إعلاميون يتحضرون للبث المباشر من استراحة صور خلال الحرب (أرشيف)
تعرّضت معظم وسائل الإعلام التي شاركت في تغطية الحرب من لبنان لاعتداءات إسرائيلية في إطار مسلسل طويل، بدأ بتدمير قناة «المنار» واستهداف هوائيات إرسالها وغيرها من المحطات في أكثر من منطقة لبنانية، إلى مطاردة مواكب الإعلاميين، وتهديد مراسلين بالاسم، وتشويش على الإذاعات... لم يلتزم الإسرائيليون «شروط» الحرب الإعلامية. لم يردّوا على الصورة بالصورة، وعلى الكلمة بالكلمة، بل اعتمدوا النار وسيلة لإسكات الصوت وإخفاء الصورة. وكان على الإعلاميين أن يعملوا على جبهتين: أن يقوموا بتغطياتهم، وأن يحافظوا على حياتهم. يكفي التسليم بخطورة العمل في ذلك الوقت للاعتراف بأن هؤلاء الإعلاميين كانوا أبطالاً... يستحقون كل البرامج والمقابلات
الاحتفائية بهم، تلك التي بدأت في الحرب أو التي لا تزال مستمرة إلى اليوم.لكن هل يكفي هذا حقاً؟
تستحق البرامج الاحتفائية المستمرّة منذ الحرب وبعدها، وصولاً إلى اليوم، مقالاً خاصاً يشرح تحوّل هذا النوع من البرامج إلى سمة من سمات التلفزيون الجديد (néo_ télévision) الذي يتجه أكثر فأكثر نحو استعراض النفس عوضاً عن تقديم أخبار الخارج. يشبه هذا النوع من العمل برامج «الواقع» القائمة على التلصص والدخول في حميمية من سيصبحون نجوماً.
هكذا يمكننا أن نفهم لماذا يحلّ مراسلو المحطات ضيوف شرف على المحطات في كلّ مرة يستنفر فيها الإعلام المرئي فرق عمله لتغطية حدث ما. يتوّجون أبطالاً على عرش مهنة يكثر فيها الأبطال... ويغيب عنها الأناس العاديون.
وليس مبالغاً فيه القول إن الإعلاميين اليوم باتوا هم نجوم الشاشات ويكفي القول إنهم جازفوا بحياتهم للوصول إلى مكان الحدث لكي يصبح أي انتقاد لأحدهم «تنظيراً» من جالسين في مكاتبهم بعيدين عن المخاطر الحقيقية التي يتعرّضون لها.
لذلك يمكن القول إن النقد الوحيد الذي تعرّض له الإعلاميون طاول الخلفيات السياسية للمحطات التي عملوا لصالحها. آنذاك كان يمكن القول بسهولة إن «الجزيرة» تبنّت خيار المقاومة، ونجح مراسلوها بذكاء في إيصال هذه الصورة من دون المسّ بالموضوعية، في وقت لم تستطع فيه «العربية» التي تبنّت اتهام المقاومين بالمغامرين والدعوة إلى محاسبتهم، غضّ النظر عن المجازر والمعاناة الإنسانية التي تعرّض لها اللبنانيون.
وكعادته، كان «تلفزيون الجديد» متصالحاً مع نفسه، وخاض مراسلوه الشباب تجربتهم الأولى بنجاح نسبي وفقاً للإمكانات المتوافرة، فيما غابت «المستقبل» عن الميدان الذي تفوّقت فيه عام 1996، حتى أنها لم ترتق بالتغطية إلى ما ارتقت به خلال تغطيتها الحرب الأميركية الأخيرة على العراق. وكانت «المنار» ظاهرة شدّت الأنظار لسببين: صمودها أولاً، وامتلاكها أحد أقوى الأسلحة الإعلامية: خطابات الأمين العام للحزب السيد حسن نصر الله... فيما برز الزميل سلطان سليمان لاعباً فردياً على شاشة «أل بي سي»، طير يغرّد خارج سربه محتمياً بمهنيته.
هذه هي الصورة العامة التي طغت على أبرز الوسائل الإعلامية التي تابعها اللبنانيون خلال الحرب. الإعلاميون أنفسهم لم يضيفوا شيئاً إلى هذه الصورة، على الأقل وفق ما صرّحوا به في مقابلاتهم المتكرّرة. فقد ركّز الحديث على المديح والمجاملة، وفي أحسن الأحوال أمكنت الاستفادة من مشاهدات إنسانية إضافية للمراسل بحيث أصبحت تغطية الصحافي للخبر هي الخبر. وإذا استعدنا ما دار من نقاشات «مهنية» بين الإعلاميين، نلاحظ أنها كانت تدور غالباً حول المصطلح الواجب استخدامه حفاظاً على «الموضوعية» في حرب يتعرّض فيها وطن هذا الصحافي إلى عدوان غير مسبوق في تاريخه.
هكذا غاب عن البرامج الاحتفائية أي قراءة نقدية للعمل الإعلامي. كما غاب عنه أي متابعة ولو لواحدة من القصص التي غطّتها هذه المحطات. لا مواطنين يُحكى عنهم في حضرة النجوم. وحدها «المنار» التفتت إلى هذا الأمر من خلال برنامجها «وجوه الانتصار» ولم يخلُ أحد برامجها الاحتفائية بالنفس من أخبار جديدة عن كيفية صمود هذه الظاهرة الإعلامية رغم استهدافها المباشر. هنا يمكن أن نتذكر قناة «المستقبل» والعمل المميّز الذي قامت به بعد مرور عام على حرب نيسان (1996)، عندما زار فريق عملها عدداً كبيراً من ضحايا العدوان مستعيداً مع المشاهدين قصصهم.
يحقّ للإعلاميين أن يحتفوا بأنفسهم... وخصوصاً من قام منهم بعمل جيّد. لكن يحق للجمهور أن يسأل بدوره عمّن يتحمل مسؤولية الأخبار الكاذبة والملفقة التي كانت تبث خلال الحرب. عن «التهويل الإعلامي»، كما وصفه الأمين العام لـ«حزب الله» في مقابلة مع الزميلة مريم البسّام بعد الحرب مباشرة، عندما انتقد وصف دخول دبابة إسرائيلية بالاجتياح البري.
لقد ارتكبت خلال الحرب الأخيرة أخطاء مهنية قاتلة وقع فيها إعلاميون عن قصد أو غير قصد. «أبسط» هذه الأخطاء كان ما اصطلح على تسميته «إحداثيات»، من خلال إشارة المراسل إلى المكان الذي هو فيه. وأكثرها مدعاة للأسف تقديم بعض المراسلين معلومات خاطئة تثير الرعب في نفوس المواطنين وتشكل ذريعة للإسرائيلي ليشكك بصدقية كل التغطية الإعلامية التي أدت دوراً كبيراً في تحقيق الانتصار.
فقد كانت هذه الحرب واحدة من أبرز الحروب التي جنّد فيها الإسرائيليون أنفسهم، متطوعين، من أجل كشف «التضليل» الذي مارسه إعلاميون لبنانيون ساعدهم في ذلك وجود بعض الأخطاء المهنية فعلاً. منهم من ارتكبها عن غير قصد، فيما ارتكب آخرون أخطاء مهنية وأخلاقية بعدما تحولت المهنة عندهم إلى مجرد وسيلة يحصون فيها عدد الصور التي ستشتريها وكالات الأنباء منهم أو عدد الغارات التي تنهال، والأسوأ... عدد الاتصالات المطمئنة إلى سلامة من يدعي أنه في مكان خطر وهو لم يغادر مكانه الآمن.
هكذا، شهدت بعض الممرّات في استراحة صور التي أقام فيها الإعلاميون خلال الحرب، جولات من الركض السريع يقوم بها أحد مراسلي فضائية لبنانية ليبدو صوته لاهثاً وهو يبلغ زميلته في الاستوديو أن صور تتعرّض لغارات، وهو يهرب منها، فتدعو له بالسلامة، ويتساءل أهل المدينة عن مكان سقوط الغارة المزعومة.
زميله، مراسل إذاعة وفضائية لبنانية أيضاً كان قد نزح إلى صيدا... وهو أمر مشروع. لكن المرفوض أن يستمرّ هذا المراسل في الإدلاء بمعلومات وأخبار لمؤسسته خاتماً إيّاها كل مرة بالقول بأنه كان يتحدّث من صور.
وماذا إذا علم اللبنانيون أن الخبر الذي خرجت به وسائل الإعلام عن بدء الاجتياح البري ووصول الإسرائيليين إلى مرجعيون (قبل يومين من وصولهم) أعلنه مراسل إحدى الوكالات من مكان إقامته في... العاصمة بيروت؟
وأن الصحافي الإسرائيلي رون بن يشاي الذي قدم إلى بيروت ووصل إلى مارون الراس تلقى مساعدة مدفوعة من مصوّرين لبنانيين؟ وأن الإعلامية التي تعرّف عن نفسها اليوم بأنها «خبيرة في الحروب» كانت تعلن تساقط الغارات على مدينة صور في وقت كانت فيه الغارات تنهال على القرى التابعة للقضاء، مثيرة الرعب في نفوس أهالي المدينة.
للحرب أبطالها من الإعلاميين هذا صحيح... لكن لها أيضاً متطفلون على المهنة، أساؤوا إليها ولم يترددوا في حضور احتفالات تكريم، ولو لم يكونوا غادروا مكاتبهم في بيروت حتى.
الزميلان مصطفى جمال الدين وحسن عمّار في صور خلال الحرب (أرشيف ــ وائل اللادقي)
تعليقات: