نفوق أبقار في عكّار: الحقّ على المزارع

  يعجز المزارعون عن توفير البيئة الضرورية لتربية الحيوانات
يعجز المزارعون عن توفير البيئة الضرورية لتربية الحيوانات


«موتة ربنا» هكذا نفقت بقرة أحد مربي المواشي في عكار. لكن المزارع المنكوب بمصدر رزقه الوحيد، استدعى طبيبا بيطرياً بغية معاينتها، فما كان من هذا الأخير إلّا أن «نصحه» بمراجعة وزارة الزراعة وادعاء نفوقها بفيروس «الجمرة الخبيثة» ليحصل على تعويض. الحادثة تسلط الضوء على سلوك مصدره رقّة الحال وفوضى القطاع

يعتاش عكاريون كثر من تربية المواشي، ومع ذلك يعاني معظم المربين عجزاً في توفير مستلزماتهم. هكذا، يضطرون أحياناً الى «التوفير» من أجرة بيطري هنا، أو دواء هناك، كما يقبلون بصدر رحب «مساعدات» عشوائية، أشبه بالرشى الانتخابية لكونها لا تأتي نتيجة دراسة فعلية لحاجات القطاع. هكذا يجد المربّون أنفسهم، رغم كدّهم وتعبهم، أشبه بالمتسوّلين، يتقبّلون أي شيء يعطى إليهم، وحين تنفق مواشيهم بسبب الإهمال والفوضى والجهل، يلجأ بعضهم، من الأرقّ حالاً، إلى تضخيم خسائرهم أو تشويه المعطيات طمعاً في التعويض. وإذا ما حاولت مصلحة الزراعة التدخّل، تواجه إرباكاً لانعدام الثقة على مرّ العهود.

هكذا، فور تبلغه نبأ نفوق بقرة في عكار العتيقة، وتلميح أصحابها إلى احتمال أن تكون مصابة بمرض «الجمرة الخبيثة»، توجّه فريق من مصلحة الزراعة في عكار للكشف على البقرة النافقة. لكن الفريق فوجئ بعدم وجود البقرة أصلاً، بعدما جرّها أصحابها ورموها في مكان بعيد. غير أن ذلك لم يمنع الفريق المذكور من استطلاع محيط منزل عائلة عبد الكريم ملحم ليتبين له أن البقرة النافقة نزفت بعض الدماء من فمها نتيجة جرّها بعد نفوقها، ولم يكن الغرض من إثارة الموضوع على هذا النحو إلا استدراج مصلحة الزراعة للتوجه لزيارة العائلة المنكوبة بخسارة البقرة بوصفها المصدر الوحيد للعيش، ظناً منهم أن وزارة الزراعة سوف تعوضهم خسارتهم الفادحة. وكان ملحم قد أفاد «الأخبار» بنفوق بقرته فجأة، ورافق ذلك على حد وصفه خروج كمية من الدم من فمها.

كانت هذه المرة الثانية في غضون أسبوعين التي يتوجه فيها فريق من مصلحة الزراعة في عكار نحو بلدة مشمش العكارية بعد نفوق عشرات الأبقار فيها. ومع ذلك، لا يعتقد خالد ديب، مفتش دائرة التنمية الريفية في عكار، أن سبب نفوق الأبقار في مشمش يعود إلى فيروس خطير، وفق ما ورد في النداء الذي وجّهه رئيس بلدية البلدة المصابة، عبد الرحمن الحاج، وناشد فيه وزير الزراعة مساعدة المزارعين لمواجهة المرض الذي يفتك بالأبقار في بلدتهم. وقد أشار ديب في سياق استبعاده خطر ما يُحكى عن أمراض سارية إلى الظروف السيئة التي تحيط عملية تربية الأبقار، وخصوصاً لجهة نقص التهوئة في المزارع وعدم تعرضها للشمس ولعدم توافر النظافة المطلوبة.

وبعد معاينته بعض الأبقار المريضة، أفاد الطبيب البيطري رباح عاطور بوجود فيروس سريع الانتقال يؤدي إلى نفوق الأبقار بسرعة، من عوارضه «إصابة البقرة بمشكلة في الكلى وتبوّل الكثير من الدم»، وكانت الوكالة الوطنية للإعلام قد نقلت في الثالث والعشرين من شباط الماضي، بعد اتصال وزارة الزراعة بالطبيب البيطري عاطور، أنّ هذا الأخير كان قد «أكد ما ورد على لسانه بوجود فيروس سريع الانتقال رغم أنه لم يأخذ عينات للفحص المخبري».

هكذا، توجه فريق من مصلحة الزراعة في عكار لمعاينة المزارع المصابة، وخصوصاً مزرعة عبد الرحمن الحاج التي نفق فيها زهاء 15 بقرة، وأخذ الطبيب رامي ريفي رئيس دائرة الثروة الحيوانية في عكار عينات وأرسلها للفحص المخبري. اتصلت «الأخبار» بمصلحة الزراعة في عكار نهار أمس، فأكد خالد ديب أن العينات أرسلت إلى المختبرات لكن نتائج الفحوصات لم تصلهم إلى الآن، ومع ذلك تزور المصلحة البلدة مرة أخرى لأخذ عينات جديدة، وفي الوقت نفسه للقيام بحملة تطعيم لمكافحة مرض الحمى القلاعية.

هكذا، بين استعداد مصلحة الزراعة في عكار وشروعها بالمتابعة في حال تبليغها بأي حالة صحية من جهة، واستفحال تدهور قطاع التربية الحيوانية وبخاصة في مجال الأبقار من جهة ثانية، ثمّة حلقة فارغة تتمثل في عجز المزارعين عن توفير البيئة العامة الضرورية لتربية الحيوانات، ما يلحق الضرر بالمربّين أولاً وبالبيئة والصحة العامة ثانياً.

ومن أبرز حيثيات تلك المسألة ندرة المزارع الصالحة لتربية الأبقار. وهذا ما أشار إليه فريق مصلحة الزراعة لدى زيارته بلدة مشمش. وهي مسألة عامة في عكار، خصوصاً أن ملكية المزارعين تراوح بين بقرة واحدة وعشر بقرات، إضافة إلى عجز المربين عن استشارة الطبيب البيطري بسبب الفقر المدقع الذي يعانونه، ما يؤدي في أغلب الأحيان إلى قيام معالجة المربين الإصابات في مزارعهم بالاستناد إلى خبراتهم الشخصية، وفي أحسن الأحوال عبر الاتصال الهاتفي بالبيطريين، ليحدّد الدواء عبر الهاتف من دون المعاينة المباشرة للمرض. إضافة إلى ذلك هناك أمر خطير هو أن العديد من المصانع تستقبل الحليب بالرغم من معرفتها باحتوائه رواسب أدوية يحظر استهلاك الحليب إلا بعد أيام معيّنة على استخدامها، تماماً كما في المبيدات والمضادات الحيوية التي ترش بها الخضر والفاكهة. زد على ذلك أنه عندما يتيقن المربي من عدم إمكان شفاء البقرة، يبيعها للذبح بالرغم من حقنها بالكثير من الأدوية. أما في حال نفوق البقرة؟ فترمى في الحقول والبساتين وفي مجاري الأنهار، ونادراً ما تحرق أو تطمر بطريقة تمنع حدوث التلوث.

لذلك، لا يمكن تلافي الآثار السيئة لتلك الحيثيات عن طريق الإرشاد والتوجيه، لأن معظم المربين يدركون آثارها السيئة، لكن عيشهم تحت خط الفقر يمنعهم من اتخاذ التدابير التي تحول دونها. كذلك لا يمكن معالجتها إلا جزئياً عن طريق الملاحقة القانونية ومصلحة حماية المستهلك، لأن ذلك يؤدي إلى إخراج معظمهم من قطاع التربية الحيوانية وحصره ضمن فئة أصحاب المزارع الكبرى القادرة على الإنفاق على تجارتها ومراقبتها.

تعليقات: