فاطمة في المستشفى في 24 تموز 2006 (م. ع. م)
في24 تموز 2006 «احتفلت» فاطمة الخليل بعيد مولد تخنقه أكثر من غصة في مستشفى بيروت الحكومي. كانت عاجزة عن تحريك جسدها المحروق، وكانت تعلم أن والدها الموجود على بعد طابقين منها قد بُترت رجلاه، وان أختها آية (4 سنوات ونصف) قد فقدت إبهامها، في حين ان الشظايا انغرزت في جسد أخيها علي وأمها إكرام وجدتها وأختها ميرا.
صاروخ اخترق ملجأ ظنته العائلة آمناً في قرية بليدا تكفل بنقل آل الخليل إلى دوامة قاسية من المعاناة والالم. دوامة بدأت في مستشفى بيروت الحكومي وتتابعت فصولها في أبو ظبي حيث تكفلت دولة الامارات بمتابعة علاج العائلة، ولم تنته حتى الساعة بالنسبة إلى فاطمة التي لا تزال تتابع العلاج الفيزيائي، ولا بالنسبة إلى والدها الغائب الموجود منذ نصف سنة في ألمانيا بعدما أعيدت عملية بتر ساقيه كي يتسنى للأطباء تركيب أطراف اصطناعية تعينه على تدبر حياته في ما بعد.
تستقبل العائلة زوارها بكثير من الترحاب. تختار الوالدة أن تكون الشرفة مكاناً للجلسة التي تحضر فيها فاطمة وعلي وميرا وعلا وتغيب عنها آية. فالصغيرة تختار ألا تقترب، بل تنفجر بكاء مراً عندما تلمح من شباك الغرفة عدسة الكاميرا. تحاول والدتها تشجيعها على الخروج دون نتيجة. فآية، بحسب والدتها، ومنذ الحادثة «صار كل شيء يخيفها، إذا سمعت صوت سيارة إسعاف أو إذا مرت طائرة فوق سطح المنزل تنفجر بالبكاء بشكل هستيري»، حتى عندما يتلاعب الهواء بالستائر، يعتري الطفلة رعب كبير ظناً منها أن شيئاً ما سيحدث.
ما يقــــلق بال والدة آية حالياً هو معاناتها من مشكلة في السمع جراء الحادثة، وحــــاجتها إلى عملية لإصبعها المبتور. تشرح والدتها ان آية تأقلمت مع إصابتها الجسدية وغالبــــاً ما تسمعها تقول لرفاقها «رأيتم كيف هو شـــكل إصبعي؟». لكن مصدر القلق الحقيقي بالنسـبة إلى الوالدة يبقى الآثار النفسية المترتبة على الحادثة.
بدورها، لم تعد فاطمة قلقة على معافاتها الجسدية بعدما قطعت شوطاً هائلاً في العلاج. باتت فاطمة، التي كانت نسمة الهواء التي تلمس جلدها تؤلمها، تتحرك بشكل طبيعي تماماً. تقترب بلهفة لتلقي السلام مرتدية بنطلون جينز لا ثوب المستشفى هذه المرة. لكن التحسن هذا تطلب أشهراً من الألم والعمل الدؤوب. تقول والدتها مع بسمة فخر: «عذبتني كثيراً حتى وقفت على قدميها، تطلب الأمر منها شهراً كاملاً كي تقف بسبب الألم المبرح جراء الحروق، ومراحل علاجها كانت في مستشفى الشيخ زايد العسكري في أبو ظبي، ولولا اهتمام الفريق الطبي هناك بأدق التفاصيل لست أدري ما الذي كان حدث لنا، لقد أظهر الجميع هناك عناية كبيرة ومحبة خاصة منذ اللحظة الاولى لوصولنا».
بالرغم من العلاج المكثف الذي استمر أكثر من ستة أشهر، لا تزال يد فاطمة تحمل آثار الشظايا والعمليات بشكل ظاهر. تمد يدها شارحة انها تواجه بعض الصعوبة في تحريك الابهام، مع انها خضعت لعمليات وصل الأوتار، ولا تزال تتابع حتى اليوم العلاج الفيزيائي المؤلم في كثير من الأحيان. «علاجي الفيزيائي أحياناً يتطلب بعض الموجات الكهربائية لتحريك العصب، هذا الأصبع لا يطوى بشكل كامل، وفي حال بقي، فمن الصعب تحريكه. سيقومون بعملية أخرى قالوا لي ان اسمها عملية تسليك الأوتار». لا تفصح فاطمة عن الكثير عن مشاعرها. تكتفي بالتعليق: «انظري كيف كنت وأين صرت». وعندما نسألها «أين صرت؟» تجيب: «لم أكن أستطيع أن أتحكم بتوازن جسدي، كما انني فقدت الكثير من العضل والجلد في ذراعي اليسرى حتى انهم أجروا لي عملية زرع جلد من فخذي، كنت أحيانا أتألم بشكل هائل خصوصاً في الليل، وأحياناً كثيرة كنت أطلب المُسكّن كونه الطريقة الوحيدة كي أنام، الآن أنا بخير».
لا تنفي عودة فاطمة إلى المشي والحركة بشكل طبيعي ان ذراعها وفخذها قد تعرضا إلى تشويه كبير. سألت والدة فاطمة أكثر من طبيب عن الحلول التجميلية المتوافرة، لكن فاطمة تبدو غير متحمسة لخوض تجربة العمليات من جديد. «قال الطبيب انه مهما أجرينا من عمليات فإن ذراعي لن تعود مثل السابق. أنا تعودت أن أقوم بما يطلبه مني الاطباء. أشعر انني لست بحاجة الى عمليات تجميل. لقد تعودت على نفسي هكذا. وعمليات التجميل لا تغطي كل شيء بل تبقى الآثار ظاهرة».
إلى جانب تحسن جراحها، تبتسم فاطمة بفخر عند الحديث عن عامها الدراسي، فهي لم تتمكن من العودة قبل شهر شباط إلى صفها: «حاولت أن أدرس كثيرا وأعوض ما فاتني وكان الاساتذة يعيدون شرح الدروس ورفاقي يساعدونني، تظهر النتيجة الشهر المقبل لكني لست قلقة».
تتغير نبرة فاطمة إلى أخرى فيـــها بعض الغصة عندما يدور الحديث عن الوالد بعد مرور سنة على الحادثة: «أحزن أكثر ما أحزن على بابا، لا أسأله عن حاله على التلفون. فقط نمزح مع بعضنا».
قد يكون مفهوماً ان تتجنب فاطمة السؤال، فوالدها يكون قد أتم في التاسع من تموز ستة أشهر بعيداً عن عائلته. فقد تم نقله بعد دولة الامارات إلى ألمانيا حيث تمت إعادة بتر الساقين من تحت الركبة من أجل تركيب الاطراف.
يهاتف أحمد عائلته بشكل شبه أسبوعي، لكن ذلك لا يعوض غيابه، خصوصاً بالنسبة إلى زوجته التي تتولى متابعة كل أولادها وعلاجاتهم: «هــــم يحاولون ألا يتذكروا وأنا أحرص على ألا ينسوا. خصوصاً عندما تمر علي لحظات صعبة فلا أجد مناصاً من تذكيرهم بما حدث: لا يكفي الذي صار فينا.. انظروا الى أبيكم» وتتابع كمن تعاتب نفسها على جملة قالتها بلحظة غضب: «المصيبة ان لا أحد يحكي معه، لا أشكو همي إلا له، أنا غير قادرة أن أقول له على الهاتف ماذا يجري. كان أحمد يحمل العبء الكبير الذي كنت لا أشعر به. ولا أريد ان أزيد على حسرته، خصــــوصاً انه لم يكن يريد إعادة فتح الجرح والخوض في العمـــليات الجراحية من جديد. عنـــدما أعادوا البتر لم يلتئم الجرح بعد، خصوصاً انه يعاني الســكري».
تحرص الوالدة على ان تسجل شكرها لدولة الامارات التي تكفلت بعلاج عائلتها : «أشكر كل الشعب الاماراتي الطيب والحنون والكريم، وكل من زار المستشفى هناك وعاد أولادي».
بعد الحديث عن «هناك» لا تجد الوالدة مناصاً من المقارنة مع «هنا» أي لبنان: «قبل أيام ققط وصلتنا تعويضات الجرحى من مجلس الجنوب والهيئة العليا للإغاثة، بعد أن أتت منذ أشهر لجنة طبية كشفت على العائلة. أخذت بطاقات باسم أمي وفاطمة من مؤسسة الجرحى التابعة لحزب الله وهما يكملان العلاج الفيزيائي على أساسها، أما مكتب السيد حسن فضل الله فقدم لنا مساعدة مالية..». تصمت الوالدة قليلاً من دون أن تخفي إحساسها بالاهمال وغضبها من التجاهل الرسمي لمعاناة عائلتها «من دمر بيته واحترق أثاثه، يمكن التعويض عليه، لكن من خسر ساقيه، أخبروني، كيف يعوض عليه؟». بين مستشفيات وأطباء ومتابعات تكاد لا تنتهي، تبدو الوالدة منهكة تماماً، خصوصاً في ظل غياب الوالد المؤقت. ومع ذلك تنجح جملة فاطمة بتكريس ابتسامة لم تغب أصلاً عن ثغر أمها، فلوقع الجملة تأثير خاص: «السنة الماضية احتفلت بعيد ميلادي في المستشفى، السنة أكيد سأحتفل.. لكن في مكان آخر».
فاطمة اليوم (مصطفى جمال الدين)
تعليقات: