أثبت الإبن إلياس المر أنه ليس «سر أبيه»
بفضل إلياس المر، ستتألّف للمرة الأولى منذ عشرين عاماً حكومة لا تذهب إحدى حقائبها السيادية إلى أبو إلياس أو إلياس، الذي حالت شخصيته دون تحقيق حلم والده بإدخال عائلته نادي العائلات السياسية التي تتوارث الزعامة الشعبية من جيل إلى آخر
في أواخر ثمانينيات القرن الماضي، كانوا كثيرين رجال السلطة الملوّحين بالعلم السوري، الهاتفين بوحدة مسار ومصير. لكن ميشال المر عرف كيف يميز نفسه عن جموع المحتشدين، قبالة معابد آلهة الشام في البوريفاج وعنجر وغيرها، جاعلاً لاسمه وقعاً مختلفاً. فوزير دفاع الطائف من وجهة نظر الرئيس حافظ الأسد حصراً عرف بعد أربع سنوات في اليرزة كيف ينتقل من الدفاع إلى الداخلية ليحصّن «زعامة الشؤون الاجتماعية»، راسماً للقيادات المارونية خريطة طريق «الإيمان المستقيم» ليحافظوا على كراسيهم. وسرعان ما تحول ابن العائلة البتغرينية المتواضعة إلى مدرسة قائمة في شخصه، يتتلمذ عنده الطامحون إلى الجاه ليصبحوا وزراء ونواباً ومحافظين ومديرين عامين ورؤساء مصالح، يبرق فسادهم كالذهب ولا تسقط شعرة من رؤوسهم إلا بقرار من أبو إلياس.
المر أنسى معاصريه ما كان يروى عن مجيء الأرثوذكسي الأول في تاريخ النظام اللبناني، حبيب أبو شهلا، مع أمّ العروس وذهابه مع أمّ العريس، والذي يقول الكاتب إسكندر رياشي في «قبل وبعد» إنه بات عبر «روحه المتلاعبة وشخصيته القوية ضرورة لمن ينوي حكم لبنان، فلم تقم دولة بالسرايا إلا كان أول الذين يتقبلون التهاني عنها». لكنه بقي شديد الحرص على مكانته في العائلة والقرية والقضاء. فزعامة أبو إلياس قامت على أربع دعائم، هي:
1ــ تمتين ارتباطه بالقيادة السورية.
2ــ توثيق صلاته بمعظم الأفرقاء الفاعلين محلياً، وقد وطد المر علاقته بالرئيس نبيه بري بمقدار ما وطدها بالرئيس رفيق الحريري الذي بقي صديقاً للمر حتى في أوج تصادمه مع الرئيس إميل لحود.
3ــ وضع كل نفوذه في الإدارة اللبنانية وعلى مختلف الصعد بتصرف زعامته واستمراريتها.
4ــ تخصيصه كل الوقت المطلوب لإشعار المتنيين بقربه منهم وحضوره وسطهم ومشاركته أفراحهم وأحزانهم، وهو كاد أن يتحول إلى مطران نتيجة تكليله كل من يود الزواج وتعميد المواليد الجدد في المتن. فبالنسبة إلى أبو الياس ليس زعيماً من يربح انتخابات رئاسية ويخسر مجلساً بلدياً أو كرسي مختار، وليس زعيماً من لا يتقدم على أعضاء لائحته في الانتخابات النيابية ببضعة آلاف من الأصوات. أما مكانة الزعامة فتحدّدها قدرة هذه الزعامة على الاستمرار من جيل إلى آخر.
حتى الألفين، كان أبو إلياس يسقي الزعامة التي زرعها بالنفوذ السوري وبنفوذه داخل الإدارة اللبنانية، ويرى تلامذته يغذون المؤسسات فيعطيهم دوراً أكبر، ولا سيما أنهم من عمر ابنه وسيشكلون بعد بضع سنوات أذرعة له. وإذا بحدثين يظهران فجأة: أولهما توتر علاقته مع اللواء جميل السيد الذي علم أن المر كان قد نقل رسالة الرئيس إميل لحود إلى دمشق، قبيل أيام من إجراء الانتخابات النيابية في دائرة بيروت عام ألفين، والتي تطالب بتنحية السيد. وثانيهما، بروز نائب رئيس مجلس الوزراء عصام فارس.
يومها، بحسب ما يروي المقربون من المر، عرض الرئيس لحود على أبو الياس شغل منصب نائب رئيس مجلس النواب باعتباره الموقع الرابع في السلطة وترك منصب نائب رئيس مجلس الوزراء إلى فارس. فرفض المر العرض، مهدداً بكشف الكثير مما يعرفه. لكن، لم تكد تمضي أربع وعشرون ساعة حتى تمكّن لحود والسيد بعدما تصالحا، من الالتفاف على أبو الياس وتهديداته عبر ابنه الذي بقبوله حقيبة وزارة الدفاع أفقد والده القدرة على تحقيق تهديداته. هكذا اضطر الوالد الى أن يسكت عن الإهانة التي وجّهت إليه من ابنه، مدشناً عهداً استمر عشر سنوات وانتهى قبل بضعة أيام عبر «الحقيقة ليكس» (مع العلم بأن أبو الياس كان قد أوصى إلياس قبل لقائه المحقق بالتركيز على الانفجار الذي استهدفه والتنبه إلى علاقات المحققين الاستخبارية وتجنب الدخول في التفاصيل. وحتى نشر قناة الجديد التسجيلات الصوتية، لم يكن المر الأب يعلم شيئاً عن مضمونها).
فمع تعيين المر الابن وزيراً للداخلية والبلديات في 26 تشرين الأول 2000، باتت الزعامة التي يفترض أن تنتقل من جيل إلى آخر على المحك:
1ــ غسلت دمشق يديها من المر. ولنصيحة المر للرئيس لحود برفض التمديد لأن «سوريا ضعيفة للغاية وبشار الأسد جديد في السياسة ولم يكتسب شيئاً من والده»، صدى مميز في دمشق.
2ــ ذهب المر في انحيازه لفريق إلى حد إشعار الفريق الآخر بأنه متآمر عليه، مع الأخذ بعين الاعتبار أن عقيدة الجيش كما يراها إلياس المر، بحسب ويكيليكس، ما هي إلا نقيض لعقيدة الجيش التي كتبها وطبقها ميشال المر حين كان وزيراً للدفاع قبل عشرين عاماً. وتجدر الإشارة إلى تتويج إلياس طلاقه السياسي مع عمه السابق الرئيس إميل لحود بطلاق عائلي، متجاهلاً أن عمر العلاقة العائلية أكبر من عمر العلاقة السياسية بدليل أن نصري لحود، شقيق الرئيس لحود، وقف قبل أكثر من خمسين عاماً إشبيناً لأبو الياس حين تزوج.
3ــ تصرف المر الابن في الوزارة باعتباره الوزير «النظيف»، الأمر الذي عرّض الشبكات التي وضعها والده بتصرف زعامته للخطر. وقد غطّى بضميره خسارة والده لأهم معاركه النيابية في انتخابات المتن الفرعية عام 2003، الأمر الذي خلّف ارتجاجات كثيرة، على مختلف المستويات، على صورة أبو إلياس كخصم لا يمكن أحداً أن يقف بوجهه.
4ــ أكد المر الابن عدم اكتسابه تلك الجينات المرّة التي تسمح لأبو إلياس بمصادقة كل من يسلّم عليه، فالمر الابن لم يرث قدرة والده على إشعار غالبيّة المتنيّين بأنه «منهم وفيهم»، بدليل قضائه عشر سنوات بين وزارتي الداخلية والدفاع وعدم امتلاكه عشرة أصدقاء، ضبّاط.
هكذا، أثبت المر أنه ليس «سر أبيه»، لكن هناك من واظب على الرهان على توفير المر الابن، بوسائلة الخاصة، استمراريته السياسية. وفي صميم هذا الرهان علاقة إلياس برئيس الجمهورية، مع الأخذ بعين الاعتبار أن أبو الياس وطد معرفته بسليمان قبل موعد الانتخابات الرئاسية ببضعة أسابيع حين رتّب الياس لقاءهما. ومنذ أقفال صناديق انتخابات 2009 النيابية، احتكر إلياس تمثيل العائلة في العلاقة بين آل المر وسليمان. وبالتالي لا يمكن أبو الياس أداء دور في وصل ما انقطع بين الرئيس ووزير دفاعه إثر التسجيلات الصوتية التي كشف فيها إلياس المر «أنهم اختاروا ميشال سليمان لتولّي قيادة الجيش لأنه أضعف ضابط في الجيش». وإن كان حملة الرسائل بين الرابية حيث يقيم المرّان، وبعبدا حيث يقيم الرئيس، حملوا في بريدهم تأكيدات بأن هدف المر من عبارته المشؤومة كان «تضليل» المحقق والإيحاء له بضعف سليمان حتى يسقطه من دائرة المشتبه فيهم في التخطيط أو التنفيذ لاغتيال الرئيس رفيق الحريري. وكما نسب المر عبر التسجيل الصوتي كل بطولات العالم إلى شخصه، حاول في اليومين الماضيين إقناع الرئيس بأن عبارته تلك أدت إلى احتفاظه وحده من بين جميع قادة الأجهزة بمنصبه.
في النتيجة، تجنب المر في بيانه أول من أمس قول الأمور بالصراحة التي تكلم فيها مع المحقق الدولي، فشكر الرئيس سليمان على السنوات الثلاث التي أمضاها معه، متمنياً له التوفيق في إكمال مسيرته، دون أن يعلن بوضوح عن نيته الاستراحة قليلاً من العمل الحكومي. وهو أمر بات محسوماً نتيجة موقف حزب الله والعماد ميشال عون من الوزير «المتآمر» على المقاومة من جهة، وموقف سليمان الذي لن يرى مبرراً بعد اليوم لاصطحاب المر معه إلى بكركي إثر الكشف عن فضيحة تخصه ليستحصل له من سيّد بكركي على غطاء.
هكذا يتفرج أبو إلياس على الجهد يندثر أمام عينيه. هو في لحظة انفعال يقول إن ابنه يحل محله، لكنه لا يحل محل ابنه. ويختار الاستمرار في السكوت كأنه يعلم أن إلياس حين يستفيق لن يبدأ هذه المرة من الصفر، بل من «ناقص عشرة» تحت الصفر.
تعليقات: