ضمائر مصر ظلت موجودة في مجتمعها المدني

الدكتور كامل مهنا
الدكتور كامل مهنا


أيها الأخوة والأخوات

إنني أوجه باسم لجنة المتابعة لمنظمات المجتمع المدني في لبنان تحية إلى ثورة شعب مصر التي أنجزت خلال أسابيع أشواطاً في تاريخ الأمم.

فيا شباب وشابات مصر، لا ترضوا بأقل من شمس الحرية كاملة، تبدأ بمحاكمة من أودعكم سجونه وأشبعكم ضرباً وتعذيباً ثلاثين عاماً متواصلة، بالإضافة إلى سياسات التبعية والخنوع وممارسات الاستبداد والفساد والتي اكتسبت بعداً إضافياً بعد الإجرام والإرهاب عبر ما شاهدناه في ميدان التحرير يوم الأربعاء الماضي.

لقد أسقطت هذه الثورة، وقبلها انتفاضة تونس المجيدة، كل محاولات التشكيك بدور الشعوب وقدراتها ممن احترفوا نهج الاستخفاف والازدراء بالجماهير.

لقد فاجأ شباب مصر، عبر المبادرات الخلاقة التي يطلقونها، الجميع بقدراتهم على مسك فراغ أوجده استبداد الأنظمة وترهل التنظيمات.

إن مصر الثائرة، تقدم مشروعاً عربياً ومعها كل مواقع المقاومة في أمتنا العربية، في مواجهة التحديات المشتركة وإحياء المشروع العربي المفقود في مقدمها التحدي الاستعماري الصهيوني.

إن الزلزال الذي ينطلق من مصر وانتفاضة شباب مصر وارتداداته على مستوى الوطن العربي يؤكد مرة جديدة أن هذه الأمة هي أمة واحدة وإنها وحدة سياسية واجتماعية تتأثر أجزاؤها كلها بما يواجه أي جزء منها.

إن ثورة مصر ومعها ثورة تونس خلقت معادلة: " الأنظمة تخاف الشعوب"

إن هؤلاء الشباب الذين لا سلاح لهم سوى إيمانهم بالثورة والتغيير واجههم النظام بطائرات الفانتوم التي لم تخيفهم فلجأوا إلى البلطجية والجمال ومختلف وسائل قمع المظاهرات، بينما يزداد الالتفاف حول شباب مصر وحقهم في الطموح بمستقبل أفضل وأن نصيحة شباب وشابات تونس إلى أخوانهم في مصر هو الصبر والثبات حتى تحقيق النصر.

وإننا نتوجه إلى أخوتنا في مصر أن لا يقعوا في فخ الاختيار بين الإصلاح والثورة، فعليهم الثبات في مواجهة كل محاولات التمييع تحت عنوان الإصلاح على حساب الثورة من أجل إجهاضها.

فالمطلوب إسقاط النظام وليس إصلاح النظام،

أيها الأخوة والأخوات

إن التقوقعات القبلية والإقليمية والمذهبية والطائفية بات التخلص منها في حيز الإمكان. لقد خرج التفاؤل من حيز المستحيل.

فأين موقع لبنان من هذا الذي يحصل، وأين يجب أن نكون؟

إن النظام الطائفي في لبنان يخنق ويهمش مفهوم المواطنة، إن الحركات الاجتماعية يصعب عليها أن تغير المعادلات السياسية السائدة نظراً إلى حضور البعد الطائفي في تركيبة النظام السياسي، الأمر الذي يجعل "الصراع الاجتماعي" انعكاساً وامتداداً لتلك الحالة.

إلا أنه يقع على عاتق منظمات المجتمع المدني أن تعمل على إحراج اللبناني من سجن الطائفة إلى رحاب المجتمع والوطن.

ففي ضوء التطورات في مصر وتونس، قد يصبح ما نسعى إليه منذ عقود لكي ينتقل اللبناني من كونه عنصراً في قطيع من طائفة إلى مواطن متحرر من رواسب التزمت والتقوقع الكابت.

إنها فرصة المجتمع المدني في اللبناني وسائر مكوناته ليقتحم ويخرج مفاهيم السياسة من حيز الحرتقة إلى ساحة المنافسة على برامج الانتماء المواطني والعدالة الاجتماعية.

إن مستوى الحياة السياسية في لبنان جعل أي تحرك للشارع يأخذ طابعاً طائفياً ومذهبياً في مواجهة الواقع المعيشي الصعب. إلا أن هذا الواقع لا يعفينا كنحب لبناانية وكمنظمات مجتمع مدني من تحمل مسؤولياتنا، وذلك برفض الانخراط في أجهزة الفساد والتحريض الطائفي واستخدام الفقراء في المحارق المذهبية.

لقد نسيت معظم الهيئات المعنية بقضايا الناس وهمومها القضية الاجتماعية والديمقراطية، أياً يكن الكلام التبريري والاستهلاكي، فالعامل الذاتي يلعب دوراً كبيراً في إخفاق الخيارات التي نتبناها كقوى تغييرية. فتحقيق الإنجازات ليس فقط بسبب موازين القوى المختلة، وإنما أيضاً بسبب ضعف البنى الذاتية والصراعات الدائرة بيننا.

أيها الأخوة والأخوات

إن ثورة الشعب المصري سيكون لها أثرها على كل عربي من المحيط إلى الخليج، وسيكون لها تأثير على كل مشاريع الاستعمار في منطقتنا، فقد تتحول ثورة مصر الجديدة إلى ثورة تخطف عقل وقلب كل عربي، إنها ستعيد إلينا حيوية كادت انتكاسات فلسطين والعراق تأخذها إلى غير رجعة.

لقد اهتدت شعوبنا إلى طريق الحرية وسينتشر عدوى المثال التونسي والمصري إلى غير بلد عربي، إنها المقاومة الاجتماعية التي توحد الشعب ضد قامعيه وناهبي ثرواته.

لقد علمنا محمد البو عزيزي الكثير، وكذلك شباب وشابات مصر، إن تكديس المليارات والإنفاق غير المحدود والغرام غير المسبق بالسيارات الفارهة والشقق العديدة الموزعة على غير عاصمة وبالطائرات الخاصة وباليخوت السياحية أدخل في مجتمعاتنا العربية مستويات غير معهودة من الفساد والإفساد.

وتساوت النظم المعدمة بالدول الغنية في ممارسة هذا الغي وجوهره هوة سحيقة تزداد عمقاً كل يوم بين من تطال يده المال الحلال والحرام ومن يبقى معدماً هامشياً.

فلننظر إلى تلك المئات المعدودة من الأفراد التي استولت في كل بلد عربي على ثلث أو أكثر من كامل الثروة المحلية.

إن الأيديولوجيا النيوليبرالية قد عمقت الهوة بين الثري والفقير في مختلف أنحاء العالم. إن 7 ملايين بشرياً من أصل 7 مليارات يملكون اليوم أكثر من ثلث الثروة الدولية واللامساواة في المداخيل على تعمق يزداد حده في كل بلدان العالم، فالفقراء يزدادون فقراً والأغنياء غنى والهوة تتسع بينهما والطبقة الوسطى تتهاوى.

إن ما علمنا إياه البو عزيزي وشباب وشابات مصر، أن هذا الغي يواجه بالرجوع إلى الغضب العاري والعفوي، بالعودة إلى الرفض البسيط للظلم، وإذا بالخوف الذي بداخلك يتحول فجأة إلى هلع عند خصمك الحاكم المستبد الثري.

وهنا يأتي دور منظمات المجتمع المدني، فالأساسي هو في مدى نبذه للظلم، ومدى استجابته للتضحية. أنا واثق من وجود مخزون شعبي حقيقي معاد للظلم والغي، إلا أن أفضل أنواع المجتمعات المدنية التي لم تصب بانقسامات عمودية عديدة، طائفية ومذهبية وجهوية، حتى لا يوسم الحراك الاجتماعي بالفئوية، كما هو الحال في لبنان.

إن أهم شروط نجاح المجتمع المدني هو القدرة على الفصل بين الدولة والنظام، بالحفاظ على الأول ومقارعة الثاني.

وإن رفض هذا الغي هو شرط نقل الخوف من ضفة الناس إلى ضفة الحكام، وهو مفتاح التغيير وتحقيق الحلم.

إن ثورة شبان وشابات مصر تشكل منعطفاً حاسماً سيؤدي إلى تغيير وجه السياسة والاجتماع والاقتصاد في جميع البلاد العربية. إن واد النيل بات منارة جديدة تنير طريق المشتاقين للحرية والعدالة ترسل إلى جميع شعوب العالم العربي الرغبة الجامحة في الإطاحة بالحكام الطالمين ورفض الخضوع لدول الشمال التي تفرض سلطتها معتمدة على تفوقها التكنولوجي والصناعي والعسكري.

فمن منظمات المجتمع المدني في لبنان تحية لثورة تونس ومصر، ولكل ثورة تواجه مشاريع الاستعمار في منطقتنا وخصوصاً في فلسطين. ونعلن تضامننا مع كل عربي يطال بالعدالة وبحقوقه المنتهكة من قبل حاكميه من تونس إلى مصر إلى كل مظاهر الاحتجاج في الوطن العربي، لم يعد بإمكان أحد إسكات صوت الحق، فالشعب توحد لمقاومة الظلم، على أمل أن تولد أمة عربية قيمة على شعوبها وحقوق مواطنيها.

وفي الختام، إن مصر قد خرجت من سجنها، إن ضمائر مصر ظلت موجودة في مجتمعها المدني الأكثر تقدماً في دنيا العرب. إن ثورة (25يناير) تنادي بالحرية والديمقراطية والكرامة الوطنية والتنمية ومكافحة الفساد.

وإننا في منظمات المجتمع المدني في لبنان نوجه مجدداً التحية إلى شباب وشابات مصر، إلى شعبها الطيب، وإن خطتنا لمساندة الثورة هي التالية:

1. مواصلة التحركات التضامنية مع الثورة في مختلف أشكالها.

2. مواصلة التنسيق مع المنظمات الدولية والحقوقية وجمعيات حقوق الإنسان لملاحقة النظام المصري ومحاكمته.

3. البدء بجمع الأدوية لكي ترسل لاحقاً إلى المعتصمين في ميدان التحرير.

4. إنشاء لجنة مشتركة من منظمات المجتمع المدني ووسائل الإعلام لمتابعة التطورات الميدانية في مصر.

وسنستمر نهتف مع الثوار في مصر:

"إرحل، إرحل، الشعب يريد إسقاط النظام"

ونردد مع الكاتب البرازيلي العالمي باولو كويلو، كاتب رواية الخيميائي:

"لا تنسحبوا، عانوا الآن وعيشوا بقية حياتكم كأبطال"

..

.

*

كلمة ألقاها الدكتور كامل مهنا (منسق لجنة المتابعة لمنظمات المجتمع المدني في لبنان) بمناسبة اللقاء التضامني مع ثورة مصر في نقابة الصحافة بتاريخ 08/01/2011

الدكتور كامل مهنا يلقي كلمته في نقابة الصحافة
الدكتور كامل مهنا يلقي كلمته في نقابة الصحافة


تعليقات: