آخر فصول الطفرة العقاريّة الأسعار تبدأ بالتراجع: السياسة ليست السبب

ارتفعت أسعار الشقق في بيروت بنسبة 750% بين 2004 و2010
ارتفعت أسعار الشقق في بيروت بنسبة 750% بين 2004 و2010


خلال السنوات الستّ الماضية، ارتفعت أسعار العقارات بواقع 10 أضعاف. يحبّ العاملون في هذا القطاع أن يقنعوا الناس بأن سبب هذا النمط الجارف يكمن في حركة «تصحيح للأسعار»، إلا أن المؤشّرات تشير إلى أنّ المضاربة والطلب الخارجي وغياب أي دور للدولة الضابطة والمسؤولة هي من العوامل التي نفخت السوق

شهدت بداية العام الجاري، وتحديداً شهر كانون الثاني الماضي، تراجعاً في النشاط العقاري؛ إذ أظهرت الأرقام التي نشرتها مديريّة الشؤون العقاريّة أخيراً، تقلّصاً في عدد الصفقات العقاريّة بنسبة 12.3%، مقارنةً بالشهر نفسه من العام الماضي، ليبلغ العدد 5452 صفقة. ويعزو البعض هذا التراجع إلى الأوضاع السياسيّة التي طغت على البلاد خلال تلك الفترة من جهة، وإلى تراجع الطلب الخارجي بنسبة تفوق 21%. هذا التفسير، يحاول أن يوهم المتعاملون في السوق من خلاله بأن التراجع ظرفي وخارجي، وهدفهم من هذا الإيهام التأثير في المناخ النفسي المحيط بهذه السوق للمحافظة على مستويات الأسعار المرتفعة.

لكن ليس بالضرورة أن تكون التقلبات أو التحوّلات السياسية هي ما يؤثّر على الطلب؛ فقد شهدت البلاد خلال سنوات الطفرة التي بدأت منذ بداية عام 2005 أحداثاً سياسيّة وأمنيّة دراماتيكيّة لم تؤدّ بالضرورة إلى تراجع الأسعار. لذا، تبدو المسألة أكثر ارتباطاً بديناميّة السوق، حيث وصلت العقارات مع بداية العام الجاري إلى قمّة المستويات السعريّة، وفقاً للمدير العام لشركة «كونتوار الأمانة» العقاريّة، وديع كنعان.

فبحسب دراسة نشرتها هذه المؤسّسة عام 2005، كان من المتوقّع أن ترتفع الأسعار بواقع 10 أضعاف في 6 سنوات «وهذا ما حصل تحديداً».

أمّا اللافت في الأرقام المسجّلة أخيراً، فهو أنّ خيوط التراجع السعري بدأت تُلحظ في السوق بعد سنوات من الارتفاع. فقد بلغت القيمة الإجمالية للصفقات المعقودة في كانون الثاني الماضي 721.6 مليار ليرة، بتراجع نسبته 12.7% مقارنة بالشهر نفسه من العام الماضي. وهذا التراجع يساوي تقريباً التراجع في عدد الصفقات. غير أنّ ما نتج من هذا الأمر هو تراجع بنسبة 0.5% في معدّل سعر الوحدة الواحدة إلى 132.2 مليون ليرة.

ورغم ضآلة هذه النسبة، إلّا أنّها تبشّر ببدء حركة نزوليّة على أسعار العقارات، من شقق سكنيّة ومكاتب وأراض، ربّما صوب تصحيح مخالف للنمط الذي سُجّل خلال 6 أعوام.

والحديث عن نمط نزولي منطقي جدّي هذه المرّة؛ إذ لامست الأسعار مستويات خياليّة، وبدأت تقفز بمعدّلات جنونيّة بين فصل وآخر، بل حتّى بين شهر وآخر، إلى درجة أنّها كرّست أكثر من عامل طرد في السوق، واستبعدت أصحاب المداخيل المتوسطة والمتدنيّة من لعبة العرض. فالحدّ الأدنى للأجور يقف عند 500 ألف ليرة، فيما وصل سقف الإقراض المصرفي لشراء العقارات إلى 270 مليون ليرة. لا نحتاج إلى معادلة رياضيّة معقّدة لاحتساب الفوارق الشاسعة بين قدرة أكثرية طالبي السكن على الشراء وبين معدّلات الأسعار المعروضة.

وهذا مثال فاجر: في منطقة الأشرفيّة مثلاً، ارتفعت الأسعار بنحو الثلث بين عامي 2009 و2010! ويترافق هذا الوضع مع تراجع جاذبيّة الاستثمارات العقاريّة في لبنان، وتحديداً في بيروت، إذا عمدنا إلى قياس عامل الجذب بعوامل العائد على الاستثمار. فالأرقام التي نشرتها مؤسّسة «Global Property Guide» أخيراً، تشير إلى تراجع في العائد على الإيجارات من 11% قبل 6 سنوات إلى 3.5% حالياً. مع الإشارة إلى أنّ العائد على إيجارات الشقق الكبيرة هو دون 3%.

ويأتي هذا الأمر بعدما ارتفعت أسعار الشقق الصغيرة في بيروت، أي بمعدّل مساحة 120 متراً مربّعاً، بنسبة هائلة بلغت 750%، من 60 ألف دولار في نهاية عام 2004، إلى 510 آلاف دولار بنهاية عام 2010، ما جعل العاصمة اللبنانيّة الأكثر غلاءً في مجموعة الدول العربيّة لناحية الشقق الصغيرة.

ويشدّد وديع كنعان على أنّ الهدوء الذي تشهده السوق في الفترة الأخيرة «لا علاقة له بالأوضاع السياسيّة». ويوضح: «مرّت البلاد بأوضاع سياسيّة أسوأ خلال فترة الطفرة (حرب، اغتيالات، تفجيرات، أزمة حكم) ورغم ذلك لم تشهد السوق تراجعاً في الأسعار... وبالتالي يجب عدم الربط بين الوضع العام والأسعار والسوق العقاريّة».

في المقابل، ما يبرّر التحوّل المسجّل بالوصول إلى آخر فصول الطفرة العقاريّة، هو ما يحدث الآن من «تأخر أو تباطؤ وليس توقّفاً أو إلغاءً».

ويشدّد وديع كنعان على أنّ الوضع في القطاع العقاري لا يزال صحياً ولا تكتنفه أيّ مشاكل اقتصاديّة، بل يعمل على نحو طبيعي. ويُشير إلى أنّه في ظلّ تراجع الطلب الخارجي والطلب «المضارب»، فإنّ «الشارين الآن هم المستهلكون الأخيرون، ومن المتوقّع أن يستمرّ هذا النمط خلال العام الجاري والسنوات الخمس المقبلة، وسيؤدّي إلى استقرار أكبر في السوق، حيث ستطرد ديناميّات سوق المحامين والمصرفيين الذين كانوا يستغلّون الأوضاع لتحقيق الأرباح السريعة».

لكن هل المستوى السائد للأسعار هو المستوى الحقيقي؟ بحسب وديع كنعان، المستويات السعريّة السائدة تعكس المستوى الحقيقي، فيما زيادات الأسعار المرتقبة تتعلّق بنموّ المناطق.

لكن كيف يُمكن وصف المستويات السائدة بأنّها «حقيقيّة»، فيما أسبابها الأساسيّة كانت مضاربات عقاريّة ورفعاً مصطنعاً وغير طبيعي؟

الحقيقة هي أنّ السوق حالياً تعاني تخمة نسبيّة من المعروض من البناء الوسطي، بحسب مصادر في القطاع العقاري. وأكثر من ذلك، إنّ التراجع الذي تُظهره أرقام مديريّة الشؤون العقاريّة، يبدو أنّه أقلّ من الواقع.

فمثلما هو معروف، إنّ الأرقام الرسميّة لا تعكس بطبيعة الحال القيم الحقيقيّة التي تجري على أساسها الصفقات. كذلك فإنّ ترقّب توجّه حكومي يحمل في أجندته فرض ضريبة على الربح العقاري، يدفع البعض إلى رفع الأسعار المسجّلة رسمياً...

لذا فإنّ نسبة التراجع البالغة 0.5% وفقاً للتقويم الكمي البحت (قسمة قيمة الصفقات على عددها، ومقارنة الجواب بين فترتين زمنيّتين محدّدتين) قد لا تكون دقيقة وقد يكون التراجع أكبر. وهو إشارة إيجابيّة لذوي الدخل المحدود الذين لا يستطيعون تملّك منزل، أو حتّى الاستئجار في المناطق الحيويّة.

86 صفقة

عدد الصفقات العقاريّة التي اشترى بموجبها أجانب عقارات في لبنان في كانون الثاني الماضي، وكان هذا الرقم 109 صفقات في الشهر نفسه من عام 2010

15 قي المئة

حجم القطاع العقاري من الاقتصاد الإجمالي، إذ وصلت قيمة حساباته إلى 6 مليارات ليرة بحسب أرقام وزارة المال التي نُشرت أخيراً

ضريبة الربح العقاري

تمسّكت الإدارة المالية في لبنان بعناد مريب حيال معالجة المشكلة العقاريّة التي تعانيها البلاد، والتي تنتج منها تداعيات اقتصاديّة واجتماعيّة خطيرة. ففرض ضريبة على الأرباح العقاريّة لم يُطرح إلا أخيراً، واختبأت وزارة المال وراء إصبعها في رفض تطبيقها، بالقول إنّ تحقيقها صعب ويحتاج إلى وقت، بحسب الوزيرة في حكومة تصريف الأعمال ريا الحسن.

تعليقات: