التجسّس الإسرائيلي من منظار خبراء الاتصالات

التجسّس الإسرائيلي:  لبنان مكشوف على الخارج... واللبنانيون آخر من يعلم
التجسّس الإسرائيلي: لبنان مكشوف على الخارج... واللبنانيون آخر من يعلم


لبنان مكشوف على الخارج... واللبنانيون آخر من يعلم !

تنصت. تجسس. قرصنة. خروق. رصد مكالمات... كل ذلك موجود في لبنان!. اسرائيل تتفرّج علينا، ونحن "مكشوفون" من خلال هواتفنا. ببساطة، بتنا مراقبين الى اقصى الحدود، وذلك باعتراف خبراء الاتصالات. فالكل عبر عمله او موقعه يمكن ان يشكل مادة افادة للعدو، ومن دون ان يعلم. خبراء الاتصالات دقوا ناقوس الخطر والتنبيه، فيما السلطة اللبنانية لا تزال في دائرة الردود السياسية والمواقف التي لا تقدّم ولا تؤخر. فماذا عن استراتيجية المواجهة؟

الكلام مع الخبراء ينطلق من قراءة تقنية. بعيدا من السياسة، يبدو التجسس الاسرائيلي واسعا وخطيرا. يقول الضابط السابق في الجيش والخبير في حقل الاتصالات المدنية والعسكرية العميد المتقاعد محمد عطوي، ان "اسرائيل بدأت منذ زمن بزرع عملائها للتنصت على الخطوط السلكية، واستعملت في البداية بعض اجهزة التسجيل البدائية، الا انه ونتيجة التطور التكنولوجي، وجدت نفسها مضطرة الى تطوير اجهزتها، للتنصت على مئات آلاف المكالمات والرسائل الخلوية وحفظ المعلومات لاشهر او لسنوات".

بناء شبكات والمفارقة اللبنانية

وفي السياق نفسه، يعمل الخبير المتخصص في شؤون الاتصالات رياض بحسون على "تشريح" المسألة. يبدأ من نقطة اساسية، وهي ان اي شبكة اتصالات تتعرّض لاحتمال هجمات، والتي قد تكون تجارية، اقتصادية، او استخباراتية. وهذه الاخيرة، ليست بالضرورة اجنبية فيمكن ان تكون عربية. واذا كان التجسس يقع عادة ما بين عدو وآخر، فهو قد يحصل ايضا ما بين اشقاء، فحتى في اميركا، يمكن ان يحصل خرق، تماما كما اسرائيل التي تتجسس مثلا على اليونان.

الا ان بحسون وهو عضو في الاتحاد الدولي للاتصالات، يسجل مفارقة مهمة، وهي ان ما حدث في لبنان، لم يشهده اي بلد آخر. يكشف ان " الخطر الذي حصل تمثل ببناء شبكات على اراض لبنانية، ومن دون علم الدولة. وما اكتشف في الباروك وصنين اخيرا هو امتداد لبعض هذه الشبكات، وليس منظومة كما يقال".

ويفيد بأن "مواطنا آتيا من زحلة تحوّل هاتفه دوليا (رومينغ) على محطة في صنين تتلقى شبكات اسرائيلية، وهذا ما لم يحصل في اي بلد في العالم، الا في لبنان".

يشرح، ان "اسرائيل تجهد لتحديد الامكنة والتنصت على المكالمات الهاتفية، وحتى متابعة الجولات. والغريب انه كلما شهدنا تقدما تكنولوجيا كلما توسع هامش الاختراق، وتطلّب الامر حماية اكبر. اليوم، وصل حجم الاختراق الاسرائيلي الى حده الاقصى، وتكفي الاشارة الى ان اسرائيل ومنذ عام 1998، تعتبر من اكثر الدول المتقدمة في قطاع الاتصالات، وليس فقط داخل اراضيها، لندرك حجم الاخطار، وهذا ما يبرر القرار الذي صدر عن الاتحاد الدولي للاتصالات في ادانة الخروق الاسرائيلية، واعتباره تهديدا واضحا لسيادة البلد".

المفصل الحقيقي وقع في عام 2006، وتحديدا بعد حرب تموز. يرى عطوي ان " اسرائيل فقدت الكثير من المعلومات نتيجة خسارتها للحرب، فاضطرت الى تحديث بنك الاهداف للعملاء بهدف جلب المعلومات، وهذا ما يفسر اكتشاف نحو 144 عميلا او شبكة، خصوصا بعد زرعهم في شبكتي الاتصالات الخلويتين. قبل عام 2006، لم تكن اسرائيل مضطرة الى اعتماد هذه الاساليب، لكونها كانت تعتبر نفسها منتصرة، انما بعد حرب تموز اشتدت المقاومة، وكان على اسرائيل تغيير معادلة اقتحامها لبنان".

الى عام 1995، يعود بحسون ليوضح انه "بعد مرحلة اعادة الاعمار في لبنان، لا سيما مع انشاء شبكة الاتصالات الثابتة (اوجيرو) وشبكتي الخلوي وشبكة الانترنت، باشرت اسرائيل زرع العملاء والجواسيس. ومع الانسحاب من لبنان في ايار عام 2000، فقدت اسرائيل عددا منهم، فكان لا بد من تطوير استراتيجيتها. اما ما حصل بعد حرب تموز، فقد ابرزه تقرير فينوغراد، والذي يشير الى ان اسرائيل عجزت عن تحديد اماكن اطلاق صواريخ المقاومة وخرق مخابئ كبار قادة حزب الله، مما شكل امامها عائقا، وتطلّب تطوير الاستراتيجية مجددا، فكان ان شكل قطاع الاتصالات العنصر الاساسي فيها".

في المقابل، يتوقف بحسون عند مفارقة مهمة، وهي ان " ما كشف في الباروك وصنين اخيرا، يظهر ان الاماكن قديمة فيما المعدات حديثة"، من هنا يتوقع "ان تحضر اسرائيل منذ الان طاقما جديدا ضمن استراتيجيتها المقبلة".

اربع طرق: الكل مكشوف

إذاً، باشرت اسرائيل منذ زمن تنفيذ استراتيجيتها، وكانت تعمد الى تطويرها على مراحل، ولكن ما يهمّ اللبناني هو كيف يمكن خرق شبكات الاتصالات والى اي حد يمكن ان "تتمدّد" هذه الاستباحة الى حياته؟

يشرح عطوي التقنيات، فيفيد ان هناك اربع طرق لخرق شبكات الاتصالات.

"اولا، يمكن خرقها اما من ضمن الشبكة اي عبر اجهزة الاتصالات والمقسم واجهزة الكومبيوتر وما خلاله من داخل الشبكة.

ثانياً: واما الطريقة الثانية فبواسطة الانترنت اي عبر جهاز الكومبيوتر الذي يخدم الشبكة عبر الولوج اليه عن طريق استخدام كلمة المرور واسم المستخدم والاستفادة من المعلومات ضمن الاجهزة الالكترونية.

ثالثا: طريقة الـ SIM اي ما يعرف بالشريحة الذكية في جهاز الاتصالات الخلوي والتي تحتوي على معلومات عائدة الى المشترك، وهي خدمة متوافرة ويمكن الحصول عليها اذا سمح المشترك بذلك، فتكون قانونية. اما اذا تمت بلا موافقة المشترك فتصبح احتيالا ويعاقب عليها القانون.

رابعا: زرع جهاز اضافي على جهاز مشترك ما، ولا يكون الزرع ماديا بل هو عن طريق تنزيل بعض البرامج على جهاز المشترك، فيصبح وكأن لديه خطين مختلفين يصدران عن جهاز واحد، كما لو ان المشترك يملك خطين في جهاز واحد. هذه الطريقة احتيالية بامتياز وغير شرعية. ببساطة انها عملية خرق لشبكة الاتصالات".

بحسب الهدف، تختار اسرائيل الطريقة. هذا ما يقوله عطوي، " اذا ارادت ايصال بعض المعلومات الى المحكمة الدولية، تلجأ الى فبركة ملف الاتصالات، واذا ارادت اغتيال شخصية ما، تترصده وتراقب خطوطه. كما لو ان اسرائيل امام مائدة طعام مفتوحة، تختار ما يناسبها ساعة تشاء، امّا مقبلات وامّا اطباق اكثر دسما، وفق الجهة التي تستهدفها".

وعندما نعرف ان ثمة شركات اسرائيلية متخصصة في تكنولوجيا المعلومات وشبكات الاتصالات تستطيع برمجة خطوط هاتفية رديفة، لا يعود الامر يحتاج الى الكثير من الاستنتاج. ويقول عطوي ان "اسرائيل لم تخرق الشبكة فقط في هذا المجال، بل في ما يسمى بمركز التحكم والدعم، وهذا المركز يتصل بالشبكة كلها، ويمكن الدخول الى بقية الاجهزة، اي الوصول الى قاعدة جهاز بيان المشترك وجهاز ارسال الرسائل القصيرة والجهاز العائد الى حفظ المكالمة الهاتفية وغيرها".

باختصار، يقولها عطوي: " نعم بتنا مكشوفين".

اضافة الى كل ذلك، يكشف ان " اسرائيل وعبر اتصالها بالمقسم الرئيس للشبكة الخلوية، تستطيع تغيير مسارات الشبكة كلها الى داخل الاراضي المحتلة والتحكم بها من طريق برامج تطبيقية يمكن تنزيلها على المقسمات لتأمين ما يسمى بالتغيير الآلي لمسارات الاتصالات، اي يمكنها تحويل الاتصالات من رسائل قصيرة او مكالمات خلوية لمراقبتها والتحكم بها وفبركتها، وهذه الفبركة تعود الى استحداث رسائل قصيرة او مكالمات هاتفية بأصوات غير الاصوات الحقيقية، بهدف ايهام جهات معينة بأن هذه الداتا قد صدرت عن جهاز معين من اجل الايقاع بصاحبه امام الجهات المتخصصة، وهذا الامكان المتاحة لاسرائيل هو ما دفع ببعض الخبراء الى اعتبار داتا الاتصالات من الادلة الظرفية اي غير المباشرة، والتي لا يمكن الاستناد عليها امام محكمة دولية ولا امام غيرها".

وسط كل ذلك، بات الامن السياسي والاقتصادي والاجتماعي مستباحا، لا سيما ان بحسون يعتبر ان " الاتصالات هي اهم من المأكل والملبس. هي تخرق كل القطاعات، وينبغي ان تكون منفصلة تماما عن الحسابات السياسية، فهي ليست لفريق ضد آخر، لكننا للاسف، نحن نتلقى اسوأ خدمة وبأرفع الاسعار".

وفق عطوي، بات مقياس الخطورة عال جدا، "الخرق يكشف كل شيء عن المواطنين، سياسيين كانوا ام عناصر مقاومة ام عسكريين، اذ بات في امكان اسرائيل القيام بعمليات تفجير بعد الحصول على المعلومات المطلوبة الكاملة، فتضع البلد امام فتنة طائفية ومذهبية، وبات في امكانها ايضا التعرّض للمواطنين في حرياتهم الشخصية وخصوصياتهم، اذا تمكنت من دخول قاعدة البيانات وسياراتهم المسجلة في دائرة الميكانيك او عبر النقابات والضمانات. لقد اصبحت كل انواع الامن مكشوفة".

امام هذا الواقع، يأسف بحسون الى ان الدولة اللبنانية غائبة كليا، ويقول: " لو لم نتكل على المقاومة في هذا المجال، عبر التعاون مع الجيش لكشف شبكات التجسس، لكان البلد ذهب الى غير رجعة".

استراتيجيا غائبة!

إذاً، ما المطلوب من السلطة اللبنانية تحديدا؟

يشخّص بحسون المشكلة بأنها " في الممارسة، اذ ان المؤسسات موجودة لكنها فارغة"، ويتوقف عند تعاطي وزارة الاتصالات، فيصفه "بعدم الجدّي، فبدل تفعيل مكتب الارتباط الذي طالبنا به مرارا، وهو يهدف الى التنسيق ما بين وزارتي الدفاع والاتصالات والاجهزة الامنية، ألغي من اساسه، وبرغم الكتب العديدة التي ارسلناها الى المعنيين والرؤساء الثلاثة، بقيت تقارير المكتب 33 يوما امام وزير الاتصالات شربل نحاس، ومن دون اي جواب او رد".

باختصار، يوضح بحسون: "يعتمد لبنان مقياس صفر في حماية شبكات الاتصالات، واعتقد ان نحاس لا يملك الطريقة الجدية في التعاطي مع هذه المسألة. هو لا يعرف، واكبر دليل ما حصل مع مكتب الارتباط. المطلوب منه ترك الامر الى الخبراء، او في الحد الادنى الاستماع اليهم".

يسجل بحسون ملاحظات عديدة على اداء وزارة الاتصالات، وهو اذ يحرص على التوضيح اكثر من مرة انه لا يتكلم في السياسة، انما في الشق التقني، يؤكد ان " الخبراء اللبنانيين موزعون في العالم كلّه، فيما لبنان الوحيد الذي لا يستمع اليهم. ثمة 170 لبنانيا يترأسون 170 شبكة في العالم، ونحن لا نزال نستعين بقبرص او ببعض الشركات التي ساهمنا في تأسيسها، فنعود اليها لتدير شبكاتنا. أيعقل هذا الامر. هل هذا هو لبنان؟".

اما عطوي، فيعتبر ان " لبنان ومنذ انشاء شبكتي الاتصالات، لم يكن ينظر الى هذه المسألة انطلاقا من حماية الامن القومي، بل كان الهدف الربح التجاري والاستفادة، كون ملف الخلوي بقرة حلوب لا تستفيد منه الدولة الا بنذر يسير، والجزء الكبير يعود الى جيوب المستفيدين. اليوم، ثمة تقنيات عديدة لشبكات الاتصالات يمكن خرقها، الا اننا نستطيع تأجيل الخرق او كشفه وحماية ما يمكن حمايته. هذا ما تنبهت اليه وزارة الاتصالات اخيرا عبر وضع البرامج التشفيرية التي تساعد على الحماية، ولكن ليس في الشكل المطلوب، فيما تبقى النقطة الاساس في طريقة ادارة الشبكات لدى الجهات المتخصصة من حكومة وعاملين في هذا القطاع. ان سكة الحل مترابطة وتتوزع ما بين سن قوانين واجهزة كفيّة وبرامج متطورة وموظف كفؤ".

لكن الحلّ بنظر بحسون، يبدأ بوضع استراتيجيا بالتعاون مع وزراء الدفاع والداخلية والاتصالات لحماية الشبكات والمكالمات. وهو يذهب الى ابعد من ذلك، عبر اقتراح شخصي، اذ يعرض ان يساعد نحو 80 مهندسا من مخابرات الجيش ومثلهم من فرع المعلومات ومن الاجهزة الامنية، فيصبح العدد نحو 240 شخصا. بعدها، يرسل هؤلاء الى الاتحاد الدولي للاتصالات لدورات تدريب وتأهيل وتكوين مستوى فكري ومهني جاهز للمواجهة.

اما الخطة الاقرب التي يستعد لها بحسون، في المؤتمر الذي سيعقده المجلس الدولي للاتصالات، مطلع السنة المقبلة، وهو المجلس الذي كانت انطلاقته التأسيسية في 28 كانون الاول عام 2008. ويوضح بحسون ان "وزير الاتصالات آنذاك جبران باسيل كان من الداعمين له، فيما نحاس اليوم لا علم له به. ان المجلس يضم مئات الخبراء اللبنانيين في العالم ولبنان، وفيه خلاص للازمة الحالية، لانه يمكنه ان يضع خطة لمواجهة الواقع المكشوف. من هذا المنطلق، فان المجلس سيباشر قريبا جولاته على المعنيين، لشرح الخطة، واعتقد ان المسؤولين لا يمكنهم ان يبقوا مكتوفي الايدي امام خطة المجلس".

مقاربة واضحة يقدّمها بحسون. هو يرى ان "الشعب اللبناني يعيش بالذل"، ويسأل: "ماذا فعلنا كي نلقى ممارسة مماثلة. ان البلد بلا قيادات، وقد آن الاوان كي يكون على رأس قطاع الاتصالات شخص نابع منه ومرجع متخصص".

ثم يوجه كلامه الى من يريد ان يسمع، فيقول: "ابعدوا خلافاتكم السياسية وحساباتكم عن الاتصالات، لا علاقة لكم فيها، ووزير الاتصالات لا يناسبه ان يكون زعيما سياسيا".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عميل وجاسوس !

يختلط على اللبناني التمييز بين العميل والجاسوس، الا ان هناك فرقا ما بين الاثنين. الاول يعمل ضمن نطاق ضيق، والثاني يعتبر قائدا استراتيجيا، واسرائيل "نشطت" في زرع الاراضي اللبنانية بالاثنين، وفي كل القطاعات، "خدمة" لاهدافها التدميرية!

شخص واحد !

يكشف الخبير رياض بحسون ان "في اميركا، يعمل نحو 48 الف شخص للتصدي للخرق في مجال الاتصالات، وفي اسرائيل يصل العدد الى نحو اربعة آلاف، اما في لبنان فثمة شخص واحد مكلف متابعة هذا الامر وهو العقيد ايلي بيطار. ايعقل هذا الامر؟! لا بد من استراتيجية واضحة من السلطة الرسمية".

تعليقات: