الهرمل ــ
إنه حيدر شمس (أبو عيسى) رجل في العقد السابع من عمره، لا تفارق الابتسامة محياه. سرّ أبو عيسى لا يكمن في ابتسامته الفضفاضة فحسب، بل في قوته ونشاطه وسرعة حركته أيضاً التي يستمدها من روحه وقلبه الفرحين دائماً والمستأنسين بالزوار و«السهّيرة» الذين لا يملّون الاستماع إلى فكاهاته ونوادره.
يقطن أبو عيسى (62 عاماً) في حي البيادر، ذلك الحي الشعبي الواقع في قلب مدينة الهرمل، وهو حي قديم لا يزال على حاله منذ سنين خلت، لولا بضعة جدران إسمنتية اجتاحت الطريق وشوّهت لوحة الأجداد التي رسموها بقشّ وطين.
الجلسة في دارة أبو عيسى مليئة بالذكريات وبمئات المغامرات التي رواها لزوّاره وطوتها الأيام فأفلت، وظلّ بطلها يتحدى مصارعاً عدد السنين وحساب الأيام.
الحق كل الحق لأبي عيسى في أن يقضي أوقاته في دارته، فكل ما فيها يشدّك إليها هرباً من الحداثة. سقف خشبي متماسك، وجدران بيضاء تعكس صفاء النيات والقلوب، والآلاف من عيدان الخيزران المستلقية على كتف صندوق «العدة» التي يستعملها في عمله. أما الزاوية الأخيرة من الغرفة فخصصها «الرجل» لحجاله السبعة.
يجول أبو عيسى يومياً في الطبيعة بحثاً عن الأعشاب والحشائش، يحضرها وليمة لطيوره التي تنتظرها بفارغ الصبر. واللافت أن الطيور حفظت صوت سكين أبو عيسى، فما أن يبدأ بتقطيع الأعشاب حتى تبدأ الحجال بالتغريد رغبة منها في العجلة.
يقضي«أبو عيسى»، منذ ثلاثين سنة، جزءاً لا بأس به من وقته في صناعة أقفاص الطيور بقضبان الخيزران، ويحفر ساعد رباباته الموسيقية التي يصنعها، متباهياً بأنه الوحيد الذي ما زال يعمل في صناعة هذه الأقفاص يدوياً في دارته تلك.
تعلم أبو عيسى صناعة الأقفاص بالصدفة عندما كان شاباً من رجل سخر منه عندما رآه يضع أول حجل يحمله بين قضيبين ويربطهما.
يضع أبو عيسى أغراضه أمامه، وهي عبارة عن عدد من قضبان الخيزران وقطعة خشب مستديرة يقطعها بيده، ومجموعة من المسامير الصغيرة ومثقب يدوي وقدح من الشاي «يعدل به دماغه» على حد قوله.
بعد أن يجهز العدة يشرع في صناعة القفص الذي يستغرق خمس ساعات من العمل، آملاً أن يبيعه بسعر جيد في سوق بعلبك حيث يسعى آخر كل شهر ليبيع ما أنتج من أقفاص. يُقبل الكثيرون عليه لاقتنائها، علماً بأنه يومياً ينهي صناعة قفص واحد، فهو يرى في ذلك متعته ومعيشته.
يقضي أبو عيسى بقية وقته في العزف على ربابته والإنشاد، فهو صاحب صوت جبلي شجي يردد العتابا والميجانا دوماً، ويأمل ألا تخونه ذاكرته في «الجمعات» ولا سيما وقت المبارزة، وخصوصاً أنه إضافة إلى صناعته للأقفاص والربابات، يتقن الصيد وصنع بنادق «الدك».
يحاول أبو عيسى في كل نادرة من نوادره أن يوصل إليك حكمة ما تعلّمها بالتجربة خلال فصول حياته التي يرغب روّاده قبل أولاده الستة في أن تطول وتطول. لكن ما لا يعرفه أبو عيسى أن الحجل هو من الطيور اللبنانية المهددة بالانقراض، وأن استمرار صيده وحجزه والاتجار به سوف يضع أبو عيسى أمام تحدٍّ اقتصادي.
تعليقات: