أطفال الطرق الإشارة الحمراء ضوؤهم الأخضر و\"أبو طارق\" دموعه تحكي
تراهم يفترشون الأرصفة تحت الجسور وعليها، حفاة، عراة، يتخذون من أماكن رمي النفايات مسكنا لهم يأوون إليه ليحتموا من الحر الشديد والبرد القارس.
تراهم كبارا وصغارا لا يأبهون لما حولهم، تسألهم عن حالهم فتغرق عيونهم بالدموع الساخنة، بل الكاوية.
أي حال هذه وهم لا حول لهم ولا قوة؟
نعم، إنها مشاهد يقشعر لها البدن، تشعرك بالشفقة والنقمة في آن واحد. الشفقة على أشخاص غدر بهم الزمن، والنقمة على مجتمع لا مبال وحكام ما همهم سوى السلطة.
أيعقل ونحن في الألفية الثالثة، أن نرى مثلا سبعينيا ينام على فراش ممزق تحت أحد الجسور بين أكياس النفايات مبتور الرجل؟ نعم، هذه الجسور يتباهى المسؤولون بتشييدها وتدشينها ويتكلم الإعلام على فوائدها في تخفيف زحمة السير، متغاضيا عمن تؤوي تحتها!!
أيعقل أن نجد، ونحن في القرن الحادي والعشرين، في عصر الكومبيوتر والانترنت، في عصر العولمة، أطفالا يتوسلون اليك لكي تعطيهم ولو قرشا واحدا يشترون به ما يسد جوعهم؟
ونحن في لبنان، بلد الكرم والضيافة، نتغنى ببلد العجائب وبيروت عاصمة عربية للكتاب، وعاصمة للثقافة، عاصمة تستقبل على أحد ملاعبها الالعاب الفرنكوفونية والبطولات الآسيوية في كل أنواع الرياضة. تعقد فيها الندوات والاجتماعات المنددة بالقهر لمنكوبي هايتي، وربما غدا تشيلي وغيرها من البلدان التي تضربها الزلازل وتغمرها الفيضانات. ننظر الى البعيد البعيد ولا نتطلع على بعد خطوات منا!!
أين دور الدولة في رعاية مواطنيها ومساعدة مسنين وأطفال وشبان بائسين، متروكين، ينخر المرض عظامهم لأن ما من احد يلتفت اليهم؟ ترى جروحهم مفتوحة، ما من احد يضمدها، ينزفون وما من طبيب. رباه لماذا كل هذه القسوة في قلوبنا؟
بل نسأل: أين دور وزارة الشؤون الاجتماعية وبرامجها التوعوية؟ لماذا لا تجري مسحا شاملا لعدد الفقراء والمعوزين الذين سرعان ما يتحولون الى متسولين ونشالين ومشردين؟ لماذا لا يتم تأليف لجان مسح تجوب الشوارع والأزقة في المناطق كافة؟
صحيح أن بعض جمعيات المجتمع المدني تقوم بنشاطات لمساعدة هؤلاء المعوزين، وصحيح أن عددا ضئيلا من البرامج التلفزيونية يلقي الضوء على هؤلاء ويساعدهم من خلال المحسنين على تخطي صعوباتهم، لكن كل ذلك مرحلي، آني، ومحظوظ هو من تسنح له الظروف أو الفرص ليستفيد من هذه البرامج!
أين نحن من شرعة حقوق الإنسان؟ لماذا لا نطبقها في لبنان بل في كل العالم؟
لماذا لا يكون هناك هيئة طوارئ تعنى بمنكوبي الحروب، إذ إن الحرب سبب أساسي للفقر والعوز؟ ولقد شهدنا الكثير منها في لبنان حيث تفككت العائلات وأصبح الاخ يقتل أخاه، ناهيك بالاحتلال المتتالية لأرضنا واغتصاب مقدساتنا، وكان آخرها عدوان تموز 2006!
ألم ينتج من كل ذلك تدن في مستوى المعيشة وازدياد نسبة البطالة؟ أين أصبح الذي قصف معمله وأحرقت شركته وصودرت مؤسسته وتهدم منزله؟ بالطبع بات متسكعا على الطرق ليس له إلا السماء سقفا يحتمي تحته من غدر الزمان!
لقد أثبتت الإحصاءات أن 150 ألف طفل لبناني وأكثر يعانون الفقر المدقع. ماذا يعني ذلك؟ يعني زيادة عدد المتسولين والمشردين والنشالين في المحافظات كافة.
وفي جولات متعددة في أحياء فقيرة، تجد المواطنين جياعا، لا بيوت لديهم بل غرف شبه مسقوفة، تأكلها الرطوبة، والمطابخ، إذا وجدت، عبارة عن إبريق ماء وخشبة وبابور غاز. أما الحمامات فحدث ولا حرج، إنها في الخلاء تسترها خرقة من القماش فقط. ترى أناسا معذبين، ملامح القهر والبؤس على وجوههم. لم تزر الابتسامة شفافهم منذ زمن.
والسؤال: إلى متى تبقى هذه الفئة من الناس مهمشة في بلد شارك في صياغة شرعة حقوق الإنسان؟ حرام علينا وألف حرام ألا نعتني بهؤلاء!
لقد عقدت ندوات عدة حاولت معالجة هذه الظاهرة، لكن توصياتها ظلت حبرا على ورق. كثرت البرامج الهادفة إلى التقليل من نسبة الفقر والعوز، وخصوصا في المناطق النائية، لكنها إن حلت شيئا فجزءا يسيرا من مشكلة جد كبيرة!
تقول بعض الإحصاءات إن في لبنان لا خطوط فقر محتسبة وفق المعايير الدولية. ولكن إذا شاهدنا بأم العين فقط، نلاحظ أن ثلث سكان لبنان يعيشون تحت خط الفقر.
ليت المسؤولين يعون هذه الظاهرة فتتحرك ضمائرهم وينكبون على إيجاد الحلول اللازمة لتخفيف حدة الفقر. أقول ذلك، رغم المحاولات الخجولة التي تقوم بها الوزارات المعنية لحل هذه المشكلة، إن من خلال الدراسات والإحصاءات التي لم تسفر سوى عن إحصاء عدد الفقراء، أو من خلال الجولات غير المجدية على هؤلاء. وغالبا ما شارك برنامج الأمم المتحدة الإنمائي والصندوق الدولي وغيرها من المؤسسات العالمية التي تعنى بحقوق الإنسان في إيجاد حلول، لكن دون جدوى!
معلوم أيضا أن الأزمة الاقتصادية العالمية جاءت لترخي بظلالها على الاقتصاد في لبنان وتطول، أول من تطول، هذه الفئة البائسة. فازدياد البطالة ظهر جليا في الآونة الأخيرة وخصوصا بين الشباب الذين لجأوا إلى المخدرات لنسيان وضعهم والانتقام من الحياة والمجتمع.
ولا بأس هنا، من ذكر عدد من المشاهدات التي تهز الضمير العالمي، إذا وجد!
"أبو طارق"، ستيني ملتح، لون الدهر شعره بالبياض، ثيابه ممزقة، سرواله بالكاد يغطي ركبتيه، أسنانه معدودة، يروي قصته بغصة وحرقة. يسكن في أحد شوارع بيروت، في غرفة أشبه بزريبة، يصعب وصفها، لأن الكلمات تبقى عاجزة...
يبادرنا "أبو طارق" بلوعة وحسرة، وبصوت متهدج: "كنت مديرا في أحد الفنادق. لي ولد وحيد هو طارق، لم يرزقني الله غيره. ربيته وزوجتي أفضل تربية. فقدتهما خلال الحرب، أصيبا بقذيفة استهدفت منزلنا في بيروت. ومنذ ذلك اليوم أيقنت أنني لن أستطيع أن أكمل حياتي من دونهما. لم أعرف لماذا ولأي سبب، صرف أصحاب الفنادق عددا كبيرا من الموظفين، وأنا من بينهم".
ويمسح دموعه بيمناه ويكمل: "بعت كل ما أملك، جنى العمر ذهب سدى، لم أعد أجد وظيفة، فقدت كل شيء، نعم كل شيء. واليوم تراني أبحث في مستوعبات النفايات عن فضلات طعام لا تأكلها الكلاب الجائعة، وعن ثياب تقيني البرد. المرض ينخر عظامي، حاولت الانتحار لكي أضع حدا لمأساتي، لكن أحدهم أنقذني. وها أنا في هذه الغرفة البائسة أنتظر أحد المحسنين يمر بي كل يوم حاملا إلي طعاما وماء أروي به ظمئي".
غادرت "منزل" "أبو طارق" ودموعي تنهمر على خدي. لربما إذا قسا الدهر علينا أصبحنا مثله! لا أحد يدري!
مشهد آخر من مشاهد البؤس: على أحد الاوتوسترادات تقف مجموعة من الأولاد الحفاة، يلبسون ثيابا ممزقة، لم يزر الصابون ولا الماء أجسادهم منذ مدة. الإشارة الحمراء ضوؤهم الأخضر لينقضوا على السيارات، لعل أصحابها يتكرمون عليهم بفلس. وتراهم لا يستريحون إلا مجبرين، حين تضيء الإشارة الخضراء. ويعاودون الكرة مع كل ضوء أحمر، يلقون بأجسادهم الناحلة على السيارات، ويدعون لك بطول العمر، يمسحون زجاج سيارتك بخرقة متسخة في انتظار بعض النقود.
وعند المغرب، يتجمعون في نقطة محددة، فيأتي من يقلهم في شبه سيارة الى حيث لا تدري. تسألهم عن أحوالهم ولماذا ليسوا في المدرسة كأترابهم يحصلون العلم، فيخافون الاجابة ويتطلعون في كل الاتجاهات خشية أن يلمحهم أحد. يجيبون بأنهم مجبرون على التسول لأن "فلانا" يضربهم إذا لم يأتوا له بالاموال اللازمة!
وفي أحد شوارع العاصمة حي صغير، يعيش فيه فقراء، لا أحد يزورهم، حتى هيئات المجتمع المدني الناشطة في مجال الرعاية!
عند المدخل، أولاد يلعبون، حفاة، بشبه طابة، ثيابهم متسخة، والمباني عبارة عن ألواح من التنك متراصفة بدقة لتشكل غرفا لا أحد يعرف من تؤوي!
مشاهد تتكرر في كل منطقة من لبنان كما في أغنى بلدان العالم وأعظمها!
المآسي كثيرة والنتيجة واحدة: فقر وفقراء! الدولة تحاول المساعدة قدر المستطاع، لكن لا حل جذريا لمشكلة عمرها آلاف السنين. عدد الفقراء يسابق عدد المشردين ومشكلة البطالة الى تفاقم.
والحديث عن الفقر والمشردين، يقود، ولو من غير باب، الى آفة العصابات الآخذة بالتمدد في المناطق، وكأننا نشاهد أحد افلام ال"أكشن" الاميركية. شبان متوسطو الاعمار ينتشرون في الجنازات بين الحشود أو "يفترسون" الناس على الطرق. لا يسرقونهم فقط بل يطعنونهم بالسكاكين ويسلبونهم سياراتهم وما في حوزتهم من أموال وحلي!
وهذه، أليست من إحدى نتائج الفقر والعوز؟
إن نتائج الفقر كثيرة، وعدم الرعاية من الدولة والمجتمع يؤدي الى عواقب وخيمة تستنفر أجهزة الدولة ويتحرك معها القضاء وتشكل مادة اعلامية دسمة.
بكلمة... الفقر والعوز ظاهرة لا يمكن محوها من التاريخ ولا يمكن معالجتها بشكل جذري، لأن المشاهدات أظهرت أن الازمات الاقتصادية التي تسبب البطالة، وخصوصا في الدول الصغيرة، متلاحقة وتؤثر سلبا على المواطن!
وفي لبنان، كيف لهذه الظاهرة ان تتراجع والسياسيون لا يتفقون على بند واحد من بنود الاصلاح؟ يجتمعون فيجمعون على إرسال المساعدات الى البلدان المنكوبة! والمنكوبون في بلادي كثر!
يجولون ويصولون في بلاد الاغتراب والمواطنون في بلادي غرباء عن أرضهم!
تعليقات: