الأرقام الممنوعة عن الناس!

كيف تراكم الدين الى 60 مليار دولار؟
كيف تراكم الدين الى 60 مليار دولار؟


السلطة السياسية تخفيها في أدراجها... وتُعلن ما يتوافق مع مصالحها

عند الحديث عن الأرقام لا مجال للتفوّه بعبارة «يقدّر»، ولا بعبارة «حوالي» أو «نحو»، فالرقم رقم، وليس وجهة نظر، وهو بالتالي لا يحتمل التناقض... إلّا في لبنان، حيث يمنع اللبنانيون والصحافة ومعظم مراكز الأبحاث من الاطلاع على أرقام اقتصادية واجتماعية مصيرية، يمكن، إذا كشفت، أن تفضح عورات النظام السائد، لا بل أن تقضي عليه!

يصفونه بالـ«تابو» أو الممنوع، يوظّفونه وفق مصالحهم السياسية والطائفية والاقتصادية، يقفلون عليه في الأداج خوفاً من تسربه الى إحدى وسائل الإعلام أو الجمعيات أو الأفراد، ففي لبنان، البلد المجهّل عدد سكّانه ومساحته (وهما من بديهيات تحديد كيان الدولة أو الوطن)، الرقم ممنوع، محرّم الاطلاع عليه، فأحياناً يعدّونه مهدِّداً للسلم الأهلي، وأحياناً أخرى يفتعل ثورة اجتماعية، وفي معظم الأحيان يكشف عورات النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي المنحاز...

إذ إن أبرز الاقتصاديين وأصحاب شركات الدراسات في لبنان، يجزمون أن السلطة المسيطرة منذ عشرات السنين على مقاليد الحكم تجهد لإخفاء عدد من المؤشرات والأرقام المصيرية، وذلك وفق مصالحها الاقتصادية أو السياسية أو الاجتماعية الضيّقة. فما هي الأرقام التي يمنع اللبنانيون من الاطلاع عليها؟

قرم: لائحة وتطول

الأرقام التي يمنع اللبنانيون من الاطلاع عليها، وفق رئيس مركز الدراسات الاستراتيجية وزير المال السابق جورج قرم هي «لائحة وتطول»:

1_ إخفاء معدّلات النمو الحقيقية للاقتصاد، إذ إن هذه المعدّلات هي تقديرية دائماً، والواقع أن هناك قطاعات واسعة من الاقتصاد اللبناني في حالة تراجع متواصل بسبب سوء أداء النظام الاقتصادي اللبناني وعدم استغلال مواردنا الطبيعية والبشرية الاستغلال الأمثل، بل بالعكس، هناك باستمرار تبذير لمكانات لبنان الاقتصادية وميزاته التنافسية، مما يسبب هذا التدفق المتواصل من الهجرة خارج الوطن بحثاً عن لقمة العيش.

2_ نسبة التضخم هي مدار جدل متواصل بين النقابات والحكومة أو الأجهزة المكلّفة قياس غلاء المعيشة.

3_ غياب التحليلات الجدية بشأن النمو غير العقلاني للقطاع المصرفي ولأسعار العقارات، فالتحليل دائماً ما يعطي صورة وردية عن القطاع المصرفي والعقاري.

4_ غياب أي مؤشر جدي لأوجه الاستثمار في القطاعات المختلفة، سواء الاستثمار الداخلي أو الاستثمارات الآتية من الخارج.

5_ ليس في لبنان أي قياس للفروقات في الدخل بين المواطنين وتركز الثروات لدى فئات قليلة وأسبابه.

6_ لا أرقام حول توزيع العبء الضريبي على المواطنين أو تحليل ودراسات حول الإنفاق الحكومي مناطقياً وقطاعياً بنحو دقيق.

7 - مثال صارخ على المؤشرات المنقوصة: إحصاءات رخص البناء التي لا تعطي صورة كاملة عن القطاع لأن المؤشرين المهمين في هذا القطاع هما بداية البناء ونهايته تمهيداً لوضعه في السوق، وكلاهما غير معلن، ما يعطي صورة غير صحيحة عن واقع قطاع البناء في لبنان.

ويؤكد قرم أن الدراسات مكدّسة بالأطنان وتبقى في الأدراج لدى مجلس الإنماء والإعمار ووزارة التنمية الإدارية وفي الوزارات التقنية المختلفة. ويضيف أن تغييب الرقم هو سلاح من بين الأسلحة العديدة التي تحملها الفئة المستفيدة من سوء أداء الاقتصاد اللبناني، وفي غياب جهاز إحصائي متمكن هناك فراغ كبير تستغلّه الفئة التي تستفيد من مسار التنمية المشوهة التي يعيشها لبنان، أما المؤشرات الإحصائية المتوافرة والقليلة، فتتعلق جميعها بالقطاعات التقليدية ذات الربحية العالية مثل قطاع العقارات والمال والسياحة، والجميع يحلل المؤشرات البراقة نفسها في هذه القطاعات الثلاثة.

عدرة: ميثولوجيا الارقام

يشدّد رئيس شركة الدولية للمعلومات جواد عدرة، الذي يصدر المجلة الدورية «الشهرية» متضمنة صفحة تحت عنوان «وهم الأرقام»، على أن الحصول على رقم في لبنان غير مستحيل، لكنه مغيّب، لا بل إن العديد من المفكّرين والكتاب يخشون الرقم، وإذا وُجد فهو لا يحظى باهتمام الرأي العام، لأن المواطنين اللبنانيين يسعون وراء اصطفافاتهم، ليصبح الرقم الاقتصادي والاجتماعي بلا أي قيمة. فما هي الأرقام الممنوعة وفق عدرة؟

1_ حجم الدين العام المقدّر رسمياً بـ52،59 مليار دولار، لا يعكس حجم الدين الفعلي، ومن الممنوع إعلان الرقم الحقيقي للدين الذي يتجاوز 65 ملياراً، بما أن وزارات المال المتعاقبة لا تحتسب من ضمن الدين العديد من استحقاقات الدولة اللبنانية غير المدفوعة، ومنها استملاكات الأراضي، وقروض صناديق التنمية العربية، استحقاقات الضمان، استحقاقات المستشفيات...

ويشير عدرة إلى أن كلا الرقمين كارثيان، لكنهما لا يحظيان بأي مساءلة من الرأي العام، رغم أنهما وراء المأساة الاقتصادية للبنان، وعلّة تهجير أبناء اللبنانيين، ولا أحد يسأل عن سبب تراكم الدين، ولا أحد يقول: هل معقول أن 90 في المئة من الدين هو عبارة عن فوائد تدفع للمصارف؟ وإن سأل أحد فلا جواب.

2_ عدم إجراء أي إحصاء سكاني منذ عام 1932، ما يدل على قرار متعمّد لدى الممسكين بالسلطة في لبنان بعدم إعلان هذا الرقم.

3_ لا رقم دقيقاً لعدد المهاجرين، ما عزز الأوهام بأن عدد المهاجرين الى البرازيل هو 11 مليون لبناني، وهو رقم غير منطقي. ويلفت عدرة الى أن عدم إعلان الأرقام الدقيقة في العديد من المجالات يعزز الميثولوجيا اللبنانية، مما يؤدي الى بناء بلد قائم على الأوهام، فيما لبنان يحتاج الى الأرقام لبناء وطن على قاعدة صلبة. يضحك عدرة ويضيف: «الميثولوجيا وصلت حتى الى الشجر، إذ ثمة اقتناع أنّ شجر الأرز في لبنان عمره 6 آلاف سنة، فيما «أعتق» شجرة عمرها ألف عام!

حمدان: إنّها قضيّة مصالح

يقول رئيس مؤسسة البحوث والاستشارات كمال حمدان: إن الأرقام المغيّبة في لبنان والممنوع إعلانها تتصل بكل ما هو بعيد عن المصالح المباشرة للأطراف المسيطرة على السلطة، أو بالنظام السياسي والطائفي المتصل بشبكة المصالح الاقتصادية، والأرقام الممنوع إعلانها بحسب حمدان هي:

1_ عدد المقيمين اللبنانيين ممنوع إعلانه، وما يعلن هو تقديرات غير مؤكدة، وحين تصدر دراسات تتباين فيها أعداد المقيمين. ينسحب ذلك على التباين في تقدير حجم القوى العاملة، وحجم البطالة في لبنان، وهذا التباين يمكن أن يصل بين دراسة وأخرى الى الضعف.

2_ كل المؤشرات المتعلقة بتركز ودائع المصارف، ومؤشرات تركز المداخيل، ومن المسؤول عن المخالفات المالية والعقارية وتركزها.

3_ كل ما له علاقة بمصادر جباية الأموال العامة وتفاصيلها، ويعتقد حمدان بوجود عقبة كبيرة تستند إليها السلطة لعدم اعلان هذه الأرقام، هي السرية المصرفية التي لا تسمح بإيجاد ضابط لعملية جباية الأموال العامة، رغم أن العالم كله تجاوز مفهوم السرية المطبق في لبنان.

4_ كل ما له علاقة بموجودات الأوقاف الدينية وممتلكاتها، فهذه الأوقاف معفاة من الضرائب على الكثير من نشاطاتها، وهي «علبة مغلقة، وذلك انطلاقاً من أن كل ما يمسّ بالمصالح الاقتصادية للطوائف ممنوع، باستثناء ما تريد الأوقاف نشره من نصوص غير مفصلة ولا تقدم ولا تؤخر من حيث دلالاتها الاقتصادية».

5_ التصريح عن عدد العمال وجنسياتهم في المؤسسات الاقتصادية العاملة في لبنان، إذ إن درجة تجاوب المؤسسات الاقتصادية مع ملء أي استمارة ميدانية إحصائية حول هذا الموضوع تكاد تكون شبه معدومة، وذلك تعزيزاً لمبدأ التحايل على القوانين، إذ ثمة 800 ألف عامل في لبنان من المفترض أن يسجّلوا كلهم في الضمان، لكن نسبة المسجلين لا تتجاوز 60 في المئة.

ويؤكد حمدان أن الرقم موجود، لكنّه مغيّب، ويطل برأسه حيث تبرز مصالح، خصوصاً إذا كانت المصالح عائدة الى مراكز مسيطرة طائفياً أو طبقياً. مثلاً، سجلات النفوس إحصاءاتها ممسوكة لأنها مرتبطة بمصالح النظام الطائفي، والإحصاءات المصرفية حول الودائع والتسليفات ورؤوس أموال المصارف تتبع نظاماً متطوراً جداً لأنها مرتبطة بقطاع لديه انكشاف كبير على الخارج وأمام هيئات الرقابة ومرتبط بمصالح الفاعليات الاقتصادية كل حسب ما يملك.

شعبان: فقدان رقم... فقدان قطاع

يقول رئيس الجمعية اللبنانية الاقتصادية جاد شعبان إنه حين يفقد رقم ما حول قضية ما، فهذا يعني أنه يوجد قرار وتصميم من جهات معيّنة بعدم استخدام هذا الرقم، لا بل إن نظرة عامة إلى الارقام المتوافرة في لبنان تدلّنا بسرعة الى المطلوب أن نتحدث عنه. والممنوع تناوله، والأرقام الممنوع الاطلاع عليها بحسب شعبان هي:

1_ أرقام الناتج المحلي، إذ لا إحصاء صناعياً وزراعياً وخدماتياً حول النشاط الاقتصادي للشركات والقطاعات اللبنانية منذ أكثر من عشر سنين، وهو ما ينعكس على احتساب الناتج المحلي الإجمالي. ويشرح شعبان، أن احتساب الناتج المحلي في الدول يقوم على احتساب القيم المضافة في القطاعات، بحيث تُحصى أرقام الشركات والقطاعات العاملة، ويُجمع حجم نتاجها وميزانياتها بطريقة تعتمد سرية الإحصاء، وصولاً إلى تحديد القيم المضافة في القطاعات التي تكوّن الناتج المحلي. أما في لبنان فتُحتسب مصادر الدخل على المستوى الوطني، ما ينتج رقماً عن الناتج المحلي أقل ما يقال عنه إنه غير صحيح. أما السبب فهو وجود شركات لا تريد التصريح عن نفسها، وشركات متهربة من الضرائب والقانون ومدعومة من كبار المتنفعين.

2_ حجم الثروات في لبنان وتوزيع الدخل على الفئات الغنية جداً، ففي فرنسا والولايات المتحدة، وزارة المال والجهات المسؤولة عن تحصيل الضرائب لديها معلومات دقيقة عن حجم الثروات وطريقة توزّعها، وعلى أساس هذه الأرقام تُعدّ سياسات عادلة بشأن توزيع الضرائب ووجهتها.

3_ طبيعة الودائع الخارجية الواردة الى المصارف اللبنانية وطريقة صرفها في السوق اللبنانية، ومن خلال هذا التكتم، لا تعرف نسبة تبييض الاموال من هذه الودائع، وكيف تتركز.

4_ ميزانية مصرف لبنان، إذ ينقل شعبان عن الخبير الاقتصادي توفيق كسبار أن مصرف لبنان لا ينشر منذ عام 1995 ميزانيته الخاصة، أي حساب الخسارة والربح، ويشك في أن إخفاء هذه الارقام يعود الى أن المصرف المركزي يتكبد خسائر كبيرة في دعم سعر صرف الليرة، ولا يريد إعلان هذه الخسائر.

ويرى شعبان أن الرقم الإحصائي يمس ماهية السياسات الاقتصادية الاجتماعية، والمضحك أنه في لبنان لا تحديد لنوع السياسة لأن المتبع هو اللاسياسة. ويلفت الى أن الرقم يظهر أحياناً بعد ضغط الجهات الخارجية.

10452 كيلومتراً مربعاً

هذه هي مساحة لبنان المتداولة، إلا أن الرقم غير دقيق! إذ لا مساحة رسمية معلنة غير التي قالها بشير الجميل بعد انتخابه رئيساً للجمهورية، وهي: 10452 كلم2، بينما مساحة لبنان اعتماداً على خرائط الجيش هي 10215 كلم2 تقريباً، فيما يشير موقع CIA إلى أن مساحة لبنان الحقيقية هي 10400 كلم مربع!

الأرقام تفضح

يقول المدير التنفيذي لشركة آراء للبحوث والاستشارات طارق عمار إن الدراسة لا تسقط أفكاراً ولا تعتمد على دراسة الأحداث، إذ إن الأرقام تفضح الواقع المسيطر، الذي تسعى الأطراف المستفيدة من استمرار هذا الواقع الى إخفائه، تجميله أو تزويره. ويتحدث عمار عن مشكلة حقيقية تواجه عالم الإحصاء في لبنان، هي الارتباطات الحاصلة ما بين عدد من شركات الإحصاء والتيارات السياسية المسيطرة، حتى إن عدداً من شركات الإحصاء تنتظر الانتخابات لكي تعمل، وبالتالي تتأثر بمن يأتي إليها بالعمل، فيما أساس أي دراسة صحيحة هو وجود إحصاء عام، وهذا تابو، لكون الإحصاء العام هو مدخل الدراسات الفرعية التي تظهر الصورة الحقيقية للتركيبة الاقتصادية والاجتماعية اللبنانية.

تعليقات: