خيمة اسقاط النظام الطائفي في الصنائع (مروان طحطح)
العودة إلى الخيمة: السياسة والمدينة وأفكار للتغيير
مع الحراك السياسي المطالب بإسقاط النظام الطائفي ورموزه، تنشأ خيم عبر المدن اللبنانية، يعتصم فيها من أراد وأرادت أن تخلق فضاءً في المدينة مغايراً للمتاح والمسموح به، وأن تحتلّ مساحة عامة هي في الأساس لها. هذا الخطاب السياسي الجديد، الذي يأخذ شكل ثورات عبر العالم العربي، هو حاجة الشعوب إلى رفض الاضطهاد. وهو في هذه الخيم والتظاهرات أيضاً يترجم هذا الرفض في التجربة المدينية ويقدّم لغة مختلفة عن الخطاب المهيمن.
بين نقاشات وصراخ ونوم في البرد وضحك وتظاهرات، أصبحت خيمة صور مساحة جديدة وملوّنة لأسئلة جديدة ـــــ قديمة، تخلق ما لم يستطع النظام السياسي الطائفي الرأسمالي ودوائر الأحزاب المغلقة وهرميّة المجتمع أن تقدّمه. بين الفينة والأخرى، تمرّ سيارة، يلوّح لنا السائق ويصرخ «الله معكن شباب!»، نبتسم ونشكره. وكلّ يوم، يمرّ أشخاص يجلبون لنا الحلوى، أو أكواب شاي ساخنة تخفّف برد الخيمة، أو طبخة «مجدّرة تعوّض عن أكل البيكون». التحرّك في صور لم يكن متوقّعاً من أحد، لكن حصوله فتح أعين الكثيرين والكثيرات على إمكان رفض الواقع. يمضي النهار بين نقاشات عن معنى ما نفعله وأهدافه، وتفسير كلّ شخص لمطالب التحرّك. فللبعض، هو ضد تحكّم الطوائف في مفاتيح الاقتصاد والعمل والإنتاج، ولآخرين، هو ضد خطاب طائفي يخلق هرمية بين شعب الوطن الواحد، أو ضد منطق عنصري متقوقع. نتساءل بعد كلّ نقاش، لمَ نعتصم، ولمَ تأسست هذه الحركة بهذا الشكل العضوي؟
يربط الكثيرون الحراك السياسي في لبنان بما جرى في المنطقة العربية. وهو إذا لم يكن مرتبطاً به ارتباطاً مباشراً، فإنّه، على الأقل، كان نتيجة لحقائق ثلاث أثبتتها الثورات العربية.
أولاً، إمكان الثورة ووجودها في زمننا هذا، كما في كلّ الأزمنة التي مضت. كان الخطاب قبل هذه الثورات يقول إنّ «زمن الثورات قد ولّى». فقد فعلت السياسات النيوليبرالية فعلها، وحاولت إقناعنا بأنّ التكنولوجيا وفّرت كلّ شيء، وجعلت أي ثقافة ثورية مستحيلة، وسيطرت على فكر الشعوب ووعيها وأدّت إلى تمييع كفاحها. بين الاهتمامات اليومية والحاجة إلى تكديس رأس المال، كانت الثورة تبدو أملاً بعيد الوصول للبعض، وفكرة مهترئة بائدة للبعض الآخر. لفت صديقي نظري إلى شيء جديد حينما نبّهني إلى فقرة على قناة الجزيرة، اسمها «اقتصاديات الثورة». أكنّا نحلم يوماً بسماع أخبار عن «الثوار» على التلفاز، سأل. عاد الفكر الثوري إلى الواجهة، وظهر إمكان رفض الظلم وعودة الانتماء العربي. وبينما كانت الأنظمة المخلوعة تنمّي النزعة «الوطنية» العنصرية لدى كلّ شعب على حدة، أظهرت هذه الثورات وحدة في الانتماء والهوية، حيث نرى أنّ الشعب المصري حمل الأعلام الفلسطينية والتونسية في تظاهراته، كما أنّه رفض أي تدخّل أجنبي «لإنقاذه»، وتظاهرت الشعوب العربية أمام السفارات التونسية والمصرية والبحرينية، لتتضامن مع شعوبها. لقد أظهرت هذه الخطوات أنّ شكل الثورة عربي بامتياز، وبذلك مكّنت أيّ شعب عربي مضطهد من الانتماء إلى الثورة وإعادة خلقها في بلده.
ثانياً، هناك إمكان فرضِ شكل وخطاب ثوري جديدين، خارجين عن الشكل المغلق للأحزاب. يسعى هذا الحراك إلى إيجاد هوية له، رافضاً الانتماءات السياسية، وهو بحدّ ذاته عمل شاق إذا ما قارنّاه بالتشرذم الحاصل في المجتمع اللبناني واستحالة العمل أو النقاش بعيداً عن تصنيف أو انتماء، كما يعاني المشاركون في هذه التحرّكات، وخاصةً النساء، الحاجة إلى كسر الأطر الموضوعة سابقاً لتعريف الحراك السياسي وحدوده. وهذا ظاهر في التعامل الذكوري، واللغة العنيفة التي بدأ بها الحراك، والتي تصارع النسوة المشاركات لتغييرها. فبينما تصل الحركات الثورية الشعبية في العالم الى تحرّرها عبر تبنّيها خطاباً نسوياً بامتياز، لا تزال حلقات نقاشنا السياسية تتخبّط في شوفينية ذكورية. والثورة هنا ليست فقط بتغيير نظام الدولة، بل بثورة شخصية داخل التحرّك تبدأ بالاعتراف بالجندر وتتطوّر لتصوغ شكلاً ثورياً نسوياً، تكون فيه علاقات الأشخاص داخل التحرّك المطلبي خالية من الفوقية. وتكمن الصعوبة في محاولة خلق ذلك كله ضمن إطار لاسلطوي عادل.
ثالثاً، وضوح الصورة والصراع والخطاب في تحديد العدو وفي تقبّل التعدّدية. بينما صرخ نساء ورجال تونس ومصر وليبيا واليمن والبحرين وسوريا وغيرهم، ضد عدوّ واضح واحد ومحدّد، نرفع صوتنا في وجه العنصرية بكلّ أشكالها: النظام الطائفي وما ينتجه من تفرقة وعنصرية وكره للآخر وخوف منه، ومن غياب للعدالة ومن نازية ومن ذكورية تظلم المرأة وتحمي القوي مهما فعل. كما نعلن في هذا الحراك انفتاحنا على الآخر وشعاراته (وهمومه)، فكما يضطهدنا ويرفضنا النظام الحالي، نعلن قيام أخوية بيننا وبين المضطهدين الآخرين في خطوة لتوحيد النضال، ولأنّ أيّ حراك مطلبي عليه أن يكون عادلاً، إنسانياً، غير فوقي.
هناك علاقة بين ما يحصل الآن في لبنان وما يحصل في الدول العربية، بالرغم من الفروق في الشكل والمضمون. لقد أثبتت الثورات العربية أنّ الفكر الثوري لا يزال، كما كان من قبل، أساس النهوض بالمجتمعات والفرد، وبأنّه ممكن وبأنّه ببساطة جميل. وقد أثبتت أنّنا نستطيع أن نصرخ فتختفي أصواتنا في الزحمة: «ثورة ثورة عربية».
استقلال الخطاب والوعي السياسي
نتحدث عمّا يجري من داخل هذه التحرّكات، لكنني أعرف أنّ الناظر والناظرة إليها من الخارج يريان منظراً مختلفاً تماماً. ونفهم ذلك عبر الأسئلة التي توجّه إلينا. فغالباً ما تأتي نظرة الناس مشكّكة، محاولةً فرض شكل «مستقل» ليبرالي «غير سياسي»، على ما تأمل أن تجده في حراك كهذا. كأنّ الصراع الآن ليس في جوهره سياسياً، أو كأنّ فكرة الاستقلال عن الأحزاب تعني أيضاً ضرورة استبعاد المعتصمين والمعتصمات عن تحليل منطقي لموازين القوى ومعرفتهم بأبسط المفاهيم السياسية. إنّ استقلال الحراك يعني عدم تمثيل الأحزاب والطوائف، لكنّه لا يعني غياب الانتماء السياسي للأفراد.
يفسّر كارل ماركس مفهوم الأيديولوجيا المهيمنة بمقارنة هذا المفهوم بالشكل الأصلي للكاميرا المعروف بالـ«كاميرا أوبسكورا» الذي يعتمد على دخول شخص إلى غرفة مغلقة تصل إليها صورة من الخارج عبر ثقب صغير ونظام معيّن من العدسات. وتكون الصورة المنقولة مقلوبة. وهكذا تكون الأيديولوجيا المهيمنة، تعكس صورة معينة عن الواقع. هي صورة غير حقيقية إلا أنّ الأفراد الموجودين في داخل النظام يعتقدون أنّ هذه هي الحقيقة المطلقة. والأهم أنّهم يسمّون كلّ من يأخذ اتجاهاً غير اتجاههم، تابعاً لأيديولوجيا معيّنة، كأنّ من يتبع النظام المسيطر لا يتبع أي أيديولوجيا. وهذا بالضبط ما يحدث مع الحراك الشعبي في لبنان. فالمشكّكون يتساءلون أيّ أيديولوجيا يتبع المعتصمون والمعتصمات، ويرتعبون عند مناقشة السياسات الاقتصادية النيوليبرالية وعند انتقاد الخطابات النخبوية. يحكمون على المعتصمين والمعتصمات بأنّهم إذاً يساريون ويساريات، كأنّ النظام الذي يحكمنا حيادي، ومن يعيش تحت حكمه ويقبله ليس نتيجة لذلك يمينياً.
إنّ النظام الحالي في لبنان جائر وظالم وعنصري ومقرف بنازيته. وهو نظام يميني بامتياز، يتوجّه إلى الأجنبي والمستعمر ورجل الأعمال والقوي ويفتح له الأسواق ويسهّل له كل الأوضاع والتعقيدات. هو نظام مسطّح يهدف إلى تقوية القوي ويعزّز التصادم بين المضطهدين والمضطهدات. بكل بساطة، إنّ الأدوات التي تحلّل السياسات المستعملة وتحاول كسر حكمها، هي أدوات يسارية بامتياز. فإن أردنا إذاً الحكم على الحراك بأنّه غير محقّ فقط لأنّه يساري، تصبح مقاربة الموضوع غير واعية وصبيانية.
ما يحدث هنا هو حراك مطلبي، آمل أن يتطوّر إلى عصيان مدني، لأنّ الوضع أصبح أورويليّاً (نسبة إلى الكاتب جورج أورويل) بتخطّي الظلم لحدود المعقول، واستغباء الناس بشعارات ومخاوف وانتماءات طائفية مقزّزة.
التظاهرات والخيم والمدينة
تكلّمنا عن مسبّبات هذا الحراك والشكل السياسي له، وهنا نحاول تحليل تأثيره على الشكل المديني، في حالتيه الثابتة والمتحرّكة، أي عبر التظاهرات وعبر الخيم المنتشرة بين بيروت، صيدا، صور، النبطية وفي الشوف. فتظاهرات بيروت، والمعاني التي تحملها الشوارع والساحات التي تمرّ فيها، تختلف عمّا تعوّدناه. بينما كانت التظاهرات في بيروت تتوجّه إلى مراكز القرار المتمركزة في وسط المدينة، أصبحت تمرّ عبر الأحياء السكنية وتتفاعل مع الناس. من شكل معلّب للتظاهرات الرمزية، أصبحت مسيرات الأحد، عبر وجهة سيرها، بياناً رسمياً لمعنى الحراك وترجمته على خريطة المدينة.
وفي صور، نُصبت الخيمة رغماً عن ضغوط الأحزاب والبلدية لإزالتها أو إفشالها. يكون استمرارها إذا تحدّياً لمنطق رفض الآخر، ويفتح فضاءً ثورياً في المدينة، لكونه مساحة حرّة للنقاش والاحتكاك بالآخر. الخيمة كمفهوم هي مساحة شخصية آمنة في فضاء المجهول والصحراء والقفر. هي البيت والمسكن والرحم. كان الأعراب يبسطون خيمهم في العراء، في الليل وتحت سطوة الطبيعة وغضبها، فتكون الخيمة كالإله الحافظ والحامي والحاضن .تقول عالمة الأنتروبولوجيا سوزان رسموسان بأنّ الخيمة هي «المكان الاجتماعي والرمزي الذي على عكس ما يبدو كمكان للوحدة، هو في الثقافة المحليّة وعبر طريقة تفاعله مع المحيط مكان لتمركز الهوية والاجتماع»، كما في الصحراء هو هنا في المدينة، مكان حاضن لنا، لصراعنا، لهويتنا وثقافتنا، لكن الصراع غير مقيّد بحدود الخيمة. هي مكان الانطلاق له، هي مكان الخلق. عند الطوارق الأفارقة، إخوتنا وأخواتنا في البداوة، يستعملون كلمة معقّدة التفسير وهي «أيهانزوزاغ». وتترجمها الباحثة الاجتماعية غنفور بيرج بأنّها «المكان حيث يفضّل الإنسان أن يكون. والسبب الوحيد الذي يدفع الإنسان إلى ترك «الأيهانزوزاغ» خاصته، هو نقص المرعى. ولو وجد الذهب في مكان آخر وهناك مرعى، فلا يترك الـ«أيهانزوزاغ». هي إذاً مكان الانتماء. الخيمة ليست وحدها بيت الإنسان، بل ما يحيط بها، وأيضاً العناصر الطبيعية التي تؤثر فيها».
الخيمة نُصبت إذاً لا لتنفصل عن المدينة وتنعزل عنها، بل لتكون مكاناً للبدء. فخارج الخيمة فضاؤنا ومدينتنا. والهدف هو أن تصبح المدينة بعد تبلور التحرّك، ليست شاهدة فحسب على الصراع السياسي وتطوّره، بل ممثّلاً رئيسياً في إطار ترسيخ شكل الرفض، وجعله مرئياً وتكثيف تفاعله مع الناس والأمكنة.
من فقراء المدن المهمّشين إلى اللاجئين الفلسطينيين والعمّال السوريين والعاملات الأجنبيات والفلاحين وعمّال المصانع وعاملاتها، من النساء اللبنانيات المعنّفات واللواتي لا يمنحن الجنسية واللواتي يُعتدى عليهنّ واللواتي يطلبن إنصاف القانون ولا يجدنه وأمهات المفقودين وكلّ من قُمع واضطهد من هذا النظام، نريد أن نغيّر موازين القوى وأن يسمع صوتنا ولو لبرهة.
* مهندسة معماريّة لبنانيّة
..
.
جنى نصر الله
من الصعب أن تعطي رأياً في لبنان. صحيح أنّ الرأي لن يتسبب في سجنك، كما يحصل في الأنظمة الدكتاتورية العربية التي تتساقط تباعاً، لكنّه قد يحاصرك اجتماعياً، ويؤدي الى هدر دمك، أقلّه معنوياً. لن يسجنك الرأي في زنزانة مظلمة، بل سيدرجك في خانة ضيقة لن تفلح في إزاحتها عن صدرك، لأنّ حكماً مبرماً يصدر بحقك، حالما تتفوّه برأيك. الأمثلة كثيرة، أهمها ما حصل في الأعوام الستة الماضية، إذ صار الرأي انتماءً، شاء صاحبه ذلك أو أبى. إذا انتقدت 8 آذار، فأنت ضد المقاومة وتحرير الأرض، وحكماً في 14 آذار، وهذا تصنيف غير خاضع للنقاش. وإذا اعترضت على خطاب 14 آذار، فأنت لا شك ضد «السيادة والحرية والاستقلال»، وتنتمي إلى المحور السوري ـــــ الإيراني ـــــ الكوري الشمالي، وهذا أيضاً حكم غير قابل للاستئناف. ولا يكفي أن تنتقد الطرفين لتنقذ نفسك من التصنيف، لأنّك تحتاج الى ميزان الذهب لتوازن الانتقاد وإلا فستقع في المحظور وترمى في الخانة. أما أن تقول إنّك مستقل، فهذا موقف يقابَل بضحكة ساخرة تشير الى أنّك تختبئ خلف إصبعك. صاحب رأي ومستقل لا يمكن جمعهما في موقف واحد في لبنان، حيث ليست السياسة بستاناً يمكن أن تشكّل منه سلة مواقفك، بل هناك شجرة واحدة محكوم عليك أن تملأ منها سلتك، تقابلها شجرة يملأ منها الآخر / العدو سلته. التبادل أو التنويع ممنوع، لأنّ المحاولة ستجعل من صاحبها متزلّفاً أو صاحب موقف ضبابي ينمّ عن قلة إدراك ووعي سياسيين.
هكذا، تحتاج الى جرأة استثنائية لتجاهر برأيك وتتحمل نتيجة قرارك، وإلا فلتصمت الى الأبد. إنّها صورة تختصر ما آل اليه وضع الرأي في لبنان منذ عام 2005، إذ انقلبت المعايير رأساً على عقب. وكلما أمعن اللبنانيون في التشديد على حرية الرأي، وتفانوا في تأكيد وجودها، انكشف الجانب القمعي في أدائهم. ولا حاجة إلى تقديم مزيد من البراهين والحجج، فذاكرة كلّ لبناني تنضح بما يكفي من ممارسة القمع والتعرض له، وتوزيع الناس وفق خانتين لا ثالث لهما، تماماً كما سيوزَّعون في الآخرة، بين الجنة والنار.
انفجر الغضب، فجأةً، في عدد من الدول العربية، ولم يعد يعلو صوت فوق صوت الشعب الذي يريد إسقاط النظام. نجحت الثورة في تونس ومصر، أما أثمانها الباهظة في ليبيا والبحرين واليمن، فلم تحبط إرادة الشعوب التي لن ترضى بأقل من تحقيق هذا الشعار فعلياً. انتقلت العدوى الى لبنان، واستفاق الشباب اللبناني في لحظة على رغبة جامحة في التمرد على النظام الطائفي وإسقاطه، إذ لا يجوز أن يبقى اللبنانيون في موقع المتفرج ومحيطهم يشتعل. وكاد هذا التحرك أن يمثّل بارقة أمل في إنهاء عصر الخانات وتصنيف الناس وتخوينهم بحسب رأيهم السياسي، لكنّها أضغاث أحلام، إذ إنّ الجيل الجديد ليس أكثر انفتاحاً في تقبّل النقد، وله أيضاً خاناته التي يدرج فيها الناس ويصنّفهم حسب آرائهم، وصفحات الفايسبوك، حيث التعليقات والتعليقات المضادة، شاهد حي على انفتاح الشباب على النقد بكلّ صدر رحب وروح رياضية! ورغم أنّ صاحب الرأي سيتعرض هنا أيضاً لحملة تخوين، قد تثير شفقة يوضاس الذي باع يسوع المسيح بثلاثين من فضة، ورغم أنّ ظلم ذوي القربى أشد مرارةً على النفس، لا بد من التحلي بشجاعة استثنائية لتسجيل بعض الملاحظات، ليس من أجل التنظير وهي أبسط التهم، بل إغناء للنقاش وحتى لا يبقى «الشعب يريد إسقاط النظام الطائفي» مجرد شعار مستورد مكسور الوزن.
ليس مهماً توقيت التحرك، وليس عيباً التأثر بما يجري في الدول العربية المحيطة، فهذا دليل عافية مقارنةً بنظرة الاستعلاء التي اعتادت نسبة لا بأس بها من اللبنانيين التعامل فيها مع الشعوب المحيطة، لكن تجاوز مسألة التوقيت لا يعود تفصيلاً، وخصوصاً بعدما بدا جليّاً أنّه لا برنامج واضحاً ومحدداً يفضي الى تحقيق النتيجة المرجوّة، أو يضعها على الطريق الصحيح. بدا التحرك كما لو أنّه «لا بد إنو نلحّق حالنا ونركب الموجة». كان يمكن النظام الطائفي أن ينتظر بضعة أشهر أو حتى بضعة أعوام لإعداد تحرك يجعل من سقوطه مدوّياً، بدلاً من استعارة العداد من فريقي 8 و14 آذار، واعتبار أنّ ارتفاع عدد المشاركين، على أهميته، هو إنجاز بحد ذاته. وليس ما يحول دون سقوط النظام، أيّ نظام في لبنان حتى لو كان نظام السير، إذا حافظت حديقة الصنائع على اسمها ولم تتحول الى ميدان الصنائع، وبقيت ساحة رياض الصلح ساحة ولم تصبح ميدان التغيير، على أمل ألّا يلحق بساحة الشهداء، التي يتداعى الشبان الى التجمع فيها في الثاني من نيسان المقبل، تشويه مماثل.
كان يمكن الأمكنة أن تحافظ على أسمائها الأصلية، كما لم يكن هناك من مبرر للّجوء الى فايسبوك وسيلةً للدعوة الى التجمع والتظاهر، في بلد تتعدد فيه وسائل الإعلام والتعبير عن الرأي، خلافاً لما هي الحال في الدول المنتفضة، لكن يبدو أن نسخ التجارب الأخرى جاء أميناً! في أي حال، إذا كان موقع فايسبوك من لوازم الثورة وأحد أسباب نجاحها، فبالإمكان استخدامه لشرح آلية إسقاط النظام وتحديد الخطوات العملية لذلك، بدلاً من تحويله أداةً للشتيمة والجدال غير المجدي. كان يمكن الشعار أيضاً أن يكون أكثر تواضعاً وملامسة للواقع، علماً أنّه في نسخته اللبنانية ـــــ «الشعب يريد إسقاط النظام الطائفي» ـــــ ثقيل على الأذن، من الناحية الفنية. وهذا سبب كاف لتحريك المخيلة اللبنانية، وابتكار شعار يمكن أن تصدح له الحناجر بطريقة أفضل. وفي المناسبة، ما العيب في أن يطالب «الشعب (اللبناني) بإسقاط النظام» عموماً، من دون حصره بالطائفي؟ ألا يستحق هذا النظام البرلماني والديموقراطي القائم على الوراثة السياسية وتسلط أمراء الحرب على ثروات البلاد والعباد، المطالبة بإسقاطه؟ عندها فقط لا يعود الشعار مستورداً، ولا تكون التحركات منسوخة بطريقة سيّئة، بل تأتي في السياق الطبيعي للثورات التي تجري في دول المنطقة. فالواقع السياسي في لبنان لا يختلف عما هو عليه في دكتاتوريات العالم العربي، إلا في الشكل. انتخابات نتائجها معروفة سلفاً، وراثة سياسية تُحجَز فيها حصة الأحفاد قبل أن يولدوا، فساد سياسي يصلح لأن يدرّس في الجامعات، هدر ونهب وسرقة للمال العام، غلاء جنوني وفقر وجوع وهجرة. هذا بعض من أوجه الشبه بين لبنان والدول العربية، مع فارق وحيد أنّ اللبنانيين لا يزالون مقتنعين بأنّهم «غير شِكِل»، ربما لأنّ الدكتاتورية عندنا مغلّفة بديموقراطية براقة، لا تعدو أن تكون خدعة بصرية. ألا يستحق هذا النظام أن يتداعى الشعب لإسقاطه؟ ليس صحيحاً أنّ هذا ما يعنيه تماماً المطالبون بإسقاط النظام الطائفي، فالمعنى لا يمكن أن يكون في حالات مماثلة في قلب الشاعر، ولا يمكن أن تعني الشعارات المطالبة بحقوق المثليين الجنسيين إسقاط النظام اللبناني، كما لا يمكن المناديات بإنهاء الذكورية أن يعنين ذلك أيضاً. ليس المقصود الانتقاص من أهمية هذه المطالب وأحقيتها، لكن منطق التورية لا يصح في ثورات إسقاط الأنظمة. والشعارات التي رُفعت في تظاهرات إسقاط النظام الطائفي فضفاضة، وفيها كل شيء. لذا، لا يمكن الادعاء هنا أنّ كلّ هذه الشعارات تخدم القضية المركزية، أي إسقاط النظام الطائفي، علماً أنّ إسقاط النظام برمته أكثر سهولةً من إسقاط النظام الطائفي، الأكثر تعقيداً في تشعباته الثقافية والاجتماعية والتربوية والنفسية، وخصوصاً أنّ اللبنانيين تشربوا الطائفية في الحليب وعزّزوها بوجبات من المذهبية لا يزالون يتجرعون عيّنات منها يوميّاً.
كان يمكن أن تنتهي الملاحظات على تظاهرات إسقاط النظام الطائفي عند هذا الحدّ، وتقتصر على الشكل، لكن الموضوع في الجوهر يبدو أكثر تعقيداً، إذ إنّ هناك اختلافاً على المفاهيم نفسها. فليس هناك تعريف موحد للنظام أولاً، وللنظام الطائفي، وللطائفية، وللطائفية السياسية، وللعلمنة، وللمواطنية. هذا الخلط الخطير الذي عكست حلقة «كلام الناس» على المؤسسة اللبنانية للإرسال، الخميس الماضي، بعض جوانبه، أظهر بطريقة جلّية أنّ حلم إسقاط النظام الطائفي بعيد المنال، إذ لا يمكن أن نتفق على إسقاط شيء لا نتفق على تحديده. وباستثناء الكلام العلمي والواضح الذي قالته الدكتورة أوغاريت يونان، كانت الحلقة عبارة عن عصف فكري يفترض أن يسبق أيّ تحرك للخروج باتفاق واحد تنطلق التظاهرات على أساسه، لكن كيف الاتفاق، في ظل الموروثات التي يحملها الجيل الجديد، والتي عكستها الأطراف الرافضة إسقاط النظام الطائفي لأنّها تخاف على وجودها؟ خطير ومرعب كيف يفكر الشباب اللبناني، وكيف يحاور أو بالأحرى لا يحاور.
لو كُتب لجبران خليل جبران أن يحيا الى يومنا هذا، لكان قد عدّل مقولته الشهيرة لتصبح «أولادكم ليسوا لكم، أولادكم أبناء الطائفة والمذهب».
* صحافية لبنانية
خلال تظاهرة اسقاط النظام الطائفي في جبيل (بلال جاويش)
تعليقات: