سلق القمح امام منزل نزّال نزّال (الصور لـ علي علوش)
عند الثالثة فجرا، نظر أدهم نجدي إلى صريفا النائمة، فإذا بها تشهد أسوأ كوابيسها. في دقيقة واحدة، أشعلت ثلاثة انفجارات هائلة ثلاثة بيوت. لما خبا الضوء وعادت القرية الى عتمتها، ارتفع هدير الطيران. قصف الحقول الممتدة على أطراف صريفا. وراحت المروحيات تمشط.
أدهم ورفيقه مالك في واحد من هذه الحقول. لا يطالهما القصف. أدهم يقول لرفيقه: راحوا الشباب.
راحوا. دقيقة لا غير. سددت اسرائيل الى كبد القرية وأصابته. وإذ خرج الناس من حيث أمضوا ليلهم الى صباح الخميس في العشرين من تموز ,2006 لم يعرفوا قريتهم. رأوا نهاراً سيظل في ذاكرة القرية الى الأبد.
وسيم. عماد. كامل. أحمد. محمد. علي. هشام. حسن. عباس. بلال. نديم.. أسماء للائحة طويلة. ثلاثة وعشرون شهيداً، بينهم سيدة في السادسة والثمانين من العمر، ورجلان ستينيان. أما الباقون، فأكبرهم عمره اثنان وأربعون عاماً، وأصغرهم شابان في العشرين.
المجزرة استهدفت شبان القرية إذاً. هؤلاء الذين قرروا أن يقاتلوا من أجل صريفا. مجموعة من الحزب الشيوعي اللبناني، وأخرى من حركة أمل، وثالثة من حزب الله.
هذه ليست مجزرة عشوائية اخرى تقع بين المدنيين على عادة جيش «الدفاع» الكريه. هذا هدف محكم. ضربة قاصمة.
[[[
قبل عشر دقائق فقط، كان أدهم قد مرّ على رفاقه الشيوعيين. هؤلاء الذين التزموا نداء قيادتهم بالبقاء في القرى والاستعداد للمواجهة، كانوا يرتاحون بينما رفاق آخرون لهم يحرسون في بساتين قريبة من «حي موسكو». «العصفور» محمد علي نجدي، خال أدهم، اغتسل وحلق لحيته ووقف أمام المرآة يسألها ضاحكاً: «أليس حراماً على مثل هذا الشاب الوسيم أن يستشهد». مزاح من المفترض أنه كان عابراً. عصفور لم يكن خائفاً. هو واحد ممن قاتلوا في «جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية» (جمّول). هذه المرة، كان مستعداً.
دار أدهم حول ركام البيت الذي تحته خاله والرفاق. دخل في كوّة ووصل الى حيث يفترض ان يكون الشباب. وجد ركاماً عالياً. على امتداد أربعة أيام بعد وقف إطلاق النار، ستظل القرية تنبش ركام البيوت الثلاثة باحثة عن شهدائها. كان مثل هذا العمل في الحرب مستحيلاً، ويوم الهدنة لم يسعف صريفا على دفن أبنائها كما يليق بهم، وبها.
أربعة أيام والجميع يعمل على انتشال الجثث، والأقارب يدورون حول الركام وينتظرون. هذا بعد الحرب. قبلها، كان صراخ نسوة صريفا يخرج من القرية نفسها، أو من أماكن النزوح.
في عاليه، كان نزّال نزّال يتقبل العزاء بابنه علي في مدرسة. كان قد ترك صريفا قبل يومين من المجزرة. ظل في القرية مع بكره العشريني ابن «حركة أمل». لكن الاب والابن لم يلتقيا منذ أيام. في الحوار الأخير معه، جرّب الاب أن يطلب من ابنه مغادرة القرية. للمرة الأولى في حياته يقول الولد لأبيه «لا». «من سيساعد على الأقل في انتشال الناس من تحت الركام إذا أغارت إسرائيل علينا؟». أقنع الولد والده.
في ثاني أيام الحرب، كان علي أول من ركض الى البيت المقصوف فوق رؤوس عقيل بهيج مرعي وزوجته أحلام وطفليه علي وفاطمة. استهداف العائلة كان فاتحة المذابح في حرب تموز. يومها، لو أرادت اسرائيل أن تغير ثانية على البيت نفسه، لوجدت أكثر من ثلاثمئة شاب ينقبون في الركام، بينهم كل الذين استشهدوا في مجزرة العشرين من تموز.
أصيب الوالد في ولده، وفي أولاد قريته. هؤلاء كانوا سيقاتلون إسرائيل. علي جاء إلى أبيه في صباح اليوم الثاني للحرب وكل وجهه يضحك. قال لأبيه: «أخيراً سنقاتلها». بهذا الوجه البشوش لابنه الشهيد التصقت ذاكرة ابو علي طوال أيام الحرب. تفاءل بشجاعة الوجه الذي لن يراه مجدداً. قال أبو علي يومها إن اسرائيل لن تنتصر علينا ولن تعود الى بيوتنا.
اليوم، يقف ابو علي في أرضه معتمراً قبعة خضراء كتب عليها «كشافة الرسالة الإسلامية». يشرف على زوجته وبناته والجارات وهن ينتظرن القمح الذي يسلق في القدر الكبير حتى يستوي فيحملنه على رؤوسهن الى سطح الطابق الثاني من البيت كي يجف في الشمس.
عاد الرجل الى حياته، وإن كان علي لن يشغل الطابق الثاني من البيت الذي كان يبنى قبل الحرب من أجله. خسر شاباً. يعوّض عليه فخره بابنه وبأبناء قريته. بالشهداء الذين ذهبوا معاً، من دون أن تفرق اسرائيل بين شيوعي و«حركي» ومنتم لحزب الله، تماماً كما لم يفرقوا هم. تماماً كما لم تفرق بينهم صريفا التي دفنتهم كتفاً الى كتف في مدفن خاص بهم، بات حتماً رمزاً لهذه القرية.
على رخامات القبور، حفر المنجل والمطرقة بالأحمر، وكتبت كلمة «الفاتحة» إلى جانبهما، وخُط تحتها خط بالاحمر: جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية.
على ضريح آخر، ثبت شعار حزب الله، وعبارة شهيد الوعد الصادق.
على الثالث، نحت شعار أمل بالأخضر.
اليوم، السبت في 21 تموز ,2007 تحيي الأحزاب الثلاثة مجتمعة، ذكرى شهدائها.
الضربة لم تكن قاصمة، صريفا أدركت رمزية المجزرة. فخورة هذه القرية بأنها تعطي معنى مضيئاً لمفهوم المقاومة.
أزهرت شتلات التبغ فيها. ثمانمئة دونم من التبغ. كلها خضراء. الأرض تعطي، وصريفا تعيد بناء بيوتها. 280 بيتاً محتها اسرائيل. بنى الناس بمال الدفعات الأولى التي دفعتها الحكومة، وها هم ينتظرون منذ شهور الدفعة الثانية. ابو علي يسأل عن نوع «الأخلاق» التي جعلت الدولة تعوّض على الناس في دفعات تتأخر «حتى دخلنا في سنة وهناك من لم يعد بعد الى بيته. يا عيب الشوم»..
[[[
خرج أدهم نجدي مع الخارجين من صريفا بعد المجزرة. الطالب في السنة الجامعية الأولى فرع العلوم السياسية يتقد حماسة ونشاطاً. كان يقوم بمهامه «العسكرية والمدنية» على حد سواء قبل النزوح. ولما غادر صريفا ساعد الناس في نزوحهم. وفي بيروت تطوع مع شبان النجدة الشعبية وسقط عليه قضيب حديد وهو يعمل فوق ركام مجزرة الشياح. أصابه في قدمه وكانت الإصابة طفيفة. عاد الى قريته بعد الحرب. عمل مع الآخرين في أيام صريفا الأربعة. وبدأت حياته تعود الى مجراها، هو الناجي من مجزرة ظنه أهله ورافاقه لأيام واحداً من شهدائها.
في الخامس عشر من ايلول، كان الحزب الشيوعي ينظم تكريماً لشهدائه في صريفا. وكان أدهم نجدي على حركته الدؤوبة. يمشي ذهاباً وإياباً في شوارع القرية. يمر في بستان جده. تنفجر قنبلة عنقودية مطمورة أمام قدميه. لا يتذكر شيئاً عن الأيام الأربعة التالية.
حين عاد الى وعيه، في المستشفى، علم أن فقرتين من ظهره قد كسرتا. أصيب بشلل نصفي أقعده.
أدهم شاب نحيل. لحيته طويلة لكنها ليست مكتملة ولا مشذبة. بالرغم من شعره القصير، فاللحية تذكر بالرفيق إرنستو تشي غيفارا. الحزب الشيوعي اللبناني أرسل أدهم الى كوبا للعلاج. خضع هناك لعملية جراحية ولعلاج فيزيائي. قال له الأطباء إن العملية لو أجريت في الساعات الأربع والعشرين الأولى للإصابة لما كان بما هو فيه اليوم.
يسخر أدهم من مهارة المستشفيات التي تنقل بينها وهو غائب عن الوعي. الأطباء الكوبيون متفائلون بأنه إذا تابع علاجه الفيزيائي فإن حاله ستتحسن. عاد من كوبا الى لبنان وما زال يتابع العلاج. يفكر الآن بالذهاب الى أوكرانيا حيث من الممكن أن يتابع علاجه بإشراف متخصصين. غير أن الرحلة تحتاج الى آلاف عدة من الدولارات، ليست بمتناول العائلة.
يضيق السرير على جسد الشاب النحيل، فتتقد عيناه بالنشاط. غير أن شيئا من الحزن يطغى على ملامحه. ما به؟ نفسه متعبة؟ يستفزه السؤال: «أنا نفسيتي بتتعب؟ له يا زلمي. معقول؟ تنساش! أنا شيوعي».
حسناً. ما العمل الذي سيقوم به الشيوعي؟ سيتابع العلاج الفيزيائي حتى يمشي من جديد، وقبل بداية العام الجامعي المقبل.
«انتبه: رح إرجع إمشي عادي.. ومش عم أعرج».
[[[
قبل أشهر من الحرب، عاد محمد ديب كمال الدين إلى البيت بلحية طويلة، بعد غياب.
ابن الأعوام العشرين كان في دورة عسكرية مع المقاومة الإسلامية. أشار له والده: «تعا لهون. أخبرني؟ ما هي معنوياتنا؟» أجاب الابن: «لو كنت ترى يا أبي! قسماً بالله سنزلزل الأرض تحت أقدام إسرائيل إذا فكرت بالهجوم علينا».
اطمأن الأب. الرجل الستيني يحتاج الى مثل هذه المعنويات.
هو أمضى عمره ملتزماً بالقضية. تطوع في «الحرس الشعبي» الذي أسسه الحزب الشيوعي في أوائل السبعينيات. لاحقاً، في الثمانينيات ساعد «جمول» كثيراً. في العام 1983 أدخل الى القرية ثلاثة آلاف كيلوغرام من المواد المتفجرة في شاحنة طحين. مر على الحاجز الاسرائيلي ومزق الجندي بعض أكياس من الطحين قبل أن يسمح له بإكمال طريقه. وزع المواد على الرفاق في القرية واحتفظ في علية المنزل بخمسمئة كيلوغرام منها. «قلت شو هيدا؟ طحين ذرة؟ اصفر مبين هالطحين؟» يتدخل صوت مسن لطيف بهذه العبارة الاعتراضية. والدته التسعينية تقاطع حكايته. وضع «الطحين» عندها ولم تعلم.
ابو فادي شيوعي، وابناه فادي (31 عاما) ومحمد في المقاومة الإسلامية. التحق الشابان بالمقاومة في اليوم الأول للحرب بالطبع. فادي عريس «جديد جدا». قبل 12 يوماً من بداية الحرب تزوج فادي من زينب. فادي كهربائي بينما محمد يعمل في تركيب الألمنيوم. حرفيّان، يخرجان الى واجبهما حين تدعو الحاجة. استشهدا معاً في الثاني والعشرين من تموز، في حقول صريفا.
ماذا؟ شعور «أبو فادي» مثلاً؟ «أنا فخور وأرفع رأسي بهما. كان خوفي أن أعود الى الجنوب هكذا (يشير بعلامة النصر نزولاً). خفت أن أعود ورأسي في الأرض. ابناي رفعا رأسي. شباب صريفا والمقاومة رفعوا رأسي. صريفا كانت خط الدفاع عن الليطاني. كانت تنتظر معركتها، لكن قرى الخط الأمامي قامت بالواجب وأكثر».
تقديم الدم واجب. لا يمكن لمقاوم من جيل قديم أن يقول كلاماً غير هذا. كيف أتاه الخبر؟ «انقطع الاتصال بهما. أين هما إذاً؟ ثم إنني حكيت مع زينب، زوجة فادي، وكانت تبكي، فعرفت .
يعود ابو فادي الى ذكرياته مع المقاومة. يقاطعه الصوت المسن المرح: «عذبني كتير هو وأعزب.. ييه شو عذبني».
يتدخل ابنها الثاني، شقيق ابو فادي، مناكفاً: «أنا ما عذبتك يامي».
تجيب: «إنت مش قبضاي. هوّي كان قبضاي. هو مسلح و«أمن شعبي» وما بعرف وين وما بعرف وين. يقولولي يا مشحرة إسّا بيقتلولك ياه. مع الشيوعيين، ما بعرف مع مين هوّي».
ينساب كلامها العذب بمرح شديد، يضحك الجميع، أما هي فتخرج من البيت الى الباحة الخارجية، تجلس في الظل، مطمئنة.
[[[
زينب زوجه فادي تعيش اليوم في منزل أهلها.
جاءها ابن عمها في المنام. الرجل المتوفى قبل شهرين من الحرب، كان في عينيه خبر. سألته عن فادي فقال لها: والدك بخير وأعمامك بخير. سألته عن فادي مرة ثانية، صار يبكي.
أفاقت زينب على صوت «الله أكبر» يدعو الناس الى صلاة الفجر. هي نازحة في بيت جدها في بيروت. قامت تتصل لتطمئن. قيل لها إن الاتصال بفادي مقطوع... عرفت.
في السابع والعشرين من تموز بلّغها حزب الله باستشهاد زوجها. انهارت وجاءت الهيئة الصحية لتسعفها. رفضت أخذ أي حقن. حدثها قلبها بخبر. في اليوم الثاني علمت انها حامل. لا تعرف لماذا، لكنها فرحت كثيراً. على اسم ابيه إذا كان صبياً. لم تفكر باسم للبنت، لأن قلبها حدثها أنه صبي. لم تنقل إحساسها الى أهل فادي، فربما خاب ظنهم لاحقا إذا كان المولود فتاة.
لم تنفع الصورة الصوتية في الكشف عن هوية الجنين لأنه كان مقلوباً على بطنه. أكملت كل أيام حملها. وحين وضعت جنينها حققت وعدها: فادي فادي كمال الدين. سيكبر فادي. وستعلمه أن يكون فخوراً بأنه ابن شهيد، وليس خجولاً لأنه يتيم.
ننتظر فادي حتى يفيق من النوم. يقوم عابساً. بعد قليل يضحك ويضحك. اسمر لأبيه. حين ولد كان أبيض البشرة لأمه. يتغير الأطفال كثيراً. لكنه فادي صغير.
مدفن الشهداء في صريفا الذي كان ترابياً قبل نحو سنة، صار الآن مرصوفاً بالبلاط وقد ارتفعت عليه أضرحة الشهداء ولكل بعض من اغراضه معروضة في خزائن زجاجية، والشهداء هم: وسيم غالب نجدي، عماد علي جابر، كامل ذيب جابر، الحاجة مناهل حسن نجدي، أحمد سليم نجدي، محمد علي نجدي، علي محمد علاء الدين، محمود كامل جابر، علي حسين جابر، علي محمود نجدي، بسام محمد نجدي، هشام محمد نجدي، أحمد كامل جابر، علي محمد دكروب، علي حسين نجدي، حسن سلامة كريم، عباس أمين دكروب، علي كامل جابر، علي نزال نزال، فادي ديب كمال الدين، محمد ديب كمال الدين، علي محمد زعرور، بلال حسن حمودي، عباس محمود دكروب، علي محمد حيدر، نديم محمد سعيد، والشيخ وسيم شريف شريف.
فادي كمال الدين ووالدته زينب
أدهم نجدي
تعليقات: