رسم الطفلة منال مكية

95 ٪ من أطفال ومراهقي الجنوب بحاجة لدعم نفسي

قبل أيّام، عندما رأت لمى (3 سنوات ونصف) سيّارة محطّمة في حادث سير، سارعت إلى اتّهام «طيّارة إسرائيل» بأنها تقصف السيّارات. قالت أنها ستضرب «الطيارة» بالعصا، عندما تراها. ولمّا أعلمها أخوها (6 سنوات) أن «بابا عنده بارودة (صيد)»، ردّت لمى أن «بابا رح يقوّص طيارة إسرائيل بالبارودة».

ولمـى عاشـت خلال العـــدوان الإســرائيلي الأخير عشـــرة أيـــام مـــن الحــرب والحصـار في عيناتــا قـــبل أن تــنزح باتجـاه بيـروت. وصــارت تنسـب معظـــم الأضــرار التي تــراها إلى القصــف الإسـرائيلي.

تحمل لمى دمـــــية «دورا» وقد انكـــسرت يدها. تسأل أمــها «بتعـــرفي مين كسر إيد دورا؟». في الواقع، لا تنتظر لمى رداً فالإجابة عندها جاهـــزة: «إسرائيل قصفت دورا.. وإسرائيل قتـــلت القطة لوسي، ولن يبـــقى لنا ورود حول المنــــزل لأن الطيارة سوف تقصفها (عقدة الطائرة)».

تصل لمى أحيانا، في لحظة ضيق كبير من تجربتها في الحرب إلى حدّ الإعلان عن أن الناس كلهم سوف يموتون بالقصف.. ولما تُسأل أي ناس تعني، تجيب بأن «إسرائيل تريد قتل كل البنات!».

لمى هي ابنة الدكتور فوزي أيّوب الباحث والأستاذ الجامعي في كليّة التربية في الجامعة اللبنانية. اتّخذها مثالاً في مقدّمة دراسة أعدّها تحت عنوان «التأثيرات النفسية والتربوية لحرب تموز 2006 على الأطفال والتلاميذ في لبنان».

وتأتي دراسة أيّوب لتطرح أسئلة حول المشكلات النفسية والتربوية التي يعاني منها أطفال لبنان وتلاميذه بعد العدوان الإسرائيلي الأخير، وحول الوسائل المستخدمة لمساعدة هؤلاء ودور المؤسسات والجمعيات في احتواء الصدمة النفسية للحرب.

ملخص دراسة للدكتور فوزي أيوب:

تحت عنوان «حجم التعرض لصدمة الحرب بين الأطفال والتلاميذ»، يقول أيّوب في الباب الأوّل من دراسته أنه من الطبيعي أن تفضي الخسائر البشرية للحرب وإصاباتها إلى صدمة نفسية موازية لها مفاعيلها بين الأطفال والمراهقين لأن «الإصابات النفسية» تقوى كلما كانت الإصابات البشرية أكبر وكلما كان حجم الدمار والنزوح عالياً.

فرؤية القتل والقصف المرّوع وخسارة الأب أو الأم أو الأخ والأخت، ومشاهدة الدمار الشديد، ومعاناة النزوح ومشكلاته (مليون نازح) لا بد من أن تترك في النفوس جروحاً وندوباً واضطرابات نفسية (صدمة الحرب) يصعب نسيانها عند الناشئة.

وبحسب أحد ممثلي الأمم المتحدة كاريل دي روي، يحتاج نصف مليون طفل لبناني إلى دعم نفسي أو معالجة نفسية من صدمة الحرب ومفاعليها.

من جهته، يوضح فيليب دواميل، منسق عمليات الطوارئ التابعة لـ«اليونيسف» في لبنان، أن دراسات المنظمة تبيّن أن 3.5 في المئة من أطفال ومراهقي الجنوب يحتاجون إلى علاج طبي نفسي وأن 95 في المائة يحتاجون إلى دعم نفسي للخروج من صدمة الحرب. ويذهب الدكتور عدنان حب الله رئيس المركز العربي للأبحاث النفسية والتحليلية إلى حد القول بأن أكثر من ثلث الشعب اللبناني يعاني بعد الحرب من حالة عُصاب اكتئابي وخوف وقلق. ويؤكد حب الله أن كل سكان الجنوب (أكثر من مليون شخص) أصيبوا بصدمة الحرب بدرجات متفاوتة».

المشكلات النفسيّة

في الباب الثاني من دراسته، يقدّم أيّوب «وصفاً للمشكلات النفسية الناجمة عن الحرب عند الأطفال والتلاميذ»، يوضح أن العدوان ترك انعكاسات نفسية عميقة عند الأطفال والمراهقين.

فقد أظهرت عمليات الدعم والعلاج النفسي بعد الحرب أن الأطفال كانوا الفئة الأكثر تضرراً من الناحية النفسية. وفي مناطق واسعة من لبنان تعرض الصغار لخطر الموت الداهم، وانتابهم الذعر من عمليات القصف الجوي الإسرائيلي، حتى أنه بات يصح الحديث عن ظهور «عقدة الطائرة» عندهم.

وعندما نزح حوالي مليون لبناني، أكثر من نصفهم من الأطفال والمراهقين، كان الخوف يلازم الجميع وكان خطر الموت يلاحقهم ما ولّد شعورا جماعيا بالرعب والانقطاع عن العالم». ويصف كيف «هام مئات الجنوبيين لأسابيع حول جثث الأهل المدفونة تحت الأنقاض من دون أن يتمكنوا من دفنهم، أو حتى إعلان الحداد عليهم أحياناً، وما يتبع ذلك من عزاء يخفف من تأثير صدمة الموت».

يشرح أيّوب أن تبديلا كاملا حصل في الواقع المعاش، وما اعتاده الجنوبيون لم يعد قائماً خلال الحرب وبعدها، وكان عليهم التكيّف مع واقع جديد وفق المناعة النفسية لكل واحد منهم ووفق شدة ومدة التعرض للخطر. وبالنسبة للأطفال، فإن وضعهم النفسي أكثر قابلية للاهتزاز من الراشدين لأن المستوى الذهني للطفل لا يسمح له بفهم حالة الحرب أو بامتلاك تفسير لمجرياتها، مما يجعله أكثر عرضة للمفاعيل النفسية للحرب. والطفل لا يمتلك المفاهيم والكلمات اللازمة لإدراك معنى الحرب ولا يمتلك ترميزاً خاصاً بالحرب وماهيتها يسمح له بالحديث عنها والتعبير عما يجول بخاطره تجاهها مما يخفف من القلق المرتبط بالحرب.

وما يفاقم الأمر بالنسبة للطفل هو أنه يشعر بأن الحرب هي هجوم مباشر عليه لا يقدر على مواجهته. لذلك، كان من الطبيعي أن يتعرض الأطفال والمراهقون اللبنانيون للأضرار النفسية الناجمة عن اضطراب الضغوط التالية للصدمة أو اضطراب ما بعد الصدمة.

والصدمة النفسية عموماً هي حالة من الضغط النفسي تتخطى قدرة الفرد على الاحتمال أو حفظ التوازن. أما اضطراب ما بعد الصدمة فيتكون من مجموعة من الأعراض العصابية الناجمة عن حادث صدمي مؤلم (قتل، إصابة، تهديد) يعيشه الفرد وسط إحساس بالفزع والعجز ويتذكره بصورة دورية (في الكوابيس مثلاً) ويسعى لتجنب كل ما يشير إليه من أماكن أو مشاهد أو أشخاص، مع وجود حالة من الاستثارة المفرطة تجاه الحدث الصدمي.

ويؤثر التاريخ الشخصي للطفل وأسرته في مدى تعرضه لحالة ما بعد الصدمة، كما أن المرحلة العمرية لها دورها في هذا المجال.

ففي مرحلة الطفولة المبكرة (حتى سن خمس سنوات) يبدي الطفل عوارض التعلق الشديد بالأهل ويعاني من قلق الافتراق عنهم، كما يقوم بسلوكيات نكوصية مثل التبول اللا إرادي الليلي، والكوابيس الليلية واضطراب النوم.

وفي مرحلة الطفولة المتأخرة (6ـ12 سنة) يصبح الطفل أكثر قدرة على فهم معنى الحرب وترميزها من خلال التعبير الكلامي عنها ولكنه يعاني مع ذلك من صعوبة التركيز الذهني والحركة المفرطة، والقلق والأعراض الجسمية ـ النفسية، والعدوانية، والاكتئاب والتبوّل الليلي واضطراب النوم. أما في مرحلة المراهقة (12 ـ 16 سنة) فإن المراهق يصبح أكثر عرضة لاضطراب ما بعد الصدمة بسبب التحولات الجسمية والانفعالية التي تحدث عنده فتضطرب نظرته للمستقبل ويمكن أن يتجه نحو التدمير الذاتي والانطواء على الذات والعدوانية والكوابيس والشعور الشديد بالذنب والأعراض النفسية ـ الجسمية المتنوعة.

والى جانب هذا الاضطراب الأكثر ظهوراً بين الحالات النفسية التي يعاني منها الأطفال والمراهقون في لبنان بسبب الحرب، تبرز أيضاً حالات نفسية مرضية أخرى كثيرة مرتبطة بعوامل مرضية قديمة زادتها الحرب تفاقماً، منها: الرّهاب (فوبيا)، القلق العام، الاكتئاب العصابي، الشعور بالضيق والتبرم، الشرود الذهني وقلة التركيز، فقدان الشهية للأكل، الاضطرابات النفسية ـ الحركية: ضيق التنفس، رعشة اليد، ارتفاع ضغط الدم، أوجاع الرأس والمعدة...».

ومع ذلك، يوضح أيوب أنه لحسن الحظ، فإن بعض حالات الاضطراب النفسي تختفي مباشرة عند زوال مسبباتها، كما حصل مع طفل امتنع عن الكلام في قريته عيترون حتى ظن أهله أنه أصيب بالخرس.

ولكن ما إن تركوا أرض المعركة ووصلت بهم السيارة إلى صيدا حتى عاد الفتى إلى الحديث وقد أدرك أن خطر الموت قصفاً قد زال عنه.

من جهة أخرى، يشير أيوب إلى أنه «إلى جانب الأعراض النفسية الحالية، قد تظهر أخرى متأخرة تطال المراهقين بشكل خاص وتشمل أشكال الانحراف الجنسي والاجتماعي والإدمان والتشرد».

ويشير إلى عوامل خاصة بالمجتمع اللبناني عموماً والجنوبي بشكل خاص، ساعدت على التخفيف من الآثار النفسية السلبية للحرب. فعدد الحالات النفسية بعد الحرب كان أقل مما هو متوقع، وهذا ما لاحظه فريق «إسلام أون لاين» المتخصص الذي قام بتنفيذ برنامج مساندة نفسية للمتضررين من الحرب.

ولاحظ الفريق أيضاً أن هنالك تجربة نفسية مختلفة في لبنان حيث ظهرت صورة إيجابية للصمود وإرادة التحدي والتعاون والصبر على المصاعب.

وقد أظهرت رسومات الأطفال أن كثيراً من هؤلاء ينظرون للحرب باعتبارها تشكل عدواناً على لبنان مما يشير إلى وعي سياسي مبكر يمكن أن يساعد على التخفيف من الأضرار النفسية للحرب.

وكما يلاحظ مختصون كثيرون فإن هذه الأضرار كان يمكن أن تكون أكثر بكثير لولا عمل المقاومة وصمودها الذي أدى دوراً في تخفيف عوارض الصدمة وشكّل تعويضاً معنوياً (استعادة الكرامة)».

المساندة النفسيّة

في الباب الثالث من دراسته «وسائل المساعدة النفسية المستخدمة مع الأطفال والمراهقين»، يشرح أيوب أن «الوسائل المستخدمة في مواجهة الآثار النفسية لحرب تموز الأخيرة تنوّعت بين وسائل نفسية تفريجية قائمة على تفريغ شحنة الحرب من داخل الأطفال وبين وسائل نفسية علاجية ووسائل طبية دوائية بالإضافة إلى تشكيلة من التقنيات المتفرقة.

وبحسب الوسائل والتقنيات المستخدمة في العلاج، برزت الحاجة إلى كل من الطبيب النفسي والمعالج النفسي والمحلل النفسي والمرشد النفسي التربوي والاختصاصي النفسي.

وإذا كان العلاج التحليلي النفسي غير متوفر عملياً إلا لعدد قليل من الأفراد المصدومين بالحرب وذلك لأسباب متنوعة، فإن العلاج النفسي التفريجي هو الأكثر شيوعاً.

وتعتمد عملية تفريغ شحنة الحرب من وجدان التلاميذ على تقنيات كثيرة، أهمها: التعبير الحر عن مشاعر الغضب تجاه الحرب وتفريغها من خلال الإجابة عن أسئلة موجهة، الرسم وتحليله، الأشغال اليدوية، لعبة الحرب، السيكودراما وتمثيل أدوار العدو والصديق، الألعاب الرياضية، كتابة نص حول شعور التلميذ تجاه الحرب أو أي موضوع يشعله، مناقشة سلبيات الحرب وإيجابياتها والمواقف منها، الخ ...

هناك أيضا تقنية تعبير الوجه التي يعرض فيها المرشد النفسي أو المعلم مجموعة من رسومات الوجوه ثم يطلب من التلميذ أن يختار منها ما يعبر عن حالته النفسية أو يعلق عليها.

الهيئات الداعمة

«الجهود النظامية لاحتواء صدمة الحرب لدى الأطفال والمراهقين» عنوان الباب الرابع في دراسة أيّوب الذي يوضح أنه «في مواجهة المشكلات النفسية المرتبطة بحرب تموز، شهد لبنان عمليات دعم نفسي واسعة النطاق للأفراد المصدومين بالحرب وبشكل خاص الأطفال والمراهقين شاركت فيها جمعيات ومؤسسات رسمية وخاصة ومحلية ودولية مع تفاوت في مدى الدعم وحجمه ونوعيته. فبعض الهيئات تدخل بصورة مؤقتة وأنهى عمله قبل نهاية العام ,2006 وبعضها كان تدخله متوسط الأهمية، بينما تدخلت هيئات أخرى بصورة فعالة وما زالت تواصل عملها في الوقت الحاضر».

ويعدّد أبرز المؤسسات الناشطة موجزاً ما قامت به أو ما هي بصدده لمواجهة المشكلات النفسية الناجمة عن الحرب عند الأطفال والمراهقين. والهيئات هي: اليونيسيف، مكتب اليونسكو الإقليمي للتربية في بيروت، جمعية المبرات الجنوبية، الجامعة اليسوعية، وزارة التربية والمركز التربوي للبحوث والإنماء، وزارة الشؤون الاجتماعية، مركز العناية النفسية لمنكوبي الحرب، مجموعة صامدون، جمعية مدى ومنظمة إعاقات دولية، ورشة الموارد العربية، جمعية العناية بأطفال الحرب، مؤسسة عامل، الجمعية اللبنانية للتربية الناشطة، جمعية تنمية الإنسان والبيئة، جمعية نبع، مؤسسة الحريري، مركز كامل جابر الثقافي الاجتماعي، الصليب الأحمر اللبناني، المجلس الأعلى للطفولة، موقع إسلام أون لاين، مؤسسات الإمام الصدر، الحركة الاجتماعية، منظمة أرض البشر، الجامعة الأميركية ومنظمة شتانير الألمانية.

أما على صعيد مراكز العلاج النفسي الثابتة، فيشير أيّوب إلى أنه «لم يتحقق حتى الآن توازن جغرافي مقبول، كذلك لا نجد مركزاً منها في الضاحية الجنوبية لبيروت أو في مدينة بنت جبيل أو الخيام حيث هناك حاجة ماسة للدعم النفسي للأطفال وللسكان عموما».

التأثيرات التربوية

في الباب الخامس والأخير من دراسته، يعالج أيّوب «التأثيرات التربوية للحرب على التلاميذ» قائلاً أنه «إذا كان الأطفال والمراهقون قد دفعوا فاتورة حرب تموز 2006 من صحتهم النفسية، فإنهم يدفعون فاتورتها أيضاً من تحصيلهم الدراسي لهذا العام وربما لسنوات لاحقة، بشكل خاص وأن معظم مدارس لبنان ليس فيها متخصصون في الإرشاد النفسي ـ المدرسي قادرون على المساعدة لتدارك التداعيات الدراسية السلبية للحرب.

وقد استشهد عدد كبير من أطفـــال الروضة وتلاميذ التعليم العام في الحرب أو أصيبوا بجروح أو إعـــاقات شكلت صدمة لزملائهم وقد تصرفهم عن التركيز على التعــلّم.

تلاميذ آخرون دُمرت مدارسهم أو انتقلوا إلى مدارس أخرى جديدة. وبحسب الإحصاءات المتداولة فإن الحرب أدت إلى تدمير كلي لأربعين مدرسة كما تضررت أكثر من ثلاثمائة أخرى.

وكانت نتائج التلاميذ في امتحانات السعي الشهري للسنة الدراسية الأخيرة قد أظهرت تراجعاً في مستوى العلامات يتركز في المرحلتين المتوسطة والثانوية.

وإذا أضفنا حالة الغياب عن المدارس، بسبب الإضرابات الرائجة، إلى حالة التأثير السلبي النفسي لحرب تموز على التلاميذ، فإن درجة إقبال التلميذ على التعلم لا بد أن تتراجع، كما أن درجة التركيز الذهني لديه تصبح أقلّ ويقلّ معها اهتمامه بشرح الدروس، ولا مناص بعد ذلك من تراجع بسيط أو كبير في مستوى العلامات».

ويشدّد أيّوب على أن «الحديث عن الآثار المدرسية للحرب عند التلاميذ لم يعد ينطلق من فرضية وجود هذه الآثار بل تعدّاه للبحث عن تحديد أشكال هذه الآثار وتفاعلاتها السلبية للوصول إلى السبل العلاجية الممكنة. وكانت الآثار المدرسية للحرب بدأت تظهر على التلاميذ منذ بداية العام الدراسي الحالي (2006ـ2007) حيث لاحظ المعلمون مشاكل عديدة لديهم لم تكن مألوفة.

ففي الأحوال العادية غالباً ما يكون التلاميذ في بداية العام الدراسي مندفعين ومتحمسين بعد العطلة الصيفية الطويلة التي أمضوها. ولذلك فإن الفترة الأولى من دخول المدرسة تكون متميزة بامتداد حالة الاسترخاء والمرح إلى داخل المدرسة.

لكن هذا العام أظهر خروجاً على المألوف بحيث بدا على الكثيرين الملل والتوتر ولم يخفوا انزعاجهم من بدء الدراسة فحسب، بل عبّروا عن شعورهم بالغبن بسبب الحرب التي حرمتهم من عطلتهم الصيفية واضطرتهم للنزوح عن قراهم وبيوتهم.

وقال تلاميذ كثيرون ومن مستويات عمرية مختلفة بأنهم يأتون إلى المدرسة مكرهين ولكنهم يجدون الرفاق والأصحاب مما يخفف من حالة الرفض لديهم.

وبعد مرور حوالي ثلاثة أشهر على بداية العام الدراسي بدأت تظهر آثار دراسية مباشرة على التلاميذ تمثلت بتراجع في التحصيل العلمي مقارنة مع ما كانوا عليه في الفترة نفسها من العام السابق. وقد ظهرت هذه الآثار حتى على المتفوقين.

ومـــما بدا غير مألوف في معـــظم المدارس تراجع مستوى مشاركة التلاميذ داخل الصف وضـــعف تركيـــزهم إلا على مواضيع محددة تظهر من خـــلال ميلهم (في المرحـــلتين المتوسطــــة والثانوية) للحـــديث عن الحـــرب بشكل دائم مصحوباً بالتساؤل عن جـــدوى الدراسة والعلم في ظل انعدام الشــعور بالأمان والاستــقرار.

ومن الظواهر الخطيرة التي ظهرت بشكل واضح عند التلاميذ، ما عبّر عنه طلاب صفوف الشهادات الرسمية في الصفين التاسع (البريفيه) والثانوي الثالث (البكالوريا) عندما صرّحوا بأنهم لا يشعرون بقدرتهم على الاجتهاد كثيراً بسبب الخوف الدائم من عودة الحرب، أو لأنهم اعتقدوا بأن الامتحانات الرسمية قد تلغى إذا ما تكررت الحرب، أو لأن الوضع السياسي داخلياً غير مستقر. أما التلاميذ في الحلقتين الأولى والثانية من التعليم الأساسي فإن أعراض التراجع الدراسي تظهر لديهم من خلال معدلات الغياب المرتفعة أسبوعياً ومن كثرة طرح الأسئلة التي تكشف عن التشاؤم والخوف من المستقبل.

وبصورة عامة، فإنه يمكن تلخيص الآثار الدراسية للحرب بما يأتي:

ـ كره المدرسة (والمــــدرسة الجديدة بشـــكل خــاص).

ـ تراجع مستوى التحصيل الدراسي كماً ونوعاً.

ـ عدم الاقتناع بجدوى التعليم وتراجع الدافعية إليه.

ـ قلة التركيز والشرود الذهني في الصف.

ـ تزايد الميل إلى العدوانية والفوضى.

ـ الصد الفكري حيث يبني التلميذ حاجزاً بينه وبين المعرفة والعلم».

ويتساءل أيّوب «أمام هذا الواقع، عن دور المعلمين في تقليص حجم الانعكاسات السلبية للحرب على التحصيل العلمي للتلاميذ، بشكل خاص وأن الملاحظات التي يسجلها المرشدون النفسيون والتربويون في المدارس الرسمية تشير إلى دور للمدرسين يتسم بقلة التجاوب، إن لم نقل بالسلبية».

خلاصة

ويخلص أيّوب إلى أن «حجم التعرض لصدمة الحرب على الأطفال والمراهقين في لبنان كان كبيراً ولكن من المتوقع أن تتراجع أعداد المتأثرين نفسياً بها مع مرور الزمن في حال عودة الهدوء والاستقرار إلى لبنان.

وإذا لم يسترجع اللبـــنانيون حياتهم الطبيعية بسبب التوتر السياسي الداخلي، فإن الضــــغوط النفسية عليهم سوف تزداد وقد تتحول عندهم إلى حالات مزمنة وكأنهـــم ما يزالون في حالة حرب مستمرة. فالخــــوف من الفتنة والحروب الداخلية لا يقل خطورة عن الخوف من الــــحرب الـــخارجية وهو يؤدي إلى قلـــق مصـيري ووجودي شامل.

ومع أن الجهود التي جرت لاحتواء الصدمة النفسية للحرب كانت كبيرة وفعالة في كثير من الحالات، فإن معظم هذه الجهود توقف مع بداية العام الحالي بينما تزداد الحاجة إلى تفعيل جدي لدور جهاز التوجيه التربوي والإرشاد النفسي في وزارة التربية والتعليم بحيث تتولى عناصره عمليات تدريب المعلمين على اكتشاف الحالات النفسية الصعبة في المدارس تمهيداً لتحويلها إلى مركز العلاج أو معالجتها على يد المرشدين النفسيين أنفسهم».

لكن أيّوب ينوّه بأنه «وسط هذه الصورة المتشائمة تربوياً يمكن الإشارة إلى إيجابية سيكولوجية وحيدة للحرب تتمثل في زيادة قبول الجمهور لفكرة العلاج النفسي بعد أن تزعزعت القناعات السلبية تجاهه تحت وطأة الحاجة الفعلية إليه».

الرسمان مختاران من مجموعة رسمها أطفال في ورشة نظمها مركز الجنى