الزراعـة في البقـاع.. والحـرب: خسائـر بقيمـة تفـوق 180 مليـون دولار

قطاف البطاطا (سامر الحسيني)
قطاف البطاطا (سامر الحسيني)


وسط حقل مزروع بالبطاطا، يقف عمر الميس يشرف على العمل في أرضه الممتدة في البقاع الأوسط. توافد عشرات العمال صباحاً إلى الحقل لـ«قلع» البطاطا. كان ذلك في العاشر من تموز ,2006 أول أيام القطاف بعد أشهر من الانتظار. استمر العمل، في اليوم التالي، بالوتيرة ذاتها. كانت المؤشرات تدل على موسم جيد سيمكّن عمر من تسديد المستحقات المتراكمة عليه للمصرف ولشركات المواد الزراعية.

في يوم القطاف الثالث، في 12 تموز ,2006 خلا الحقل من العمال. فالحرب الإسرائيلية تدق على الأبواب، وعمر يبحث عن سبيل لتفادي خسارة محتمة. حوالى 2.5 ألف دونم من الأراضي المزروعة بالبطاطا والخضار، و5,1 ألف دونم من حقول القمح، باتت كلها رهينة الاعتداء الإسرائيلي.

خلال أيام الحرب الأولى، استقدم عمر عمالاً محليين بكلفة مرتفعة، ليغطوا رحيل العمالة الموسمية السورية. المخاطر الأمنية كبيرة والإمكانيات تتضاءل يوماً بعد يوم. وحدها الخسائر ترتفع: تلف خمسون في المئة من إنتاج البطاطا في الحقل. ضُرب موسم الخضار بشكل كامل. وذهب ثمانون في المئة من إنتاج القمح هدراً بسبب التأخر في حصاده لأكثر من 45 يوماً.

لم تقف خسائر عمر عند هذا الحد. فلقد تراكمت الديون والفوائد بعد الحرب، بسبب كلفة الأسمدة والبذار والأدوية والمازوت وأجور العمال، ثم فوائد الديون المستحقة للمصارف.

يقول عمر: «كنت أحصل على المواد الزراعية اللازمة عن طريق الاستدانة، باعتبار أن إنتاج الموسم سيمكنني من دفع المستحقات وتأمين كلفة زراعة موسم جديد. لكن المصارف لم تعد قادرة على تسليف المزارعين، كما أن الشركات رفضت تسليفنا من جديد قبل تسديد الديون القديمة، فهذه الشركات بدورها تستدين من المصارف لاستيراد المواد الزراعية».

لم يجد عمر سبيلاً يعيده إلى العمل غير بيع جزء من أرضه، ورهن جزء آخر للمصارف والشركات، وذلك لضمان تسديد المستحقات. تمكن بنتيجة ذلك من أن يزرع الجزء المتبقي له من أرضه، علّ زراعتها تعود عليه بما يكفيه لتسديد دينه المتراكم فيتلافى الدعاوى والملاحقة الممكنة.

عمر أب لستة أبناء، أكبرهم يبلغ من العمر 25 عاماً: «سفّرته على كندا»، يقول. تمتد الأعباء الاقتصادية الواقعة على كاهل عمر من الحقل إلى العائلة. فيخرج من جيبه علب دواء وفاتورة بقيمة 300 ألف ليرة لبنانية: «هيدي فاتورة من بين مصاريف عديدة خلال شهر. لا يوجد ضمان صحي أو أي نوع من التقديمات للمزارعين. وعلى الرغم من ذلك، تستمر الدولة في إهمال القطاع وترك المزارعين كالأيتام وسط ظروف اقتصادية واجتماعية خانقة».

معاناة الأعوام الطويلة

أعوامٌ من الإهمال وغياب السياسات الزراعية تجعل من تموز مجرد مناسبة أخرى من مناسبات الأسى الخاصة بهذا القطاع، وفي هذه المنطقة.

يقول رئيس نقابة مزراعي وفلاحي البقاع إبراهيم الترشيشي أن ذكرى تموز مع المزارعين تعود إلى عام ,2005 عندما أغلقت الحدود اللبنانية ـ السورية لأكثر من ثلاثين يوماً، ما أدّى إلى تضرر المزارعين نتيجة عجزهم على تصدير منتجاتهم.

حمل المزارعون الخسائر الناتجة عن تموز 2005 إلى تموز 2006 على أمل التعويض مع موسم زراعي يخفف من الأعباء المتراكمة. فقضت الحرب الإسرائيلية على الموسم المنتظر. وبلغت خسائر القطاع 180 مليون دولار في البقاع وحده، حسبما يؤكد الترشيشي.

حالياً، ومع حلول تموزٍ جديد، يعيش المزارعون حالة قلق ناتجة عن الأوضاع السياسية والأمنية، وحالة تخوف من إغلاق الحدود السورية، وهي «شائعات قوي مفعولها خلال الفترة الأخيرة من دون أي مبرر فعلي»، بحسب الترشيشي.

بين الـ«تموزيّن»، تمكّن البعض من زراعة الأرض لموسم جديد، فيما لم يقدر البعض الآخر على دخول الدورة الزراعية، نظراً لانعدام القدرة على تحمل التكاليف بعد خسارة مواسمهم. إلى ذلك، أدت العوامل الطبيعية دوراً سلبياً في عملية الإنتاج، إذ تقلبت درجات الحرارة على نحو حاد، ارتفاعاً وهبوطاً، خلال فترة شهر، ما أضر بالإنتاج الزراعي.

لم يتمكن المرء من استيعاب الكارثة التي حلّت خلال حرب تموز حتى اللحظة، وكأنه كتب على هذا القطاع سوء القدر، حسبما يقول نزيه البقاعي، صاحب شركة أسمدة لبيع المستلزمات الزراعية. فلقد لحقت كارثة المزارعين بأصحاب المؤسسات التجارية الزراعية أيضاً، إذ أن المزارعين يؤمنون احتياجاتهم من المؤسسات بناء على شيكات وسندات دين، ولقد تراجع تسليم الاحتياجات بشكل كبير لسببين، يشرحها بقاعي: الأول هو ارتفاع الأسعار العالمية للأسمدة، وهي أسعار تتأثر أساساً بفارق العملات الأخرى على الدولار، كاليورو، كما تتأثر بالأوضاع الأمنية والسياسية التي تؤدي إلى زيادة تكاليف تأمين البضاعة ونقلها إلى لبنان. أما السبب الثاني فهو عدم قدرة المزارعين على تحمل المصاريف من أجور عمال وثمن محروقات، ما دفعهم إلى تقليص نشاطهم، خصوصاً مع تراكم الديون. تالياً، صارت هذه المؤسسات عاجزة عن تقديم المواد الزراعية من دون قبض المستحقات فوراً، إذ تراكمت ديونها هي للمصارف. مع بداية هذا الموسم الذي استبشر المزارعون به خيراً، أتت مشكلة الشمال والأحداث الأمنية لتترك أثراً يقول البقاعي عنه أنه «بحجم عدوان تموز».

.. وسلسلة تكبّل المزارعين

يعتمد السهل على زراعة الخضار، بحسب المزارع وليد دلة. فيتطلب تصريف إنتاجه حركةً في المطاعم، كثيراً ما تكون سياحية في العادة، بالإضافة إلى الاستهلاك المحلي والتصدير. افتقد موسم تموز 2006 هذه العناصر كلها، كما أن الحركة السياحية بقيت شبه معدومة خلال فترة ما بعد الحرب، ما أدى إلى عدم القدرة على تصريف الإنتاج الحالي من الخضار.

بدوره، يذكّر المزراع طانيوس مساعد بأن نصف إنتاج البطاطا تلف في الأرض خلال حرب تموز. ولقد ارتفعت حينها أجرة العامل اليومية من خمسة آلاف ليرة إلى عشرين ألف ليرة، وارتفعت كلفة النقل لتصبح عشرة أضعافها في بعض الأحيان... فضلاً عن استهداف مقاتلات العدو للأرض، الأمر الذي منع المزارعين من زيارة حقولهم حتى انتهاء الحرب في الرابع عشر من آب .2006

وهي حلقة مفرغة تلك التي يدور فيها المزارع عدنان الويس، كسواه، فلا هو قادر على التوقف عن العمل نظراً للديون المستحقة عليه، ولا هو قادر على الزراعة بهدف دفع ديونه نظراً لعدم قدرته على الاستدانة مجدداً، لا من المصارف ولا من المؤسسات الزراعية، لشراء المواد.

يقول الويس أن الأرض باتت مرهونة بسندات، والدولة لا تلقي ولو نظرة واحدة إلى المزارع. ويضيف: «المطلوب أن تدفع الدولة التعويضات لمنع خسارة الأرض. لقد سلمنا موسم الشمندر إلى الدولة ولم نقبض دفعات الدعم منذ شهر كانون الأول.. فضلاً عن تخفيض قيمة الدعم والمساحات المزروعة».

تجدر الإشارة هنا إلى أن المواسم التي ضربت خلال الحرب هي مواسم البطاطا، والقمح، والخضار، وأصناف من الفاكهة. أما المواسم التي لم تزرع خلال فترة ما بعد الحرب فهي البطاطا والخضار. ولم يتمكن المزارعون من ريّ مواسم البصل وبعض الزراعات الأخرى.

وها هي مشكلة جديدة تبرز في وجه المزارعين، وهي: إغلاق بعض المعابر الحدودية مع سوريا والشائعات المتزايدة عن إغلاق كامل الحدود على خليفة الوضع السياسي والأمني. ما أدّى إلى نقص في اليد العاملة السورية، وبالتالي ارتفاع كلفة العمالة على المزارع، وهو عبء إضافي لن يكون بمقدور المزارع تحمّله في ظل هذه الشروط الإنتاجية التعجيزية.

جردة خسارة وأمل

يرى رئيس لجنة الزراعة في غرفة التجارة والصناعة والزراعة في زحلة والبقاع كميل حبيقة أن بعض مشاكل القطاع الزراعي في البقاع سابق لحرب تموز، وبعضها الآخر أتى كنتيجة للحرب بشكل مباشر أو غير مباشر.

تشمل هذه المشاكل غياب الاستثمارات الزراعية الكبيرة في القطاع في منطقة البقاع، وخصوصاً في المشاريع الزراعية ذات المواصفات الصناعية وغير التقليدية. يضاف إلى غياب الاستثمار نقص السيولة بين أيدي المزارعين، في الوقت الذي لا تسمح فيه البرامج التمويلية للمزارع العادي بالحصول على قروض ميسرة.

ومن المشاكل أيضاً: غياب الشروط والمواصفات والمعايير الصارمة للمنتجات المستوردة، وعدم السعي لربط المؤسسات الصناعية الغذائية بتجمعات المزارعين، والكلفة المرتفعة للإنتاج ليس فقط على مستوى الطاقة بل في المواد الزراعية وفي الأدوية أيضاً، وعدم وجود سجل زراعي يضمن مواصفات محددة وعلمية.

أما الخسائر التي أصابت القطاع خلال الحرب فيحصرها حبيقة بالكساد في الموسم نتيجة عدم جني الثمار، بسبب هجرة اليد العاملة الموسمية وارتفاع كلفة اليد العاملة البديلة، وانقطاع المواصلات. ولقد أدّى إلى تلف الإنتاج بشكل كامل في 32 ألف دونم من الأراضي الزراعية، وتفشي الأمراض الزراعية نتيجة عدم القدرة على رش المبيدات والري، فضلاً عن أن 16 ألف كائن حيواني نفقت خلال الاعتداءات.

بعد الحرب، يروي حبيقة قصة رد فعل عكسي أدّى إلى ارتفاع سعر البطاطا خلال الأشهر الأخيرة من عام ,2006 لقلة الكميات المنتجة محلياً وتلف البطاطا في البلدان المجاورة. فيستنتج حبيقة أن بعض المزارعين استفادوا من هذا الأمر، ويضيف إليه مؤشرات تدلّ على إمكانية تحسن القطاع في حال تمت العناية به، ومن هذه المؤشرات ارتفاع حجم تصدير بعض المنتجات أكثر من حجم استيرادها، وخصوصاً الكرز والتفاح.

ومن أجل غرض البقاء، تطالب الشركات الزراعية بتمديد أجل القروض المصرفية، لتتمكن من تأخير استيفاء المستحقات من المزارعين، وتقديم تسهيلات جديدة تمكّن المؤسسات من النهوض بالقطاع من جديد.

ومن جهته، يركز الترشيشي على ضرورة إنهاء حالة الصراع السياسي وتطمين المزارعين في ما يخص بقاء الحدود مفتوحة، ودفع مستحقات القطاع الزراعي، ومنها مستحقات المزارعين من مشروع دعم التصدير في «إيدال» العالق منذ عام ,2006 واستلام موسم القمح من المزارعين، وضبط الحدود ومنع التهريب، والبحث عن أسواق غير تقليدية، وتأمين قروض ميسرة بفوائد متدنية لرفع حجم الاستثمار في القطاع الزراعي.

تعليقات: