آثار معارك بنت جبيل (أرشيف - وائل اللادقي)
حفلت حرب تموز بجملة دلالات من منظور عسكري، وخرجت بعدد من الخلاصات بالنسبة إلى طرفيها، بل تخطت في دروسها النطاق الجغرافي للأراضي اللبنانية والفلسطينية المحتلة وصارت نموذجاً لحروب مستقبلية قد تنشأ في مناطق أخرى.
حزب الله «لم يسمع أبداً أنّ على الجنديّ العربيّ الفرار» أمام إسرائيل
تعاملت الولايات المتحدة مع الحرب باعتبارها «اختباراً» لحرب مفترضة على إيران؛ هذا ما تحدث عنه العديد من المحللين الغربيين، وفي طليعتهم سايمور هيرش، في تحقيقه الشهير في مجلة «نيويوركر» حول تخطيط الإدارة الأميركية للحرب قبل عام من وقوعها، وفيه ينقل الصحافي الأميركي عن مستشار حكومي أميركي «على علاقة وثيقة مع إسرائيل» قوله «لقد أخبرنا الإسرائيليون أنها ستكون حرباً رخيصة بفوائد كثيرة. فلمَ تعارضونها؟ سوف نتمكن من كشف وقصف الصواريخ والأنفاق والمخابئ من الجو. وسيكون ذلك عرضاً توضيحياً بخصوص إيران».
من جهة ثانية، لفت نظام القيادة والسيطرة التي أدارت بها غرفة عمليات المقاومة الاسلامية الحرب، فلم تستطع الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية قطع شبكة الاتصالات بين قيادة المقاومة والمقاتلين في الخطوط الأمامية للجبهة، على الرغم من القصف الشامل وسياسة تقطيع أوصال الجنوب. كذلك، لم يتأثر الدعم العسكري للمقاومين بالظروف الصعبة، بل خضعت الحملة الجوية الاسرائيلية «المزعومة» على مخازن الأسلحة لـ«فخاخ» نصبها حزب الله الذي كان «يعلم أن أقمار التجسس وشبكات العملاء تراقبه».
بعد مرور الأسبوع الأول من الحرب، بدأ الموساد بتسريب أنباء عن قدرات الوحدات المتخصصة في حزب الله، التي تعتمد أسلوب «اضرب واهرب» الذي يؤدي الى خسائر فادحة في صفوف العدو.
إن الأسلوب الذي أدارت به المقاومة الحرب لم يتطلّب استدعاء المزيد من المقاتلين الى الجبهة، حتى في أحلك الظروف، وهكذا كان آلاف الشبان ينتظرون في القرى الخلفية أمر القيادة، بينما زجت إسرائيل بسلاح البر، من دون تدريب وعتاد مناسبين.
وإذا ما قاربنا الدروس من الحرب في الطرف الاسرائيلي، نجد أن إسرائيل قللت من أهمية قوة حزب الله منذ الأيام الأولى بأعتمادها مبدأ جورج بوش: «المهمة قد أُنجزت»، ولكن حين تحركت القوات على الأرض اكتشف واقعاً مماثلاً لما يواجهه الاحتلال الأميركي في العراق، وهو أن احتلال الأرض ممكن، ولكن السيطرة عليها أمر مختلف تماماً؛ الملاحظة التي دأب القائد الأعلى للمقاومة الاسلامية السيد حسن نصر الله على تكرارها خلال إطلالاته الإعلامية.
وهكذا، استطاع الجيش الاسرائيلي الدخول الى عدد من القرى، لكنه لم يتمكن قط من الاحتفاظ بها، إذ تحولت كل قرية الى «كعب أخيل» يفقد فيها الاسرائيليون الجنود والدبابات.
ولعلّ الدراسة التي أجراها مديرا المنتدى البريطاني للنزاعات، مارك بيري وألستير كروك، هي الأكثر جدية ودقة في مقاربة الحرب بين حزب الله وإسرائيل. ذلك أن الباحثان انطلقا من معطيات ميدانية استقياها من مصادرها في تل أبيب وواشنطن، مع اعترافهما بعدم اكتمال الخصائص العلمية لما قدماه بسبب عدم قدرتهما على لقاء ضباط ميدانيين في الجانب الآخر، لأن «قياديي حزب الله لن يتحدثوا علناً عن أسلوب إدارتهم للمعركة، ولا عن انتشارهم ولا عن استراتيجيتهم في المستقبل».
ويؤسس كروك وبيري على ملاحظات أمنية وسياسية وعسكرية، فيخرجان بنتيجة تخالف «وجهة النظر» الإسرائيلية والأميركية، إلى حد إعلان انتصار حزب الله الذي «نجح في اختراق الاستراتيجية الإسرائيلية ودورة صناعة القرار عبر سلسلة عمليات استخبارية وعسكرية وسياسية، وحقق انتصاراً حاسماً وكاملاً».
وبناءً على المجريات الميدانية، يمكن الحديث عن مرحلتين تفصل بينهما هدنة الـ48 ساعة بعيد مجزرة قانا الثانية، حين زجت إسرائيل فعلياً بقواتها البرية بعد أن كانت في الأسابيع الأولى تعتمد على سلاح الجو مع تقدم «خجول» لسلاح البر؛ المرحلة الثانية وصفها الصحافي روبرت فيسك بالقول إن «الجيش الإسرائيلي يواجه الآن أقسى حرب عصابات في تاريخه. حرب عصابات كان مقاتلو حزب الله ينتظرونها ويصلّون لها بفارغ الصبر ليقاتلوا الجنود الإسرائيليين على الأرض نداً لند في ظل عجزهم عن إسقاط طائرات الإف 16».
بدوره، يختصر معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى مشهد المواجهة العسكرية، في دراسته التقويمية التي وضعها الباحث والخبير العسكري جيفري وايت، بالعبارة التالية «حزب الله يؤدي دوره بشكل جيد جداً، حيث احتاج الجيش الإسرائيلي إلى أربعة أسابيع كي يغرق في وحول قرى صغيرة في جنوب لبنان، بينما احتاج إلى سبعة أيام للوصول إلى مشارف بيروت خلال اجتياح العام 1982».
تبقى الإشارة الى عنصر الدعاية الذي حاولت به إسرائيل رفع معنويات جنودها وجبهتها الداخلية من خلال زعم أن عدد القتلى في صفوف حزب الله بالمئات، فيما الدراسات التي رصدت الحرب تعلن صراحة أن الخسائر البشرية لدى الطرفين متساوية «تقريباً»، ذلك أن «من المستحيل ألا يشيّع حزب الله شهداءه، وقد أقام الحزب 180 جنازة؛ وهو ما يقارب عدد القتلى في صفوف الجيش الاسرائيلي»، بحسب المنتدى البريطاني للنزاعات والكاتب الأميركي ريتشارد ووكر.
اليوم الأول: أتعلم ماذا يعني غزو بنت جبيل؟
أوردت صحيفة «صانداي تايمز» البريطانية تحقيقاً عن مجريات اليوم الأول للحرب في الجانب الإسرائيلي:
«على بُعد مئات الأمتار من القاعدة الجوية الإسرائيلية في تل أبيب، تجمع حشد من الضباط يراقبون مسار اليوم الأول من الحرب على حزب الله.
إنه الثاني عشر من شهر تموز، والطائرات الإسرائيلية على وشك مهاجمة المركز العصبي للحزب في ضاحية بيروت الجنوبية. من بين هؤلاء الضباط، الذين كانوا يدخنون بعصبية واضحة، اللواء دان حالوتس (58 عاماً)، الطيار الجريء الذي شارك في حرب عام 1973، يواجه اليوم أهم اختبار في حياته العسكرية. قبل منتصف الليل، صدرت الأوامر لطائرات الـ«أف 15 إي» بإطلاق النار واستهداف صواريخ «زلزال» الإيرانية الصنع. في غضون لحظات، تم تفجير أولى منصات صواريخ حزب الله. وبعد 39 دقيقة عصيبة، سُمع صوت قائد سرب الطائرات الحربية: دمّرنا 54 منصة صواريخ. لنعُد إلى القاعدة.
ابتسم حالوتس. اتصل بمنزل رئيس الوزراء إيهود أولمرت عبر الخط الأحمر، مبشراً ومفتخراً: دمّرنا جميع الصواريخ البعيدة المدى. وأضاف أربع كلمات: لقد ربحنا هذه الحرب.
في هذه الأثناء، كان 12 جندياً من وحدة الاستطلاع (ماجلان) يركضون للهروب من كمين وقعوا فيه في قرية مارون الراس قرب الحدود. قال أحد الجنود: لم نعرف ماذا أصابنا. خلال ثوان، قُتل اثنان من مجموعتنا. ومع سقوط عدد من الجرحى، اضُطرت ماجلان، التي تُعد من وحدات النخبة في الجيش الإسرائيلي، إلى الانسحاب تحت النار، مذهولة بقوة حزب الله.
يقول جندي آخر: من الواضح أن مقاتلي حزب الله لم يسمعوا أبداً أن على الجندي العربي الفرار عندما يواجه الإسرائيليين، ويضيف: لقد كنا نتوقع أن نلقى خيمة وثلاثة رشاشات كلاشنيكوف. هذا ما أخبرتنا به الاستخبارات الإسرائيلية، ولكن بدلاً من ذلك، وجدنا أنفسنا أمام باب فولاذي يقود إلى شبكات من الأنفاق المجهزة جيداً.
لم يستطع قائد المنطقة الشمالية اودي آدم تصديق أن أفضل جنوده وقعوا بسهولة في كمين، كذلك كانت حال حالوتس الذي تساءل: ما هو خطب ماجلان؟ أجاب آدم: إنهم محاصرون، عليّ إرسال المزيد من القوات.
وبينما كانت فرقة (إيغوز) تستعد لإنقاذ (ماجلان) في مارون الراس، كان عدد آخر من الجنود يسقط في كمين ثانٍ بعد ساعات، قبل أن تتمكن وحدتا النخبة من سحب القتلى والجرحى. أما مقاتلو حزب الله فعادوا إلى الأنفاق في انتظار الجولة الثانية.
قررت القيادة الإسرائيلية تدمير بنت جبيل، معقل حزب الله، بسبب رمزيتها. ففي هذه القرية، ألقى حسن نصر الله خطابه الشهير عام 2000، معلناً انتهاء 18 عاماً من الاحتلال.
أصدر حالوتس الأمر لآدم: اغزوا بنت جبيل، فأجاب الأخير: تمهّل حالوتس. أتعرف ماذا يعني ذلك؟ أتعلم أن الكسبة (السوق القديم) في بنت جبيل تضم وحدها 5000 منزل؟ وتريدني أن أرسل كتيبة واحدة فقط؟
في النهاية، نفذ آدم مطلب رئيسه، وأرسل كتيبة من لواء غولاني إلى مهمة مستحيلة.
صار واضحاً للجميع في تل أبيب أن المعركة ستكون أصعب بكثير مما توقع حالوتس، الذي كشفت الحرب سمعته وأنزلتها إلى الحضيض، ومعها سمعة الجيش الذي لا يُقهر».
-----------------------------
المصدر:
تعتمد هذه المقالة أساساً على تحقيق نشرته صحيفة «الصنداي تايمز»، إضافة إلى دراسة أعدّها الباحث والخبير العسكري جيفري وايت لمعهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، ودراسة ثانية أعدّها الباحثان مارك بيري وألستير كروك من المنتدى البريطاني للنزاعات
تعليقات: