بعد أربعة أيام من انتهاء الحرب.
في المقلب الآخر لصراع الإرادات في الشرق الأوسط، تغرق الطبقة السياسة والعسكرية الإسرائيلية في البحث عن كبش فداء لحرب مست بعمق قوة الردع.
فكم تستمر الهدنة الحالية؟ وهل واشنطن وتل أبيب مستعدّتان لتقبل الدروس الجيوسياسية لحرب تموز؟ وما هو مصير المعتدلين العرب الذين خسروا رهانهم على سقوط «المغامرين»، إلى درجة أصبح معها استمرارهم في الحكم رهن الحرب الباردة بين طهران وواشنطن؟
الردع الإسرائيلي المهتز
«تعتقد إسرائيل أنها خسرت قوة ردعها، وهي تحتاج إلى سنوات طويلة من أجل إعادة بناء قدراتها العسكرية والاستخبارية». بهذه العبارة لخص معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي (جافي سابقاً) تقديره الاستراتيجي الذي صدر في أيلول 2006، تحت عنوان «حماقات استراتيجية».
اهتزاز صورة الردع الإسرائيلي شكل محوراً أساسياً في تقرير لجنة فينوغراد التي كُلفت التحقيق في نتائج الحرب، والتي خرجت بتوصيات ومعطيات تشير بوضوح إلى حجم الضرر الذي أصاب إسرائيل جراء الفشل في تحقيق أهداف «غير واضحة» بالأصل.
وبحسب «الإيكونوميست»، كانت حرب تموز «الحرب الأولى التي تخسرها إسرائيل منذ عام 1948»، وقد أفرز هذا الواقع تبدّلات كثيرة على صعيد «الإدراكات الحسيّة» في المنطقة والعالم حيث «خسرت إسرائيل سمعتها العسكرية».
كذلك، طرح خوض الجيش الإسرائيلي حربين على جبهتين في آن (ضد لبنان وضد الفلسطينيّين) أسئلة من نوع «وجودي» عن أهداف الاستراتيجية الإسرائيلية، وخطط الأمن القومي في تل أبيب. فبعد ستّ سنوات من خروجها من لبنان، وأقلّ من سنة على إخلاء المستوطنات في غزّة وبعض أنحاء الضفّة، لم تستطع الخطوط الدولية «الملوّنة» ولا السياج الأمني توفير الأمن لإسرائيل، بل أسهمت سياسة تل أبيب مع جيرانها العرب في دفن عملية السلام وتعزيز دور «المنظمات الإرهابية» كحماس وحزب الله.
من ناحية سياسية، يرى المنتدى البريطاني للنزاعات أن «انتصار حزب الله أضعف بشكل خطير الحكومة الإسرائيلية». وقد ظهرت آثار هذا الضعف في حملة الاستقالات داخل المؤسسة العسكرية على خلفية التحقيق في نتائج الحرب، كما في نتائج استطلاعات الرأي التي تشير إلى انعدام ثقة الإسرائيليين بالطبقة السياسية؛ فوصلت نسبة التأييد لرئيس الوزراء إيهود أولمرت إلى ما يقارب ثلاثة في المئة.
من منظور إقليمي، قدم رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت هدية مجانية لحزب الله «حين تبنى منطق الرئيس الأميركي جورج بوش في حديثه عن الحرب على الإرهاب بإشارته إلى خطر حزب الله في كونه جزءاً من محور الشر». وقد فسر معهد واشنطن منطق أولمرت بأنه دافع للجمع «بين الجماعات الإسلامية التي تريد المشاركة في العمليات السياسية في بلادها والتكفيريين والسلفيين».
وبالفعل ظهرت تداعيات هذا الأمر، في كلام الرجل الثاني في تنظيم القاعدة أيمن الظواهري، بعد الحرب، عند انتقاده للقرار الدولي الرقم 1701 واعتباره القوات الدولية في جنوب لبنان «قوات صليبية» ودعوته «إخوة الجهاد في لبنان» إلى إخراجهم من البلاد.
على صعيد آخر، كسرت الحرب حاجزاً كان قبل الثاني عشر من تموز 2006 من المحرمات في الإدارة الأميركية، بالحديث عن المصلحة الأميركية في العلاقة مع إسرائيل.
وهكذا كان مارتن كرامر، مدير معهد «موشي دايان لدراسات الشرق الأوسط وأفريقيا» التابع لجامعة تل أبيب والباحث في معهد «شاليم» للدراسات الدولية والشرق أوسطية في القدس المحتلة، أول من تجاوز الخط الأحمر بتطرقه إلى جوهر العلاقة الأميركية ـــــ الإسرائيلية في ضوء نتائج الحرب.
ويفتح كرامر، الأستاذ في جامعات شيكاغو وكورنيل وجورج تاون، باب النقاش على مصراعيه، محدثاً عاصفة شبيهة بتلك التي خلّفتها دراسة «هارفارد» عن اللوبي الإسرائيلي وتأثيره على السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأميركية.
وبعد اعترافه ضمناً بنجاح استراتيجية «مقاومة حزب الله الذي تفوق على نفسه وأحرج زبائن الولايات المتحدة من العرب الذين وقعوا اتفاقيات سلام للحفاظ على أراضيهم»، يجزم كرامر بأن على إسرائيل «أن تربح الحروب كي تبقى مصلحة استراتيجية» بالنسبة إلى الولايات المتحدة.
الدراسة التي نشرها معهد واشنطن بتاريخ 22 تشرين الثاني 2006 تحت عنوان «إسرائيل مصلحة أميركية كاملة» ترى صراحة أن «أداء إسرائيل، الذي افتقر إلى البريق في معركتها الأخيرة مع حزب الله، ترك العديد من المعجبين بها في واشنطن في حالة من اليأس والقلق»، محذراً من أنه «لا يقدر أي لوبي، مهما كان مؤثّراً، على الحد من الأضرار إذا ما استنتجت الولايات المتحدة أن إسرائيل تعاني ضعفاً دائماً وهيكلياً».
مكاسب إيران
لطالما ركزت مراكز الدراسات الأميركية والأوروبية والإسرائيلية على تعداد أوراق إيران الاستراتيجية إذا ما قرر الرئيس الأميركي جورج بوش شن حرب «وقائية» أخرى أو توجيه ضربة محدودة لمواقع الأنشطة النووية المشبوهة. وكان حزب الله يأتي دائماً في قائمة خيارات الرد الإيراني.
أثبتت الحرب على حزب الله أن المؤسسة العسكرية الإسرائيلية ستكون مشغولة بما يكفي بالجبهة الشمالية، وبالتالي فإن الآمال الأميركية المعقودة على إسرائيل، لحظة الحرب على إيران، ستصطدم بواقع مفروض.
صحيح أن قيادة حزب الله شددت مراراً على أنها لن تخوض حرباً من أجل «الملف النووي الإيراني»، لكن ذلك لا يعني ضمانة كافية بالنسبة إلى إسرائيل؛ لعلّ هذا ما يفسر الاهتمام الغربي بإعلان رئيس منظمة مؤتمر دعم القدس الشيخ علي محتشمي، إبان الحرب، قدرة الحزب على ضرب أي مكان في إسرائيل بصواريخ يصل مداها إلى 250 كيلومتراً.
في كل الأحوال، إذا ما تجنبنا الخوض في الدلالات الدينية في الخطاب الرسمي للجمهورية الإسلامية منذ وصول محمود أحمدي نجاد إلى السلطة، فإن صواريخ حزب الله بقيت ضمن قائمة الفرضيات التي وضعتها مراكز الدراسات عند الحديث عن الدفاعات الإيرانية.
لقد كرست إسرائيل نفسها خطوط الدفاع الأولى عن إيران في لبنان والعراق بعد حربها على حزب الله.
حالياً تجد طهران نفسها في موقع تفاوضي أقوى في ما يخص ملفها النووي، بعد أن تساوى خيارا الحرب والتسوية في التعامل مع طهران.
من جهة ثانية، يشير مارتن كرامر إلى نقطة قوة إضافية لدى طهران التي «تستطيع ملء خزائنها بإثارة أزمة نووية من دون حتى الحاجة إلى اجتياح أي بلد أو استخدام سلاح نووي. فإيران تحصل على أكثر من ثمانين في المئة من موازنتها من مردود عائداتها النفطية. وكل ارتفاع بقيمة دولار واحد لبرميل النفط سيعني زيادة مليار دولار على الخزانة الإيرانية. من شأن إيران نووية إثارة الأعصاب برفع سعر البرميل الواحد إلى مئة دولار».
ومن مكاسب الجمهورية الإسلامية بعد الحرب؛ فشل نظرية أن «الهجوم على حزب الله هو تجربة للهجوم على إيران».
وبالتالي حدّت التجربة (الحرب) في لبنان من احتمالات شن هجوم بري على إيران، إلى درجة يمكن معها القول إن أي تفكير أميركي من هذا النوع سيكون «جنوناً»، بحسب الإيكونوميست.
المشهد العربي
اتخذت معظم الدول العربية موقفاً «معاديا» لـ«مغامرة» حزب الله في تموز 2006، لكن صمود الأخير، يدعمه النموذج الذي قدمته حركة حماس في فلسطين، كشفا عن واقع جديد تختصره دراسة الإكونوميست «النتائج الجيوسياسية لحرب تموز» بالقول إن «أي انتخابات ديموقراطية في دول المنطقة ستذهب بالأنظمة غير الديموقراطية، سيفوز الإخوان المسلمون في مصر وأسامة بن لادن في السعودية».
ومن نتائج الحرب على الساحة العربية، الرمزية التي أصبح يمثلها الأمين العام لحزب الله (السيد) حسن نصر الله، فهي تخطت حدود لبنان، حيث نجح نصر الله في «توحيد الشيعة والسنة في الشرق الأوسط، وبعث الأمل مجدداً بقيام نهضة إسلامية لدى الشباب العربي»، بحسب الإكونوميست التي تتابع أن «انتصار حزب الله كان له تأثير محطم على حلفاء أميركا في المنطقة؛ إن الدعم الشعبي لحزب الله على امتداد العالم العربي وضع الزعماء العرب الأقرب إلى أميركا في موقع حرج. إن أي تآكل آخر في موقع هؤلاء الزعماء قد يؤدي إلى فقدانهم السيطرة على بلادهم. بالتالي، يبدو أن الملكين، السعودي والأردني والرئيس مبارك لن يدعموا أي برنامج أميركي يدعو للضغط العسكري أو السياسي أو الاقتصادي على إيران، لأن من شأن أي حرب على إيران في المستقبل أن تؤدي إلى عزل حكومات مصر والأردن والسعودية. كما أن أي ضربة للمنشآت النووية الإيرانية سترد عليها إيران بإطلاق صواريخ على منشآت إسرائيل النووية. لن يستطيع أحد التنبؤ برد الفعل الإسرائيلي، لكن من الواضح (تبعاً لموقف بوش خلال حرب تموز) أن الولايات المتحدة لن تفعل أي شيء لوقف إسرائيل. وسينهار بيت الزجاج في منطقة الخليج الفارسي بفعل الصواريخ الإيرانية»، الأمر الذي لا تحتمله دول الخليج.
----------------------------------
المصدر:
اعتمدت هذه الدراسة على عدد من المصادر، أهمّها معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي (جافي سابقاً)، مجلّة «الإيكونوميست»، المنتدى البريطاني للنزاعات، ومعهد واشنطن.
تعليقات: