حين عادت ليال بأغلى صورة

قبر ليال والكامير إلى جانبه (بلال جاويش)
قبر ليال والكامير إلى جانبه (بلال جاويش)


«نيّال اللي بيموت شهيد». لطالما ردّدت المصورة ليال نجيب هذه الجملة لصديقتها نادين. لم يبخل الموت على ليال، وجاءها استشهاداً كما تمنّته. في الثالث والعشرين من شهر تموز الفائت، أخذت ليال الكاميرا واتجهت جنوباً تلهث وراء الصورة التي «تزيد أهميتها في أيام الحرب، لأن الجميع يرونها بينما قد لا يقرأون المقالات» قالت لأمها من دون أن تخبرها أنها ستذهب إلى الجنوب.

إلا أن طائرات الاستطلاع الأميركية اصطادتها بالاستعانة بكاميرات تفوق كاميرتها دقة وتختلف عنها نوعاً، بينما كانت تقوم بواجبها المهني على طريق قانا ـــــ صديقين، حيث تزيح جمعية «ذاكرة» عند الساعة الخامسة بعد ظهر اليوم الستار عن الشجرة التي زرعتها هناك تخليداً لذكراها.

الكاميرا كانت سلاحها الوحيد. وشغفها بالتصوير هو الذي دفعها إلى التوجه جنوباً من دون إعلام أصدقائها وأهلها الذين كانوا سيمانعون لو أخبرتهم. فحين اتصلت أمها بها عند الساعة الحادية عشرة صباحاً، كانت قد وصلت إلى جسر القاسمية كما أفاد السائق الذي نجا من الحادثة. لم تقل لها أين هي لكن الأم أحسّت باستعجالها على إنهاء المكالمة مع وعد باللقاء مساءً.

لم تكن ليال تخبر أهلها عن جولاتها في الضاحية وفي الجنوب خلال العدوان. تدابيرها كانت تقتصر على خطة اتفقت عليها مع أخيها. ترنّ له رنة واحدة من هاتفها الخلويّ فيفهم أنها دخلت إلى الضاحية، وأنها لو تأخرت حتى المساء في مكالمته، فعليه أن يسأل ليطمئن على خروجها سالمة من هناك. كانت ليال تعمل حينها في مجلة «الجرس» التي دخلتها كاتبة لكن سرعان ما خطفت الكاميرا اهتمامها فتحوّلت إلى مصورة فيها.

انتسبت ليال إلى كلية الحقوق بناءً على نصيحة أهلها، لكنها لم تجد نفسها في ذلك المجال، ما جعلها تتجه بعد سنة من الدراسة إلى كلية العلوم الاجتماعية. بدأت عام 2004 عملها في مجلة «الجرس»، وتابعت دروسها في الكلية إلى جانب حيوية يذكرها جميع زملائها وأهلها في مواكبة النشاطات الشبابية والسياسية في الجامعة. فلم تكن تفوتها تظاهرة مطلبية، عمالية كانت أو طالبية، وذلك ما كان يخيف والدتها. فهي، كما تصفها «دائماً في الصفوف الأمامية».

بدأ وعيها السياسي والوطني يتكوّن منذ طفولتها حين كانت تطلب منها خلال جولات التبضع شراء المنتجات اللبنانية دائماً. وحين حملت الكاميرا، ازداد توجس الأم. فمشاركتها في التظاهرات وذهابها لتغطية الأحداث اتخذا شكلاً أكثر رسمية وأخطر. حاولت عدة مرات ثنيها وكأنها كانت تشعر بأن نهايتها في هذه المهنة، لكن «لولو» كما ينادونها في المنزل أصرّت على عملها. فقد أظهرت شغفاً بالكاميرا لا يمكن تحجيمه حتى إنها كانت تقبّل الكاميرا ذات الطراز الحديث التي قدمتها لها المجلة لفرط ولعها بها.

في الأيام العشرة الأخيرة من حياتها غمرتها سعادة هائلة حين نشرت «وكالة الأنباء الفرنسية» صورها وعمّمت نظرتها إلى العدوان الإسرائيلي على العالم. عملها مصورةً حرة لصالح «أ. أف. ب» ولمجلة «الجرس» اللبنانية ومجلة سعودية ثقافية جعلها تجوب المناطق اللبنانية منذ بدء العدوان متحدية المخاطر بحثاً عن الصورة الحقيقية والكاملة لما يحدث. صديقها بدر، وهو مصوّر أيضاً، رافقها في مشاوير الرعب تلك وقال كثيراً في شجاعتها وشغفها بعملها الذي كافأها عليه العدو على طريقته المتحضرة.

مرّ عام على استشهاد ليال، ووجع الفراق يتزايد يوماً بعد يوم بدل أن يروّضه الوقت. «كل يوم بشتاقلها أكتر» تقول والدتها. تضيف: «أعاهد نفسي بأنني سأتوقف عن البكاء، لكنني لا أستطيع أن أحبس دموعي. تكريم الإعلاميين لها، صورها التي تتكرر على تلفزيون الجرس. أصبحت أحب كل الصحافيين لأنهم يذكرونني بها».

ما زالت الوالدة تتذكر كيف تلقت الخبر الفاجعة. كانت قد انهارت من كثرة التوتر، فحظرت على أفراد عائلتها تشغيل التلفزيون. لم تعد تستطيع أن ترى المزيد من صور الشهداء والدمار. في ذلك اليوم، دقّ شاب حوالى الساعة الثانية من بعد الظهر باب منزلها وطلب التحدث إلى زوجها بنبرة متوترة. كان البيت يعجّ بالأقارب الذين نزحوا من بيروت واحتموا في بيت هذه العائلة الطرابلسية. نادت والدة ليال زوجها، وتوالت أسئلة الوالدين التي تنتظر الإجابة وتخاف منها في الوقت ذاته. تلعثم الشاب محاولاً تمرير الفكرة بأقل الأضرار الممكنة، ضربت الأم على صدرها موهولة: «ليال بها شي؟». لم يتحمل الأب مجرد احتمال أن يكون قد فقد ابنته، فهوى أرضاً وغاب عن الوعي مباشرة. أيقظوه وآثر الشاب أن يخفّف من حدة الصدمة، فأخبرهم أنها مصابة وقد نقلت إلى المستشفى في صور. حاولوا الاتصال على رقمها فكان الخط مقفلاً. توافد الجيران إلى منزل العائلة لمؤازرة الأهل وجلس الجميع في حالة ترقّب منتظرين الخبر اليقين. لحظات هي الأقسى والأبشع، قطعها اتصال الوالد، وهو ضابط في الجيش اللبناني، مع مسؤولين من الجيش موجودين في الجنوب.

حين انفجر الوالد بالبكاء، أدركت الأم أن الموضوع قد حسم. حاولت التماسك لكنها بالكاد استطاعت ذلك... حتى اليوم. فكل شيء يذكّر بليال، صور فيروز وزياد الرحباني التي تملأ جدران غرفتها، صوت ضحكتها وحيويتها التي ما زالت أصداؤها تتردد في أرجاء المنزل، والكاميرا التي تفتقد صاحبتها. تؤمن والدة ليال بالقدر. تشعر بأن موت ليال كان «مكتوباً على جبينها»، تماماً كما توقيت المراحل المفصلية في حياتها فابنتها قد «ولدت خلال اجتياح 82 وصادف يوم ولادتها نهار اثنين. وماتت خلال العدوان الإسرائيلي نهار الاثنين من عام 2006، أما ذكراها الأولى، فهي تصادف يوم الاثنين أيضاً». حين قصدت ليال الجنوب، «طلعت إلى قدرها» كما تقول والدتها التي يشكّل موت ابنتها استشهاداً عزاءها الوحيد.

لم تقل ليال كلمة أخيرة، ختمت حياتها وهي تغني لسائق الأجرة أغاني ثورية في الطريق إلى الجنوب. قال السائق إنها ماتت على الفور بعد إصابتها بشظايا صاروخ سقط على مقربة من السيارة بين بلدتي قانا وصديقين جنوبي شرقي صور. لم يمنحها غدر القتلة فرصة تحقيق حلمها بافتتاح ستديو خاص بها. ولكن بوحشيّتهم هذه، منحها الأعداء شرف الشهادة جاعلين منها الصحافية الثانية التي استشهدت خلال عدوان تموز، بعد المدير الفني لمحطة الإرسال التابعة للـ«أل.بي.سي» في فتقا سليمان شدياق.

انتهت حياة ليال نجيب عن ثلاثة وعشرين عاماً ولم يكن أحد من أصحابها يتخيل أن تفارق الحياة جسدها الدائم الحيوية وأن تسكت روحها عن معانقة الحياة بانطلاقة وإصرار. عندما أطبق الحصار والدمار على لبنان أخبرت أصحابها استعدادها لاستقبال ما يستوعبه منزلها من عائلات نازحة. وعندما اغتالت دقة الصواريخ اندفاعها المجنون الذي لا تستقيم حقيقة من دونه، سكتت الصبية عن أحلامها لتنضم إلى قافلة من شهداء الإعلام قضوا خلال تأديتهم رسالتهم

الإعلامية.

ليال الطفلة وصور التقطتها قبل استشهادها(بلال جاويش)
ليال الطفلة وصور التقطتها قبل استشهادها(بلال جاويش)


تعليقات: